أنا من الَّذِينَ يحاربونَ الانحلال الأخلاقيَ / باسل الرفايعة
باسل الرفايعة ( الأردن ) الجمعة 21/8/2015 م …
“إنَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..”.
كثيراً ما ذكَّرني معلّقون بهذه الآية، رداً على مقالاتٍ، أو پوستاتٍ، وبعضهم أرسلها إلى بريدي، بلغةٍ قاسية، أو بتهذيبٍ من باب النصيحة.
المقالُ الذي نشرتهُ هنا عن التنّورةِ القصيرةِ في دلالاتها اللغوية والثقافية في تموز (يوليو) الماضي، استدعى كثيراً من الاتهامات بأنني أريدُ أنْ تشيعَ الفاحشة. جاءتني اتصالات هاتفيّة ورسائلُ غاضبةٌ وشاتمةٌ، ومثل ذلك ما كتبتهُ عن حجاب الصغيرات، وعن البيرة، وعن مهرجان جرش، وسواه.
قطعاً، أنا من الَّذِينَ يحاربونَ الانحلالََ الأخلاقيَ في المجتمع، ولا “أحبُّ أنْ تشيعَ الفاحشة”. لا أحبُّ أنْ ينحلَّ النَّاسُ، لا أحبُّ أنْ يسرقوا، ويخونوا الأمانات، ويضطهدوا النساء والأطفال، ويُفسدوا في الأرض. على إنني لا أرى الانحلالَ في امرأةٍ ترتدي فستاناً جميلاً، ولا في رجلٍ يُحبُّ بيرةَ الصيف، ولا في بناتٍ وأولادٍ يرقصونَ مع نانسي عجرم في مهرجان جرش.
أرفضُ الاستقواءَ بالدِّين لفرضِ أسلوبِ حياة المتدينين على حياتي. ولا أفرضُ فهمي على أحد. أكتبُ صوتي على صفحتي الشخصية، في السياسة، وفي الثقافة. عن الطغاة والشهداء. عن الفلافل والطماطم والبيرة وزيت الزيتون.. وسعدون جابر. سأكتبُ عن روبي قريباً، أنا أحبُّ صوتها وثيابها وجمالها..مثلاً.
عوضاً عن الشراسةِ ضدّ رجلٍ يكتبُ على صفحته، بقوانينِ التواصلِ الاجتماعيّ، وبأجنحتهِ، وبضجرهِ، يُتيحُ لَكَ الفيسبوك بحريةٍ وافرةٍ خياراتٍ متعددة: الحذف. عدم المتابعة. البلوك..
أُعيدُ لكم التنورةَ القصيرةَ، لمنْ فاتتهُ “الفاحشة”..
طبعا. تستطيعُ “تنوّرةٌ قصيرةٌ” أنْ تُسبّبَ ارتباكاً مرورياً على تقاطع فِراس في جبل الحسين العمّانيّ. حذارِ من أنها قد تؤدي إلى احتكاك بين السيّارات، فبعضُ السائقين فقدَ السيطرة. الأهم أنّ بوسعِ التنورة منعَ المطر أيضاً عن بلاد العرب، ولا تستطيعُ أقصرُ التنوّرات في هولندا مثلاً حبْسَ الأمطار التي تهدرُ طوال العام، وتأتي إلينا بالأزهار والحمضيّات والبهجة.
هذا مشهدٌ قريبٌ في جبل الحسين. صديقي وأنا شاهدناه، وسمعنا كلاماً معتاداً وبدائياً من رجلٍ، تساءل: “كيف سيمطرُ الله علينا”. عبرت المرأةُ بتنورتها الأنيقة، والتفّت الرقابُ حتى كادت تتكسر، وثمة تحرشات لفظية سمجة، وقليلة ذوق.
هذه وقائعُ ثرثرة مع صديقي على قهوة في المنطقة في ضوء ما حدث. وفي اللغة، وفينا كذكورٍ وبشر. قال انه يحبُّ جمعَ “تنورة” على “تنورات” وَلَيْسَ على “تنانير”. جمعُ المؤنّث السالم وأخواتُهُ أحقُّ بالاتباع والنظر من جمعِ التكسير. أضاف: حسبنا كل هذه الكسور في اللغة وأهلها، وهذا التكسير لأجل الصورة وإطارها.
تذكٌرتُ مساق النحو الوظيفيّ في جامعة اليرموك. الجمعُ الذي ينتهي بـ”آت” يُدعى جمع الأطفال. إسألهمْ: ما جمعُ زيدٍ، وعسلٍ، ودفترٍ، سيجيبونك، بفصاحة فطرية: زيدات، وعسلات، ودفترات، وتالياً: تنّورات. انه جمعٌ سعيد، يفتح له الأطفال أفواههم، ويُطلقون حناجرهم، ويُطلقون النارَ على سيبويه كذلك.
الثرثرةُ بيننا ليست في النحو. إِنْها في اللغة، في إيقاعها، أو في الصورة الذهنية للمفردة، وفي دلالاتها الدينية والثقافية.
في أميركا واوروبا والعالم الجديد الذي لا يرى في المرأة محضَ عورةٍ، تستوجبُ الاخفاءَ والتعتيم، بحجة السَّتر والتقديس، فإن أمرَ التنّورة كلّها، ليس شأناً، يتدخّلُ فيه الرجالُ من تغلبٍ وربيعة وقريش. شأن الأزياء عموماً، متروكٌ لأحوالِ الطقس، وللمصممين ومزاجهم الفنيّ، وجنونهم، ولشركات النسيج ودور الموضة، فقد تكون التنّوراتُ طويلاتٍ هذا الموسم، احتفاءً بالنساء الشاهقات “خالاتُ نخلِ السماء” نساءُ محمود درويش، وليسَ أكثر أناقة من تنورة بذيلِ طاووس، وبكعبٍ عالٍ، تقطعُ فيه المرأةُ جسراً من الضوء، تحتَ غامرٍ من العيون والتصفيق. أو قد تبدو التنّورة حاسمةً على الرُكبتين، على رغوةِ الصابون فيهما، وعلى توازن الحشمة والثقة، كما ترتدي الموظفاتُ ومضيفاتُ الطائرات والفنادق، والمعلماتُ، والنساءُ المتمكّناتُ من الصبا والأمومة والدور. ماذا في ساقي امرأةٍ نعرفها، لنرفعَ لها الحاجبين، ونرجمها بالظنون والاشتباه. ساقان لامرأة عابرة، أو زميلة، وصديقة، وسواهنّ.
تلكَ قطعُ قماش. القميصُ بالأكمام، أو منزوعة عنه، الجلبابُ والعباءات للمحجبات. التنّورات القصيرات. وايضاً ثياب البحر لغيرهن. كلها محضُ قماشٍ غير مؤهلٍ لبثّ رسائل في الأخلاق، أو إصدار الأحكام والعقوبات.
على أنك رجلٌ. كُنْ رجلاً بما يكفي، وارفعْ عيونك عن أطوال التنّورات، أتركْ لمن تحبُّ وتحترمُ منهنّ جلوساً مريحاً، في المقعد والسيارة، وعند التفاف الساقين. تعلّمْ أنْ ترى المرأةَ في العيون، واليدين، وفي اللغة، وهي تسردُ حظك كاملاً، لمجرد أن تجادلكَ في شؤون عامة، بعضها عن سيارات الأجرة، وازدحام المرور، وغلاء الأسعار، وبعضها عن عدد ملاعق السكر في فنجان الشاي. آيًّاك ان تلتقطك حاسّة المرأة، وأنت تختلسُ بطرف عين، وتراها مجرد ساقين، تنحسرُ عنهما تنّورة.
على أنّ لكلٍّ ما يرى: حجباً وكشفاً. فتلك من طبائع الثقافات والحَميّات، أو من ً”طبائع الاستبداد”، وأعراض الأمراض . هذا في ما يرى الذكور. فماذا ترى النساءُ في بلادنا؟ وهل تحقّ لهنّ الرؤية كاملة، كجمعِ مؤنثٍ سالم؟ أم يحقُّ للرجال، دُونَ أسود الغابة، وذكور النحل، أن يروا المرأة من طول تنورتها، أو مشيتها، كما تشاءُ لهم نزعاتُ الملوك في ما يملكون، أو في ما ملكتْ أيمانهم؟
اللغة، سيّدة الإناث، ولها كاحلان وركبتان، وتنّوراتٌ واسعاتٌ كسماوات. اللغة العربية، على خلاف أبنائها الذين “يغضّون الابصار” لا تساوي بين جمع مذكّرٍ سالم، وجمعِ مؤنّث سالم. تمنحُ النساء استثناءً وايقاعاً طفوليّاً في الجمع، ونوناً مشددةً او ساكنة، بِغنّة فيها دلعٌ رقيق.
الله لن يمنعَ المطرَ عن الانسان والحيوان والشجر، ولنْ يُنزلَ غضبه علينا لأجل “تنوراتٍ قصيرات”..
التعليقات مغلقة.