تعيش فِلسطين المحتلة في الوقت الرّاهن ضجّةً كُبرى، ليس احتفالًا بالانتصار الكبير الذي حقّقته المُقاومة الفِلسطينيّة وصواريخها في بثّ الرّعب في صُفوف المُستوطنين المُحتلّين، ودفعت بمِئات الآلاف منهم للهُروب إلى الشّمال والملاجِئ بحثًا عن الأمان، وإنّما بإعلان “وزارة” التربية والتعليم في السّلطة الفِلسطينيّة عن طبع وتوزيع كتاب يتضمّن السّيرة الذاتيّة للرئيس محمود عبّاس ومُقتطفات من أقواله وكتبه يحمل عنوان “رئيسنا قدوتنا” في حفلٍ كبيرٍ كان من أبرز نُجومه مروان عورتاني، وزير التعليم، وصائب عريقات، كبير المُفاوضين وأمين سر منظمة التحرير وعضو اللجنة المركزيّة لحركة “فتح” (نعتذر إذا كنّا قد غفلنا عن إلقابٍ أخرى)، وأخيرًا السيد عزام الأحمد، عضو اللجنة المركزيّة في حركة “فتح”.
كُنّا، والكثيرون غيرنا، نتوقّع أن يصدر الرئيس عبّاس وقد اقترب من مُنتصف الثّمانيات من عُمره، كتابًا يتضمّن “مُراجعات” صادقة وأمينة يعترف فيها بأخطائه، وأسباب فشل اجتِهاداته ونظريّاته التي أوصلت الشعب الفِلسطيني إلى هذه النتيجة المأساويّة، التي أقرّها بنفسه أكثر من مرّة، وأبرزها أنّ السّلطة بلا سُلطة، وأنّه لا يستطيع أن يتحرّك دون مُوافقة سُلطات الاحتلال وأخذ إذنها مُسبقًا، ويكون هذا الكتاب ذُخرًا ومدرسةً للأجيال الحاليّة والقادمة، ولكنّه لم يفعل، أو أرادوه أن لا يفعل، وخرج علينا نفرٌ من بطانته بالكُتيّب المذكور الذي “يُمجّده” على طريقة الطّغاة، ويتحدّث عن “إنجازاته” في وقتٍ يقف فيه الشعب الفِلسطيني على أعتاب “صفقة القرن” التي تُريد تصفية القضيّة الفِلسطينيّة، وقطعت عمليّة تطبيقها نِصف الطّريق بضم القدس، وتكريس فصل الضفّة عن القِطاع، وإلغاء صفة الاحتلال عن الضفّة والقِطاع، وخصم مُخصّصات الشّهداء والأسرى من عوائِد الضرائب، والنّصف الباقي إقامة إسرائيل الكُبرى التوراتيّة.
مشاكل الرئيس عبّاس كثيرة، وينوء عن حملِها الجِبال، ولكن أبرزها في رأينا وجود مجموعة تُحيط به من “القادة” غارقة في النّفاق والكذب، وتُزيّن له الانهيار، وتزور الحقائق، وتُخدّره بالمديح والإطراء، وترُش على الموت سكّر، مثلما يقول المثل الفِلسطيني.
نعرف الرئيس عبّاس جيّدًا، وكانَ بسيطًا مُتواضعًا يبتعد عن الأضواء، ويكره النّفاق والمُنافقين، ولكن يبدو أنّ السلطة وجوقه البِطانة السيّئة كان لها مفعول السّحر، وإن كُنّا لا نُعفيه من المسؤوليّة عن كُل ما يرتكبه هؤلاء.
حتى اختيار العُنوان “قدوتنا رئيسنا” يعكِس الجهل والنّفاق وانعدام المسؤوليّة، وتعمّد الإساءة للرئيس عبّاس قبل الإساءة للشعب الفِلسطيني، ووضعه في قائمة الطّغاة، وهو المُحاصر في مكتبه في المُقاطعة، ويُتابع من نافذته التغوّل الاستيطاني، والإهانات المُتواصلة لشعبه في المعابر، والتغوّلات المُتكرّرة لقوّات الاحتلال لاعتقال المُقاومين أو قتلهم.
كيف يكون الرئيس قدوةً للأجيال المُقبلة وهو الذي كان يعتبر التّنسيق الأمني مُقدّسًا، ويعترف بالمآسي التي ألحقها اتّفاق أوسلو الذي هندسه بالقضيّة الفِلسطينيّة، وانهيار كُل رهاناته ومُفاوضاته على إقامة دولة فِلسطينيّة مُستقلّة على أقل من 20 بالمِئة من التّراب الفِلسطيني؟
ما هو مطلوب من الرئيس عباس ليس أن يُبارك صُدور كتبًا باسمه تُمجّده وإنجازاته وأقواله، وإنّما تنفيذ وعوده وتهديداته بسحب الاعتراف بالدولة الإسرائيليّة، ووقف التّنسيق الأمني وحل السّلطة، وربّما يُفيد تذكير الدكتور عريقات الذي كان من أبرز المُحتفلين بإصدار هذا الكُتيّب بما قاله بعد عودته من الولايات المتحدة سليمًا مُعافى بعد آجرائه عمليّة نقل رئة، من أن الرئيس الفعلي لهذه السلطة هو بنيامين نِتنياهو، ورئيس وزرائها الفِعلي هو الحاخام مردخاي، مُنسّق شُؤون الاحتلال في الضفّة الغربيّة، وكان هذا التّوصيف هو أصدق ما قاله في حياته السياسيّة.
ربّما يعتبر الكثيرون في حركة “فتح” الحركة الفِلسطينيّة الرائدة التي قادت المشروع الوطنيّ وقدّمت آلاف الشّهداء والجرحى والأسرى في مسيرتها النضاليّة التي تمتد لأكثر من أربعين عامًا، ربّما يعتبرون الرئيس عبّاس قدوتهم ومُلهمهم، ولكنّنا في هذه الصحيفة “رأي اليوم” لا نعتبره كذلك، ونختم هذه الافتتاحيّة بمُناشدة بعض المُنافقين الكف عن الرّياء والمُداهنة، وخِداع الرجل وتضليله، وتشويه ما تبقّى من أيّامٍ أو أشهُرٍ من شيخوخته.
لو كُنّا مكان الرئيس عبّاس، ولن نكون، لأصدرنا أمرًا بمُعاقبة وزير التربية والتعليم، وكُل الذين شاركوا سواء بإصدار هذا الكُتيّب أو الاحتِفال به.
التعليقات مغلقة.