من ملحمة الكادحين : رجال تسلحوا وقضوا نحبهم على لهيب الجمر الأحمر / مليح الكوكاني/الابوسناني

 

مليح الكوكاني/الابوسناني ( فلسطين ) الثلاثاء 18/8/2015 م …

كانت هدية العيد بالبريد المستعجل، هدية من نوع آخر تصلني مع بزوغ ذلك اليوم من الأيام التموزية التي يستوي فيها كوز الصبر والتين. هدية لا يتبادلها الناس فيما بينهم إلا نادرًا وذوي التفكير المتنور من أصحاب القلم والمواقف السياسية والوطنية، أولئك الموجوعين من غضب الدنيا والمجتمع والساعين في رحلة التغير الثوري. هدية مُرسلة مبعوثة من رفيق وصديق وأخ حميم مرموق وصاحب موقف أصيل وقلب ابيض كالثلج ومكافح عنيد وصلب، سلاحه تلمه السيال دون توقف، ابن الطيبة الأبية في المثلث، الذي عانق ويعانق الجليل والخليل في كافة مراحل النضال والكفاح والصمود والشموخ، التي خاضها ويخوضها الشيوعيين ما قبل الحاصل في سنة 1948 وبعدها ولغاية الآن، انه الأستاذ والكاتب المناضل الوطني عبد العزيز أبو إصبع، وهي عبارة عن كتاب لمؤلفه الكاتب الوطني سليم انقر بعنوان “ملحمة الكادحين” المنشور في سنة 1992 عن دار النشر “إبداع للنشر والتوزيع”، لصاحبها الأستاذ المهندس سليمان فحماوي أبو تامر من أم الفحم، العصية عن الانكسار أمام العنصرية والعنصريين لأنها معشر وعرين الثوار على مدى الأيام.

يتحدث الكاتب وينقل صورة ورواية بل روايات واقعية لأبناء هذا الوطن وعلى ارض الوطن، عن كوكبة خالدة ومرحلة مثيرة ومفصلية من الكفاح الشجاع والبطولي لشيوعي ووطني، تلك المرحلة من كفاح الجماهير العربية الباقية في وطنها، هذه الكوكبة تفشت على صفحات علمها معنى التضحية واعتبرت بحق ملحمة من ملاحم الصمود الصعب، لكن المتواصل لكوكبة حمراء خالدة مكونة من خمسة عشرة مناضلا شيوعيًا ووطنيًا أصيلا، وهبوا جُل وقتهم وحياتهم ومضوا سائرين على الجمر الأحمر دفاعًا عن جماهير المثلث والطيبة خاصة في أصعب وأحلك الظروف وأشدها خطورة، عندما شقوا مع غيرهم الطريق الوعر الذي صار عليها غيرهم، ووصفوه وعبدوه بأغلى التضحيات التي كادت ان تصل لمرحلة الاستشهاد وسط الفقر والجوع وضيق الحال، دفاعًا عن صحة الطريق وسط السير على الجمر الملتهب والنضال في سبيل أفضل وأسمى المبادئ والقيم الإنسانية، وفي سبل الحرية وقيم العدالة الاجتماعية والديمقراطية والعيش الكريم.

لقد أدرك أبطال النضال والكفاح، في مأثرة وملحمة الكادحين في المثلث الصامد في خمسينيات القرن المنصرم، عندما كانوا قلة قليلة من الشيوعيين والوطنيين والناصريين المخلصين، انهم لم يخنعوا لإرهاب وبطش ونفي واضطهاد وتمييز سلطة بن غوريون ولا للحركة الصهيونية، في فترة ما بعد النكبة وتشريد القسم الأكبر من الشعب الفلسطيني عن وطنه، وان تسوية مئات القرى الفلسطينية العامرة في المثلث والجليل والكرمل والنقب بالأرض، قد زادت هذه المجموعة على الصمود والثبات والوقوف في وجه الظالم مهما اشتدت أيدي الظالم والظالمين، كان على هذه المجموعة الثورية ان تشق الطريق الوعر وان تتحدى إرهاب وبوليس بن غوريون وأنظمة الحكم العسكري، وان تقف مع الشعب والمظلومين في وجه الظالم. لذا كان واجب المجموعة الثورية تثبيت الأقدام على من تبقى في الوطن، وفتح صفحة جديدة في سلم الكفاح المر والمرير مع سلطة الاضطهاد والتمييز الجديدة، وان تتصارع معًا من اجل المحافظة على وجودها وبقائها المهدد في كل لحظة ولتحصيل حقوقها من خلال معركة الحقوق الوطنية والقومية التي بدأتها قبل سبعة وستون عامًا ولم تنتهِ لغاية الآن.

**

تألفت كوكبة النضال والكادحين، التي يتحدث عنها الكاتب والكتاب، من خمسة عشرة شخصية شيوعية ووطنية صلبة يتقدمهم كل من طيبي الذكر – عثمان أبو راس، محمد أبو إصبع، محمد حبيب، محمد الزيب، الشاعر محمود الدسوقي، صالح برانسي، عبد الحميد أبو عيطة، مصطفى شريم، إبراهيم حمدان، شاكر حمدان، محمد حسين، أبو سليم المصري، عبد الكريم أبو راس، عبد العزيز أبو إصبع وأبو عماد البلعوم، فيما تحولت الطيبة وما حولها مركزًا للنضال والتصدي لسياسة الاضطهاد والحكم العسكري، كونها إحدى كبرى المدن العربية في المثلث، ذات مركز تجاري إلى جانب تبوئها كمهد لحركة الشغيلة والكفاح الطبقي والقومي في تلك الحقبة من الصراع مع سياسة الاضطهاد والتمييز القومي.

ولهذا غدت قرية/مدينة الطيبة كمنشأ أولي لكفاح الشيوعي في تأسيس نواة الحزب الأولية، حيث اشغل الرفاق والمناضلين المذكورين شعلة الكفاح التي امتدت في السنوات اللاحقة إلى مجمل قرى المثلث الجنوبي والشمالي، الطيبة في جنوب المثلث وأم الفحم عرين الثوار في شماله، كأهم مركزين لتطور أدوات الكفاح العمالي وتكوين الوعي الطبقي والسياسي وانتشار قيم الكفاح وثقافة النضال على مجمل جماهير المثلث وقرى الساحل وبقية الوطن المغتصب.

الحقيقة ان كتاب ملحمة الكادحين، بحسه النضالي المقاوم وشخصياته الفذة يروي بالشهادة الحية ويجمع ويلملم ويربط التفاصيل ويروي الأحداث ويعبر بالكلمات والممارسات الكفاحية ويسلط الأضواء على مجمل ذلك الجزء الآخر والعزيز من وطننا الغالي، لينقل للناس والقراء صورة  بسيطة ومصغرة عن عذابات الناس والمواطنين ومعاناتهم اليومية مع نظام الحكم العسكري البغيض، ويعطي للصورة إطارها الصحيح والمتكامل. ان من رحم المعاناة والفقر والقلة والتشرد والجوع، تخرج الأفكار الإنسانية والكفاحية لضرورة تغير الواقع التعيس، على أساس وحدة كل المغلوبين والمظلومين والمكافحين، وضرورة تجسيد الوحدة للنضال، وان الكف تستطيع ان تلاطم المخرز، فالشيوعيين والوطنيين الأحرار، وهذه المجموعة الرائدة المتجانسة في الفكر والهدف والنضال، سواء كانوا شيوعيين وقوميين أحرار، ان تتبوأ قيادة المسيرة الكفاحية لجماهير المثلث وأهالي الطيبة خاصة، والسير وبسط حقول الألغام ومخاطر الشوك ان تنقل جماهيرنا في المثلث من حالة الظلم والاضطهاد والخوف من بطش السلطة والحكم العسكري، إلى حالة تثبيت الأقدام والوقوف على ضرورة نيل الحقوق وعدم التفريط بالهوية الوطنية، بل رفع لواء الكفاح اليومي في تحشيد الأهالي وجماهير المثلث عامة، نحو فجر جديد وبداية مرحلة أكثر نموًا وتطورًا ووعيًا على صعيد الكفاح الوطني اليومي لجماهيرنا العربية ولعموم شعبنا الفلسطيني، فكان نثر ونمو بذرة الشيوعية والصمود الأسطوري لهؤلاء الشيوعيين والوطنيين الثوريين، قد ضربت عميقًا في ارض المثلث الصامد، لتعانق أخواتها على طريق الكفاح في إفشال مخطط الحركة الصهيونية من اقتلاعنا من وطننا، فانتشرنا فوق التربة السمراء في ناصرة كفاح توفيق زياد وسليم القاسم، لتتجاوب معنا بالإشادة الكفاحية، مناطق الجليل في البطوف وعكا وشفاعمرو، لتعلق أم الفحم وجوارها.

**

ان الكفاح واجب على جميع المظلومين والمضطهدين أينما كانوا وفي مختلف السبل المتاحة أمامهم، اهتز الكرمل وحيفا من صوت الجماهير حين تحركت تعبر عن رفضها للمؤامرة ضد فلسطين الشعب والأرض والوطن، فكان صوت توفيق طوبي وإميل توما وإميل حبيبي وكافة الشيوعيين الأوائل مجلجلا، صوتًا كفاحيًا وهامة عالية في سماء المنطقة تهتف ان السلام لا يمكن ان يتحقق إلا من خلال البوابة الفلسطينية، تحقيق المطالب اليومية والقومية والوطنية وعودة كل من ترحل وتشرد عن وطنية عام 1948 للعودة إلى أرضه وبيته ووطنه الذي لا وطن له سواه.

يعتبر الكتاب بحد ذاته وثيقة هامة، تضاف لوثائق الشيوعيين في خندق الكفاح الوطني وسجل حافل ومشرف وغني على أساس الخبرة والتجربة المكتسبة التي أمست هي المفتاح لكفاح الجماهير العربية، بقيادة أبنائهم الشيوعيين والوطنيين المخلصين وتفانيهم في الدفاع عن البقية الباقية من الشعب الفلسطيني، في مجابهة السياسة الصهيونية والحكومية وفي إفشال المؤامرات لنيل وحدة وسلامة وكفاح هذه الجماهير، فالشيوعيين وغيرهم وفي المثلث بالذات كانوا أول من سعى لتنظيم الناس والدفاع عن قضاياها اليومية في العمل والعلم وحرية التعبير والتنقل ورفض الحكم العسكري، وكافة الإجراءات الحكومية التي حاولت وتحاول تدجين المواطنين العرب، من خلال قطع جذوره الوطنية والقومية والفلسطينية والعروبة عن بقية الشعب الفلسطيني والشعوب العربية عامة.

والكتاب المذكور “ملحمة الكادحين” يكشف للجماهير عامة وأهالي المثلث والطيبة خاصة، عن مدى التهاف الشيوعيين بقضايا الناس اليومية والحياتية إلى حد الاستمالة والاستبسال في الدفاع عنها في وجه سياسة السلطة والحكم العسكري البغيض.

شيوعيو المثلث من الرعيل الأول، وهذه الكوكبة الطيبة من خيرة المناضلين والوطنيين الأحرار ممن أضاءوا الليل والطريق بسيرتهم ومسيرتهم الخالدة، وقد ضربوا جذورًا عميقة في التضحية والفداء والصمود الخالد. كانوا أسطورة وإيقونة قل مثيلها في تلك الفترة الحالكة من الظلام من عمر النضال والتاريخ الصعب وقد تحولوا على مر الأيام إلى ملحمة والهام في أحاديث الناس، وقد علموا بقية الجماهير معنى الصمود والنضال الذي لا يقهر. لان عزيمة الثوار أقوى من بطش الجلاد، وان صمود المناضلين في سبيل الحرية والمستقبل المنظور يبقى مهم في دفع الباقين على السير في تلم وخندق الكفاح، لأنه لا يوجد طريق آخر سوى هذا الطريق، الذي يضمن انتزاع الحرية والكرامة، أو الموت والفداء من اجلها وفي سبيل حياة أفضل لكافة جماهير الشعب.

شيوعيو المثلث وكافة الوطنيين والثوريين مع شيوعيي الجليل وحيفا وعكا والناصرة، ومن قلب تل أبيب وسخنين وعرابة وكافة مناطق الانتشار الحمراء في هذه البلاد يهودًا وعربًا، ومع الاقتراب من الذكرى المئوية لتأسيس ونشر الفكر الشيوعي المتنور والأصيل في هذه البلاد، اليوم وقد أمسوا أكثر فهمًا ووعيًا وتصميمًا وإدراكًا على ان الصمود على هذه الأرض الطيبة التي ارتوت بدماء مئات آلاف الشهداء، وان العبرة من ذلك ان الوطن يعيش فينا اكثر من نعيش فيه، وغدت الارض والوطن مصدر الهام لحياتنا وتحركنا، كي تعيش، يستحق منا كل هذه الشهادة وهذه التضحيات الغالية.

لقد عرفنا مؤلف الكتاب “ملحمة الكادحين” بصورة أكثر شمولية بسيرة حياة كل مناضل وكل شخصية من شخصياته الخمسة عشرة، وكل شخصية تستحق الوقوف عندها لإجراء التدقيق والدراسة والتحليل لمكانتها المتعددة وقدرتها على الصمود والمواجهة برغم الصعاب والبطش والإرهاب السلطوي في بداية سنوات الخمسين من القرن المنصرم، فكل شخصية تحدث مدرسة وتحولت إلى زاد وزوادة بنفس النضال والصمود وصياغة الهدف، والطريق في قيادة الجماهير التي استوطن الوطن في داخلها،  وتعلم فن إدارة الصراع مع السلطة وكيفية الوقوف في وجه الظالم. ففي حالات الاعتقال والسجن والنفي إلى شمال الوطن في قرى بيت جن وترشيحا وعين الأسد وعكا وغيرها ولفترات تطول أو تقصر، كان الشيوعي والوطني الأصيل من عمالقة الكفاح وزمن النضال الذي مضى، يعود إلى بلده وبيته أكثر وعيًا وتحزبًا للشيوعية ولطريقه وطريق الحزب وأفكاره ومبادئه التي وهب حياته من اجلها، رغم الملاحقة والضغط والحصار والمنع ونظام التصاريح العتيق البالي. هذا الأمر كان يترك أثره الايجابي والوطني على مجموع الأفراد في العائلة الزوجة والأبناء أولا ومن ثم الجيران والحي وبقية الحمولة.

تحية إكبار وإجلال لجميع هؤلاء، إخوة الكفاح ولكل من مضى على هذا الطريق من شيوعيين ووطنيين وقوميين.

تحية لكافة الشيوعيين وأصدقائهم، الذين لم ينكسوا علم الكفاح المشرع في يوم من الأيام.

وتحية للأجيال التي شبت على الارتواء من بئر النضال رافعة الراية الحمراء تهتف أبدًا على هذا الطريق.

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.