ماركس بالصيني / عبدالرزاق دحنون

عبدالرزاق دحنون ( الجمعة ) 3/5/2019 م … 

نقلت إذاعة “مونت كارلو” الدولية على موقعها الالكتروني أن الحزب الشيوعي الصيني يختبر طريقة جديدة لاستقطاب الشباب من خلال إنتاجه مسلسلاً للصور المتحركة عن ماركس بمناسبة الذكرى المئتين لولادة هذا الفيلسوف وعالم الاقتصاد الألماني المشهور. يحمل مسلسل الرسوم المتحركة عنواناً عريضاً “الزعيم” ويهدف إلى جعل شخصية ماركس أكثر حيويَّة و جاذبيَّة وعصريَّة لجيل الشباب في الصين و الذين غالباً ما يتعرَّف هذا الشباب على الفيلسوف الألماني عبر الكتب والحصص الدراسية في المدارس الحكومية.




1
يجاذب نفسي, دوماً, شعور غريب, فيما أنا أفكر في ذلك الارث العظيم الذي تركه ماركس والذي لا يموت, فلابد أن تجد كل صباح زهوراً طازجة على قبره في مقبرة هايغيت بالعاصمة الإنجليزية لندن. وتصادف كتاباً جديداً عن فكره في المكتبات. لقد قدَّم للبشرية تلك الهبة العظيمة, تلك الفلسفة الحيَّة المُتدفقة الثائرة التي تؤكد بأن الفلاسفة قدموا تفسيراً جيداً للعالم الذي نعيش فيه, ولكن سعي ماركس كان لتغير هذا العالم. كانت مهمته أصعب وأعقد من مهمة الفلاسفة السابقين لأنه جاء وقد تسلط رأس المال على العمال, ووسع شعور الاغتراب بين العامل وما ينتجه, فكانت صرخته المدوية في بيان الحزب الشيوعي “يا عمال العالم اتحدوا” والتي ما زال صداها يتردد في شوارع وساحات مدن العالم بعد قرنين على ولادة ماركس.
2
قررت الحكومة الألمانية في عام 1849 بعد شهور على صدور “بيان الحزب الشيوعي” أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع ماركس طرده خارج البلاد, فما كان من ماركس غير أن طبع العدد الأخير من الجريدة “الرينانية الجديدة” التي يرأس تحريرها بالحبر الأحمر من باب التحدي، وفيه أعلن المحررون أن كلمتهم الأخيرة في كل مكان وعلى الدوام ستكون تحرير الطبقة العاملة. وبجوقة موسيقية وراية حمراء خرج ماركس ورفاقه الصحفيون من المبنى، ومن هناك هرب ماركس الى باريس، ومن ثم الى لندن، حيث قضى بقية حياته منفياً.
3
أعتقد أن ماركس لو كان معنا اليوم لأعجبه ما يقدَّمه أهل الصين من اهتمام بفلسفته وشخصه, فهم أهل حضارة و ثقافة ومعارف, و أكسب شعب على وجه الأرض, يكسب رزقه بالكدح والسعي وعرق الجبين, ويُنتج كل ما يخطر على بال, ويطعم النفوس التي تجاوز تعدادها المليار والأربع مائة مليون نسمة. ومن المتوقع أن تصبح الصين سيدة هذا العالم بحضارتها المثقفة التي عنيت بالمعرفة الفلسفية والفكر المنظم وأنتجت فلاسفة عظاماً ومدارس فلسفية كبرى, كما أنتجت علوماً وصناعات, والصين أم المخترعات التي قامت عليها النهضة الحديثة. وأعتقد من وجهة نظري أن أهل الصين يستحقون هذه السيادة وهم قادرون وسيصلون إليها, لأنهم يعيشون تراثهم الحي دون انقطاع. ويستمر ماضي الصين العريق في حاضرها المتجدد في سيرورة دائمة التطور والارتقاء. وإن تحقق هذا الأمل في الخمسين سنة القادمة سيغير وجه العالم من خلال انتشار قيم حضارة مثقفة حكيمة. وسيكون هذا بديلاً ناجحاً عن حداثة رعاة البقر وحكم ساستهم الذين ينفردون بفرض سلطتهم على أهل الأرض. وبهذا يتحقق حلم “ماو تسي تونغ” الذي سجله في إحدى قصائده الجميلة عندما حلق بالطائرة للمرة الأولى فوق الصين. كتب يقول: عندما يكون مصير الصين بأيدي أهلها, ستشرق الشمس الساطعة من الشرق, تضيء كل وجه الأرض تنظف كل بقايا الحكم الماضي.
4
يتكلم أهل الصين على العموم لغة تنتمي إلى عائلة اللغات الصينية التبتية تتألف من مقاطع قصيرة تدل على المعنى بنفسها أو تتحد مع غيرها لإيجاد صيغ من المعاني جديدة. وهي تركيبة خاصة لا تقبل التصريف بتاتاً. إذن كيف يكتب الصينيون الأسماء الأجنبية؟ لو أرادنا مثلاً كتابة اسم كارل ماركس بالصينية ليلفظ كما هو في الأصل لما وجدنا المقاطع التي تصلح لذلك ولابد بالتالي من تقطيع الاسم وقد اختزلوه فراراً من التطويل إلى (ما – كو- سا) مكتفين باللقب دون الاسم. وقد ذكر العلامة البغدادي هادي العلوي-الذي عمل مدرساً للغة العربية في جامعة بكين- أن بعض الصينيين لما سمعوا بالاسم الذي يبدأ بالمقطع (ما) ونظروا إلى صورة ماركس تصوروه النبي محمد. وصاروا يسمونه بما يعني محمد الكث اللحية. وهذا لأن (ما) هو أيضاً المقطع الأول من اسم النبي محمد عندهم. وصورة ماركس بوجهه الأسمر المدور ولحيته الضخمة تشبه إلى حد ما صورة أحد الحكماء العرب. ولا ننسى أن ماركس يعود في “أصل العائلة” إلى أرومة شرقية واضحة أكدها علم الأنساب الجيني.
5
يبدأ التلاميذ في الصين بتعلم النظرية الماركسية-اللينينية في المدرسة التكميلية، فيما موظفو الدولة والصحافيون في وسائل الإعلام الرسمية ملزمون بمتابعة دروس في هذه النظرية من أجل الحصول على ترقية. وقد حثَّ الرئيس الصيني أعضاء الحزب الشيوعي الصيني على قراءة الكلاسيكيات الماركسية باعتبارها نمطاً من أنماط الحياة العصرية. تقول “زو سينا” لوكالة “فرانس برس” وهي إحدى المشاركات في كتابة سيناريو المسلسل:
ثمة الكثير من الأعمال الأدبية حول ماركس لكن لا يأتي الكثير منها على نسق مقبول من الشباب. وتضيف : أردنا أن نملأ هذه الثغرة. نأمل أن يسمح ذلك بالمزيد من الفهم الإيجابي لماركس وسيرته.
وأتى بدء عرض مسلسل الرسوم المتحركة “الزعيم” في وقت يعزز الحزب الشيوعي الصيني فيه مفاهيمه الأيديولوجية خصوصاً في المدارس وحرم الجامعات. والحزب بالمجمل ما يزال وفياً لمسيرة “ماو تسي تونغ” مؤسس الأيديولوجية الماركسية الصينية داحضاً التناقض الذي يُشاع بينها وبين نمط الاقتصاد الصيني مُدرجاً هذا التناقض الظاهري في إطار الانتقال إلى اشتراكية بنكهة صينية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.