حديث الثلاثاء ” 44 ” : معاني المؤسسة … مفهوم الإدارة في بُعْدِها السياسي / د. بهجت سليمان
د . بهجت سليمان ( سورية ) الثلاثاء 16/4/2019 م …
1▪ تختلط في ”عمل” العالم المعاصر – و بخاصّة في الشّروط المتخلّفة و الأكثر تخلّفاً في هذا العالم – المفاهيم المتناقضة و المتنافرة ، و بخاصّة عندما تكون الحاجة إليها متوالدة باستمرار ، و ذلك كأن نكون ننظر في مدرسة أو أكاديميّة أو في أيّة مؤسّسة عامّة أخرى إداريّة أو خدماتيّة أو اقتصاديّة .
للتّراكم التّاريخيّ للتّجربة الواحدة ، لكن الواسعة ، قوائمُ مختلفة و متعدّدة و كثيرة من مُلزمات السّلوك ، و ذلك عندما تتعلّق التّجربة في الشّأن العامّ ، بأسباب وجودها و بشرعيّة حقوقها و واجباتها ، و بأغراضها و وسائلها و أدواتها ، أو أخيراً بدورها و موقعها و هدفها و غاياتها . و نسمّي مجموعة هذه المُتعلَّقات بسياسات المؤسّسة و مُسوّغات الوجود .
و لإبراز غاية هذه الدّراسة ، كما سيتبيّن من سياقها و نهايتها ، و بواسطة خروجها الضّروريّ على كلّ الأعراف و العادات و الممارسات و القواعد ، و على الكثير من القوانين الوضعيّة بالخصوص عينه ، إلى الدّرجة التي ربّما ستبدو صادمة للبعض و ثوريّة للبعض الآخر و عرضّية و مضيعة للكلام للبعض الثالث ، بل و ربّما مدعاة سخريّة عند البعض الأخير ..
فسوف نعمل على الملامسة الّدائمة للوقائع المباشرة و الوقائع المجرّدة ، بقدر ما يسمح أدب الحديث الإداريّ – السّياسيّ ، تنفيذاً لأخلاقيّات التّعامل مع الوثائق و الشّهادات و الأقوال و الأحاديث المستورة .. !
2▪ لقد تَجَاوَزْنَا مع الزّمن مفاهيم الإدارة أو بالأحرى سياسات الإدارة التي جاءت مع الأوائل و المُحدّثين من ( آدم سميث ) إلى ( سان سيمون ) إلى ( بنتام ) إلى ( وليم جيسس ) إلى ( جون ستيوارت مِل ) إلى ( بيكون ) إلى ( أوغست كِنتْ ) إلى ( شارل فورييه) إلى ( كارل ماركس ) إلى ( ماكس فيبر ) إلى ( جون مينارد كينز) ، و ربمّا ، أيضاً ، ( بيل غيتس ) ، نفسه ..
و ذلك حتّى إلى بعض النّظريّات الاقتصادّية و الإدارّية التي تدّعي ”المُعاصَرة” ، بالذّات ..
و لا نعني بهذا التّجاوز أنّنا قطعنا هذه المرحلة من الضّرورات المستمرّة ، و لكنّنا نرمي إلى القول بأنّ على كلّ معرفة معاصرة أن تنضاف إلى الفعل و االسّلوك في إطار خوض ”الممارسة” ( “البراكسيس” ، على ما عرّفناه على هذه الصّفحة ، مراراً ) لعلّ الإضافة إلى مفهوم ”سياسات الإدارة” يجعل منه مفهوماً إبداعيّاً لا تحدّه الظّروف المختلفة مهما كانت باردة أو حارقة .
هنا يظهر جليّاً دور الأفراد و المبادرات الفردّية المدعّمة بخبرة الأشخاص النّوعيّة التي تعرف طريقها إلى ”الممارسة” ، كإضافة محدّدة إلى التّقاليد .
3▪يجب أن نكون متّفقين ، في مختلف علومنا ، على أنّ رأس المال هو ما يجلب المال ، و على أنّ ”رأس المال” العملاق القادر على هذا الإنجاز إنّما هو في ملكيّة أشخاص محدّدين و معروفين في ”العالم” اليوم ، و لا نرى إمكانّية في تبديلهم أو استبدال غيرهم بهم ، و ذلك مهما كان الوصف الذي سيوجّه إلينا محمّلاً بالنّقد الصّادر عن غير متخصّصين .
و في هذه الدّعوة نحن نضمّنها فصلاً مستقلاً و استقلالّية حاسمة عن الأيديولوجّيات ، إذ أنّ أيديولوجيّة المال و العمل و إنتاج القيم و تراكمها ، تكمنان في شيء وحيد هو ”التَكنولوجيا” السّريعة القويّة و المعاصرة ..
لقد أسعفَتنا في هذه العبارة بالتّحديد دراسة موسّعة في كتاب غير معروف كثيراً لِ( هابرماس ) بعنوان : ( ”العلم و التَّقنيّة كأيديولوجيا” ) و الذي جاء كردّ على طروحات ( هربرت ماركوزه ) في جدال مع أطروحة هذا الأخير ( ”من أنّ القوّة المحرِّرَة للأيديولوجيا ؛ تحويل الأشياء إلى أدوات ؛ تنقلب إلى قيد على التّحرير ، و تحوّل الإنسان إلى أداة” ) .
و من الواضح في مقولة ( ماركوزه ) تلك النّبرة الماركسيّة المطبّقة تطبيقاً ميكانيكيّاً على مفهوم الاقتصاد السّياسيّ للسّياسات و الإدارات السّياسيّة و سياسات الإدارة ، في عصر مستقبل الحضارة الذي دخلناه بقّوة منذ بدايات الألفّية الثّالثة التي حلّت مبكّراً في أواخر القرن العشرين .
إنّ تدخّل الإنسان ، و أهواء العمل ، بثقافاته المتناقضة في ما بينها و المتناقضة مع ثقافات الآخرين ، في سياسات ”الإنتاج” و ”الإدارة” ، سوف يبقى العقبة الأساسّية في وجه أهداف ”المؤسسة” في البلدان المتخلّفة ”تَقنيّاً” و حضاريّاً ..
و لن يكون بإمكان الدّول الهامشيّة المعاصرة من احتلال موقع متقدّم بين أقرانها إلّا عن طريق تطوير ”التّكنولوجيا” إلى حدّها الأقصى الممكن و ”توطينها” ، بحيث تصبح ، هي ، الموّجه لسياسات الإنتاج و الإدارة في الدّول النّاشئة من جديد ، من جهة أنّ السّياسات العامّة للدّولة لا تتدخّل في سياسة الإدارة و الإنتاج ، إلّا من حيث أنّ هذه الأخيرة هي أحد تفاصيل الاستراتيجّية التّدخّليّة للدّولة ، في سياق التّوجيه و المراقبة و المحاسبة و الجزاء و الثّواب و العقاب . و هذا جزء من ”التّكنولوجيا” السّياسيّة نفسها و الذي ينبغي أن يخضع إلى مؤشّرات ثابتة في فلسفة الأداء .
و في موضوع سابق كنّا فصّلنا في الفرق بين ”حكومة السّياسة” و ”سياسة الحكومة” ، على ألّا تطغى الثّانية على الأولى ، و لا يمكن لذلك أن يتحقّق في ”التّنفيذ” ، ما لم تصبح ”التّكنولوجيا نفسها هي الأيديولوجيا التي تقود ”سياسة الحكومة” ، بدلاً من تغوّلات سياسات الإدارة و الإنتاج ، على أن يبقى الأمر في مرمى إشراف ”حكومة السّياسة” و أعني نظرة “الدّولة” إلى ذاتها في أدواتها المسخّرة لتحقيق سياستها العليا في ممارسة الحكم .
4▪ يقول ( هابرماس ) :
( “بطبيعة الحال يتوسط ديالكتيك العمل الذّات و الموضوع ، ليس في الطّريقة المماثلة ، كما هو الحال في ديالكتيك التّمثيل . في البداية لا نكون أمام إخضاع الطّبيعة ضمن الرّموز المنتجة ذاتيّاً ، و إنّما بالعكس إخضاع الذّات ضمن قوّة الطّبيعة الخارجيّة . يتطلّب العمل تعليق إرضاء الدوافع المباشرة ، و هو ينقل طاقات الإنجاز إلى الموضوع المنجز ضمن القوانين التي تخضع فيها الطّبيعة للذّات” ) .
[ يورغان هابرماس – العلم و التَّقنية كـ”إيديولوجيا” – ترجمة حسن صقر – منشورات الجمل – الطّبعة الأولى – كولونيا . ألمانيا – ٢٠٠٣م – ص(٢٣) ] .
و ( هابرماس ) هنا ، ينقل وجهة نظر ( هيجل ) على طريقته ، و لكنّه يورد لهيجل قولاً بديعاً حيث يقول ( هيجل ) : ( ” العمل هو التّحويل الدّنيويّ للذّات إلى شيء” ؛ و إنّ انشطار دافع الأنا الموجودة ”تحديداً : في مؤسّسة الأنا المختبِرة للواقع و في المتطلّبات الكابحة إنّما هو كذلك تحويل الذّات إلى موضوع” ) [ هيجل ؛ عن هابرماس – المصدر – ص(٢٣) ] .
و في إعادة صياغة أقوال ( هيجل ) التي يقرّظها ( هابرماس ) مستشهداً بها في ”نظريّته” ، يمكن أن نقول : في أثناء العمل و في مجرياته بتفاصيله المحسوبة و االطّارئة و تطوّراته غير المتوقّعة و لكنْ التي تفرض نفسها فرضاً على قواعد الالتزام ( البراكسيس ) و بعيداً عن ”التّمثيل” الذي يوحي بسلبيّة الموضوع ، موضوع العمل ، و ليس في ”المماثلة” التي تفترض ، وهماً ، تكافؤ التّبادل بين الذّات و الموضوع ..
فإنّنا لا نقوم في أثناء ذلك بإخضاع الطّبيعة كما قد تعوّدت الثّقافة الضّحلة أن تقول ، و إنّما ، على العكس ، فإنّ الذي يحصلُ هو إخضاع ” الذّات ” لقوى الطّبيعة و، أدوات العمل .
و في أثناء ذلك يجري تعليق و تأجيل أو إرجاء إرضاء ”الذّات” في دوافعها المباشرة و غير المباشرة ، و ذلك ليس من أجل إخضاع الطّبيعة أو إخضاع الموضوع للذّات ، و إنّما على عكي ذلك تماماً ، أي باعتبار “العمل” هو ”التّحويل الدّنيويّ للذّات إلى شيء” . و هذه مفارقة ما بعد حداثيّة لم يكن للحداثة أن تصلها مع مشاعرها الدّعيّة الكاذبة ، الرّقيقة .
5▪ و العبرة واضحة بجلاء في ما سبق ، و هي على خلاف ”الثّقافات” الإنسانوّية الرّقيقة الرّهيفة الحسّاسة(!) إذ تعكس إدارة التّكنولوجيا المعاصرة تبديلاً للمواقع الإنسانّية التي جاءت بها ثقافات ”الحداثة” ، و الانتقال من التّشيّع للإنسان ، ذلك التّشيّع الذي أثبت خواءه و تفاهات أدواته و مشاريعه و مغازيه ، إلى التّشيّع للموضوع المستهدف في عمليّة الإدارة بواسطة التّقنيّة المعاصرة ، التي تُحيّد الإنسان بقراراته العاطفّية المنغلقة على الذّات و تخليص التّطوّر من لعنة الإنسان التّعصّبيّة للدّوافع غير المرتقية إلى مستوى الموضوعيّة في الإنجاز .
إنّ انغلاق الذّات على معتقداتها الحداثيّة قد كلّف الإدارة و السّياسة المعاصرتين أثماناً من الوهم ، لا يمكن تخيّلها أو إحصاؤها أو تقديرها في نتائجها المدمّرة لقيم العمل ، بوصف هذه القيم جزءاً من الأخلاق الإدارّية و الأخلاق السّياسيّة ، اللتين يعنونان مبادئ السّلوك البشريّ المزيّف ، الذي ما يزال قادراً على الدّفاع عن نفسه ، على رغم المتغيّرات العمليّة و النّتائج التي تثبت انحرافه المنظّم في آليّات سرّيّة و علنيّة ، و لكنّها مباحة وفق التّقاليد المقبولة و المشكّلة لمبادئ العمل .
إنّ مستقبلاً تكون فيه التَّقنيّة ”أيديولوجيا” عامّة ، هُوَ مستقبل أشرف بمرّات عديدة من مستقبل تدّعي فيه ”الإنسانوّيات” المُجيَّرةُ تجييراً فئويّاً كاذباً ، لصالح قلّة من المستفيدين المتسلّطين طبقيّاً و سياسيّاً على رقاب الجماهير ، التي تؤلّههم بغباء و سذاجة على أنّهم مخلصوها من براثن التّخلّف و العوز و الحاجة ، بينما هم يبنون قصورهم الفارهة على الملأ التّاريخيّ ، مستهزئين بأحلام من رفعوهم إلى ذرى الاستغلال المجيد ، بواسطة غسيل يوميّ لأدمغة الشّعوب البلهاء ، التي يعوزها تاريخ من الفهم لتدركَ موقعها التّاريخيّ الحقير ، كخدم لأولئك الذين صنعت منهم أسيادها السّياسيين .
و أن تتحوّل ”الذّوات” إلى أشياء ، بالتْعميم على الجميع ، لهو أشرف بألف مرّة من ”شعارات” أكاذيب النّضال التي تحاول أن ”تمنع” تشييء ”الذّوات” بدوافع إنسانويّة منافقة ، أثبت التّاريخ تفاهة مقاصدها ، عندما يكون الأمر دائراً حول الفرز الاجتماعيّ الطّبقيّ و السّياسيّ في صفوف المجتمع ، الذي عاد منظراً ملوّناً بكلّ أشكال الطّيف المتباين في مخلوقات منفصلة ، في تراتبيّة جائرة في ما بينها انفصال الماء عن الزّيت وعن الحجارة الصّماء .
6▪ لا ينفصل الموقع الاجتماعيّ ، أو الموضع الاجتماعيّ ، عن ”الشّرف” و ”الحياة”بالمعنى الفعليّ و دونما التواءات فقهيّة مزيّفة تحرف الكلم عن مقاصده و مواضعه .
لقد كان لهيجل – ”صاحب القول” وفق تعبير ( جاك ديريدّا ) – رأي صريح بهذه المسألة . يقول ( هيجل ) : ( ”ليست فقط ملكيّتي أو حيازتي هي الموضوعة هنا و إنّما شخصي ، أو هذا كما لو أنّ في كينونتي تكمن كلّيّتي : الشّرف و الحياة” ) .
و بهذه العبارة يختم ( هابرماس ) شرحه لفكرة ( هيجل ) حول أنّ ”مقولة الرّوح الفعليّ تظهر التّفاعلات القائمة على التّبادل في شكل تواصل معياريّ حقوقيّاً ، بين أشخاص يتحدّد وضعهم بوصفه شخصيّة اعتباريّة قانونيّة من خلال مأسسة الاعتراف المتبادل” .
و يتابع ( هابرماس ) في التّهميش على ( هيجل ) : ( ”وحدَه هذا الاعتراف لا ينسحب مباشرة على هويّة الآَخر ، و إنّما على الأشياء التي تخضع لقدرته على التّحكّم” ) . و ( ”يكمن الواقع المؤسّساتيّ لهويّة الآَخر في أنّ الأفراد يعترفون كمالكين في حيازتهم المنتجة من خلال العمل و المكتسبة من خلال التّبادل” ) .
[ المصدر : ص( ٢٩- ٣٠ ) ] .
يتحدّد إطار الفكرة الأساسّية التي يدور حولها تحليل ( هابرماس ) للمبادئ ”الهيجليّة” للملكيّة و التّبادل و القيمة ، في مسافة واقعيّة محدودة جدّاً ، و يمكن ترجمتها بلغة أوضح بأنّه لس ثمّة اعتراف ضمنيّ للذّات بالذّات ، و لا كذلك اعتراف خارجيّ ، من قبل آخرين ، بهذه الذّات ، ما لم تكن ”الذّات” نفسها على مسافة علاقة مباشرة و واقعيّة و عمليّة واحدة ، من ”وقائع” محدّدة في ”المؤسّسة” ، كالملكيّة و الحيازة و الإنتاج و التّبادل و الاستئثار بالقيم ، قيم التّبادل و قيم الاستعمال ، تلك التي تحدّد ”عمليّاً” – و بعيداً عن التّخرّصات الأخلاقّية – ”كينونتي” التي فيها تكمن ”كلّيّتي” ، أي : ”شرفي وحياتي” على ما يذهب ( هيجل ) بجرأة واقعيّة ناسفة كلّ أذيّات المحفوظات الأخلاقّية التي أورَثَنَاها ”المجتمع” في دلالته الخرافّية الفارغة .
7▪ يعترض هذا الواقع تسييس ”المؤسّسة” ، عندما تتمكن فيها قوى ”خاصّة” احتكارها لصالح ”سياسات” مانعة و استئثاريّة ، في صيغة حكومة سياسيّة تسيطر على أفق البعد الإداريّ – العمليّ بتسييس مباشر لأعمال ”المؤسّسة” الاقتصادّية إو الإدارّية أو الخدميّة ، و هي الأشكال أو الأنماط الثّلاثة الحصرّية لأنواع المؤسّسة ذات الطّابع الاجتماعيّ المباشر .
و إذا كان من المفروغ منه أنّ البعد العمليّ لهذا النّمط المؤسّسيّ هو بُعْدٌ بطبيعته مُسيَّسٌ ، فإنّه يختلف ، في الطّبيعة و ليس في الدّرجة ، أن يكون التّسييس نابعاً من فلسفة إداريّة لصيقة بالتّنفيذ و تحقيق الأهداف الاجتماعّية للمؤسّسة ، عنه في ما إذا كان نابعاً من منطلقات سياسيّة و ذات أهداف سياسيّة أيضاً ، يكون فيها الهدف الاجتماعيّ محيّداً بفعل فاعلين ، تحقيقاً لأهداف سياسّية مبرمجة و منظّمة على قدود أهداف انقساميّة ، تستبعد من دائرتها الشّأن العام في مصالح فرديّة و شخصيّة و جماعيّة و فئويّة محدودة و محدّدة .
و يجري في أكثر من مكان في ”الدّولة” في (سورية) شخصنة ”المؤسّسة” في عمليّة ”تكعيب” عمليّ في إعطاء المؤسّسة بعداً عمليّاً محجّماً بنجاح مُسيّس ، من دون الالتفات إلى سياسات الإدارة أو المنشأة أو المؤسّسة ، الأصلّية ، تلك السّياسات المقنّنة أو المكتوبة أو العرفيّة أو المعروفة ، التي تدخل في صلب الأهداف الاجتماعّية للمؤسّسة .
و هنا نحن أمام استبعاد ، لأيّ تحوّل حضاريّ معاصر للذّاتيّة إلى الشّيئيّة ، و الذي هو الضّمان الوحيد لخلق قاعدة تكنولوجيّة ( أو تكنوقراطيّة ) ، انطلاقاً من غياب و تغييب الطّبقة ”البيروقراطيّة” الأصلّية الأولّية التي هي ، مقدّمة موضوعيّة لكلّ ”المخلوقات” التّقنيّة ، سواءٌ أكانت بشريّة أو آليّة في صيغة ما يُسمّى طبقة ”التّكنوقراط” . و هذه نكسة أو انتكاسة موضوعيّة و ذاتيّة لمستقبل الاجتماع و السّياسة العامّة في آن معاً .
8▪ و بالمقابل ، فإنّ ثمّة إمكانيّة حضاريّة لم يستوعبها مجتمعنا بعدُ ، بالتْنظير على البعد المركّب للسّياسة بوصفها ضامّة لجميع أشكال طموحات التّغيير ، و ذلك عندما نؤمن ، كجماعات اجتماعيّة و قوى واقعيّة ، بأنّ للدّولة بصفتها السّياسيّة – الاجتماعّية سياسات و أهداف سياسيّة و مختلفة ، تُضطرّ الدّولة إلى ممارستها ، موضوعيّاً ، و هي أهداف بطبيعتها مركّبة ..
و هو بالضّبط ما يسمح للدّخول في سياسات الإدارة التي تسلكها الدّولة على صعيد وجودها التّاريخيّ كدولة ، أو بالأحرى كمسوّغ إداريّ سياسيّ يفترضه تركيب سلوك الإدارة الذي يتجاوز في تعقيده و تركيبه و تنوّعه ، تجاوزاً ، بذاته ، بعده التّنظيميّ إلى محمولاته السّياسيّة التي يُتاح على أساسها ، و استغلالاً و استثماراً لها ، مادّة ضخمة من السّياسة يمكن دمج أغراضها و مزج مركَّباتها السّياسيّة بالمشاريع السّياسيّة للفاعلين في مستوى الإدارة ، التي يجوز و يمكن أن ُيعِّبر عنها ، كما هي تُعَبِّرُ عنه ، للغنى التّركيبيّ الذي يختزنه ”السّساسيّ” ، و بخاصّة في صورته ”الإدارّية” التي يعلنُ عنها في منظومة نظريّة و عمليّة ، على اعتبارها متوفّرة في المراجع و المصادر الشّرعيّة النّظريّة ، التي تنتظر القادة السّياسيين التّاريخيين ليكون بينهما اللقاء الحَدَث بالمفوم الاجتماعيّ – السّياسيّ – الواقعيّ و المرحليّ – و التّاريخيّ .
إنّ تسييسَ المؤسّسات و شخصنتها ، يحرمها من تطوّرها الطّبيعيّ الذي ينتظره المواطن جرّاء تزاكم خبرة العمليّة الإدارّية ، التي تتمتّع بتقاليد مسلكيّة تدخل فيها من باب ”البيروقراطيّة” و تنتهي بها في إطار ”التّكنوقراطيّة” ، التي تعمل على تجريد المؤسّشات الحكومية من شخصنتها كمزرعة مسوّرة لررسائها الإداريّين.
لقد وصل تطوّر الوظيفة العامّة في سورية على مستوى الإدارة إلى نقطة غير محتملةة و حالة همجيّة من الشّخصنة و تطويب المؤسّسة بإسم رئيسها الإداريّ و مجموعته من المعتاشين على الفتات الذي يسمح لهم به ، من أجل اكتمال أعضاء الزمرة الإدارّية الوظيفيّة التي تحرق من يحتجّ أو يعارض أو يحاول أن يسلك قيم الإدارة المسلكّية الأخلاقّية السّياسيّة ، في إطار واجبات الوظيفة المكتوبة في القوانين و الأنظمة الموضوعة في أرشيف ، التّرحيل إلى المستودعات المظلمة ..
هذا هو الواقع الإداريّ في ظلّ تسييس الإدارة و حرفها عن طبيعتها الموجودة لأجلها في ”مراسيم” الإحداث .
9▪ لا يرتبط في بلدنا واقع الإدارة و الإنتاج بمخاطر زيادة أو نقصان عدد السّكان ، كما هو مطروح اليومَ في الدّول المتقدّمة .
إنّ مشكلاتنا غريبة عن مشكلات كوكب الأرض ، فبينما ينشغل العالم بازدياد عدد السّكان و زيادة مخلّفات الإنتاج الضّارّة و تلوّث البيئة و مخاطر المناخ ..
ما زلنا نحن نرزح تحت تأليف و ابتكار الأساليب الأكثر مضمونّية و أماناً و احتيالاً على القوانين و إبداع طرائق الرّشوة والتربح و الهدر ، حتّى عاد الأمر اختصاصاً بذاته يمكن للمحترفين به تأليف المطوّلات الّلاأخلاقّية في قيادة المؤسّسات التي يديرونها ، نحو الدّمار الذي يحصدون وراءه مكاسبهم الماليّة ، التي تتناسب طرداً مع تخريبهم لقيم العمل و الأخلاق المسلكيّة الثّابتة في مؤلّفاتها المنسيّة ، تحت سمع وبصر جهات الرّقابة الشّاهدة على ما بجري ، مثل الهيئة المركزّية للرّقابة و التّفتيش و الجهاز المركريّ للرّقابة الماليّة ، ناهيك عن الأقسام الاقتصادّية و أقسام العمل المتراكمة والمتشابهة في إدارات الأمن المختلفة ، و التي لا تساهم بشيء يذكر في في إطار صناعة مستقبل الوطن و حياة أبنائه الشّرفاء ، إذا أردنا الإنصاف في أحكامنا الاجتماعّية و السّياسيّة و الأخلاقّية الرّاعية لقوانين منقرضة في أداء الفاعلين .
منذ عام ( 2010 ) تم رفع سنّ التّقاعد في معظم الدّول المتقدّمة إلى ( 75 ) عاماً ، و هو مرحلة أقصى النّضوج و العطاء ، فيما يجري عندنا ، تطفيش الأكفاء من الخبراء بالقيادة و الإدارة و القانون منذ سن الخمسين او أكثر بقليل ، بعد أن يصبحوا في مرحلة من الخبرة تمنع الأداءات المنحرفة في الرّشوة و التربح ، فتأتي الإدارات غير الكفوءة التي تشخصن العمل في المؤسّسات في المرفق العام ، ولتجلب ليأتوا معها مبتدئين وهواة في العمل لا يخالفونهم و لا يعرفوا كيف يخالفون قادتهم الإداريين ، من أجل تدجينهم في بوتقة الرّشوة و التربح في واقع اجتماعيّ وظيفيّ ، لا يضمن مستقبل السّكن و الطّعام و الشّراب إلّا بالانخراط في الزمر والمجاميع التي تكون قد أسّست لسياسات إداريّة أو بالأحرى لإدارات سياسّية ، تخطّت قرار الدّولة السّياسيّ في ما أسميناه سابقا ”حكومة السّياسة” بدلاً من سياسات الحكومة التي ينبغي أن تصبّ في سياسة الدّولة الأخيرة حالما يكون ، بالفعل ، ثّمة سياسة أو سياسات للدّولة ترْى فيها مصالح الأفراد الهامشيين الذين يشكّلون المجتمع بمعظمه في الوظيفة العامّة و في خارج الوظيفة العامّة على حد سواء .
10▪ لقد أثبتت دول متخلّفة في العالم مثل كوريا الجنوبيّة و تايلاند و ماليزيا منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، نجاخاتها في عمليّة تطوير الإنتاج و رفع معدّل النّمو و تحقيق سياسة عدالة اجتماعيّة في التّوزيع المتّسق لنتائج الإنتاج ، مع كفايات في الأسواق المحلّيّة و الاتّجاه نحو التّصدير الواسع الذي يؤمّن لها القطع الأحنبيّ الّلازم ، لتكون من أصحاب الاقتصادات المؤثّرة في محيطها و في العالم ..
فيما إدارات مؤسساتنا ماتزال ” تعبقر و تبدع ” في أساليب الالتفاف على الأنظمة و القوانين تحقيقاً لمصالح شخصيّة و فرديّة في السّياسة الإدارّية ، عندما يتوجّه القادة الإداريّون إلى تسييس الإدارة و الإنتاج لتحقيق مآرب و أهداف فردّية و أخرى ”جماعيّة” ، لا تشبه إلّا منطق عمل و أساليب ” التنظيمات” الدولية السرية.
ينفصل في العالم واقع الإنتاج المؤّسسيّ عن السّلعة المُنتجة ، بحيث نقف هناك على دورة حقيقيّة من رأس المال ، و هذا على عكس ما يحصل في معظم مؤسّسات بلدنا ، حيث لا ينفصل ”الإنتاج” أو الخدمة عن طموحات و أطماع الرّئيس الإداريّ للمنشأة ، لتصبح أهداف الإنتاج مفصّلة بالقدّ على الرّغبات الشّخصيّة و المُفَردنة لأشخاص متواضعي الفهم في سياسة الإدارة العامّة.
11▪ينقصنا كثيراً ما وصلت إليه الحال في الدّول المتقدّمة في سياسات الاقتصاد و الإنتاج و الّتسعير و التّوزيع و الاستهلاك ، و ذلك بسبب انعدام خبرة ”القادة” الإداريين الذين لا يعنيهم من جميع ذلك سوى تطوير مهاراتهم في مجال ابتداع أساليب الهيمنة والتربح ..
بينما بكون ”السّعر” في جميع أنحاء العالم مبنيٌّا على التّكلفة و بإسهام شَرطيّ حتّى من قبل الزّبون ، و هذا ما اتّبعه ( ماركس ) في تحليله في نقد قيمة البضاعة في قيمتها الاستعماليّة و قيمتها التّبادليّة في وقت واحد ، و أخذت بهذا المبدأ حتّى ( أميركا ) ، حيث يحقّ للزّبون أن يساوم في القيمة التي سيدفعها بتقرير ال”الكلفة” المسموح بها ، بدءاً بمرحلة التّصميم ..
وأما في بلادنا ، ُنقيم جميع علاقاتنا مع المؤسّسات و أصحاب الأعمال و رأس المال بموجب عقود إذعان ، يذعن فيه ”الزّبون” لصالح صاحب العمل أو ربّ العمل أو صاحب الخدمة ، هذا إن لم نطوّر هذا الوصف تطويراً بلاغيّاً يناسب الحالة و الظّرف الذي يجري فيه ”الاستثمار” بمصطلحات أكثر واقعيّة من قولنا ”عقود إذعان” ، سواء أكان هذا الاستثمار اقتصاديّاً أو كان سلعة أو كان عملاً حكوميّاً أيضاً .
[ انظر : فنّ الإدارة – بيتر ديركر – تعريب عبد الهادي الميداني – مكتبة العبيكان – الطبعة العربيّة الأولى – 2004 – ص( 180 ) ] .
12▪ تنشط مؤخّراً ، في العالم ، تحديدات أكثر دقّة و عقلانّية لمفهوم المؤسّسة و العمل و الإنتاج و السّلعة ، و العلاقات الاقتصادّية التي تنشأ في معرض هذه الوقائع المتجادلة ، و لا ينجو من ذلك حتّى المؤسّسات الحكوميّة الرّسميّة ، ذلك لأنّ الحفاظ على المجتمع بوصفه حفاظاً على الدّولة ، يتطلّب تنميّة و إنماء للقوى الشّرائيّة و المحافظة على المستهلك في وضع إيجابيّ ، يتمكن فيه من إقامة علاقات إنسانّية مع سوق العمل و سوق الاستهلاك في وقت واحد .
وصحيح أنّ ”الغرب” كدول متقدّمة قد استفادت من نظامها الكولونياليّ العالميّ في نهب الشعوب الأخرى ، لإقامة علاقات ”منطقيّة” مع المستهلكين ؛ غير أنّ هذا الأمر لا يمنع دولنا من النّظر إلى الزّبون أو المستهلك كإنسان ، هو ركن من أركان عمليّة الإنتاج ، من حيث هو مستهلك أو مستفيد من الخدمة ..
و هنا نصل من جديد إلى واقع المؤسّسات الحكوميّة الرّسميّة التي بدأت تتصرّف في بلادنا و كأنّها رب عمل خاص و صاحبة استثمار رأسماليّ شخصيّ ، بما تتصرّفه مع المواطنين بأشكال تحكّميّة يبدو فيها المواطن مذعناً لجميع خزعبلات ”الإدارة” التي تمارس و تتصرّف على أنّها قطاع خاصّ ، غابت عنه معايير المؤسّسات الحكوميّة غياباً إراديّاً ، يرجع إلى تسييس العمل المؤسّسيّ لخدمة أفراد أومجموعات معيّنة على الحصر .
إنّ البعد السّياسيّ للإدارة يجب ألّا يخرج من دائرة الإطار السّياسيّ العام لأهداف الدّولة و غاياتها الأخيرة في الحكم ، ذلك لأنّ المغزى النّهائيّ للمؤسّسة الحكوميّة ، على مختلف أنواعها الاقتصادّية و الإدارّية و الخدميّة ، يجب أن لا يخرج عن كونه إدارة للعلاقات الاجتماعّية الاقتصادّية و السّياسيّة التي تحدّدها الدّولة ، بوصفها مصدر السّياسات العامّة و محتكرة هذه السّياسات التي لا يجوز و لا يمكن تفويضها ، ناهيك عن أنّ ممارسات تسييس الإدارة إنّما تنشأ كيفيّاً و باجتهادات فرديّة و لأهداف شخصّية عائدة لأصحاب القرار الوسيط ، الذي عليه أن يكون قراراً تنفيذيّاً محضاً بعيداً عن الشّخصنة و الاستثمار الفرديّ الخاصّ .
و على هذا نكون قد حدّدنا خللاً تاريخيّاً في المؤسّسة العامّة في سورية ، هذا إذا كان وصفنا له بالخلل أقصى ما يسمح به الأسلوب الرّصين لوصف أوضاع ، تتجاوز كونها خللاً ، إلى كونها حاليا تدميرا منظّما لمستقبل التّنمية و تقدّم الدّولة و المجتمع ، في ظروف عالميّة ضاغطة بتحدّياتها التي تتنامى باستمرار .
التعليقات مغلقة.