الاردن: أرض بلا شعب! / د. عادل يعقوب الشمايله
قد يكون الاردن فريداً، في أن لا أحد من ساكنيه، يتواضعُ فينتسبُ إليه. أقولُ ساكنيه، لأنه لم يسبق وأن نشأ كيانٌ اردني بالمعنى القانوني والسياسي والجغرافي قبل عام 1921. وحتى بعد نشؤ الكيان السياسي بذلك التاريخ، يُصرُ سكان الاردن الحاليون، من كافة الاصول والمنابع والمنابت والاثافي، والمذاهب، على أن لا يَكونوا شعباً، وعلى أن لا يُكوّنوا شعبا يسمى الشعب الاردني.
في كافة مناسبات التعارف بين الافراد في الاردن، يُركزُ الشخص على إسم عشيرته أكثر من إسمه وإسم والده. حيثُ يُمثلُ إسمُ العشيرة العنوان والهوية. واذا كنت فقير المعرفة بخارطة وتاريخ العشائر وسألته من أي منطقه أنت؟ سيسرد عليك أُصول عشيرته وأمجادها، وأنهم قدموا من الجزيرة العربية، أو من سوريا أو مصر أو العراق أو القفقاس أو الشيشان أو كردستان أو أرمينيا وحتى من ليبيا ومن المغرب، مُحددا المكان بكل ثقة كأنه غادره هو البارحه. وسَيُسهبُ مُبينا الوقت الذي حضر فيه جده الاول الفاتح. واذا ما راجعنا الكتب التي لملمت تواريخ العشائر الاردنية، نجد أن ليس هناك عشيرة تنتمي أصلا الى تراب الاردن. بل إن الرواة يتفاخرون بأن اجدادهم قدموا الى الاردن من مكان ما. ورغم أن أبعد تواريخ تشريف جد العشيرة الى الاردن لا يتجاوز الثلاثمائة عام، إلا أنها أبعد ما تكون عن الحقيقة لعدم وجود ما يُثبتها رسميا، ولأنها تعتمد النقل الشفهي غير الموثق والأعتزاز العشائري المبالغ. من يقرأ تلك الكتب يحتار، من كان في الاردن إذاً، قبل هذه التواريخ وهل كانت جغرافيا الاردن خاوية، أم أن كانوا يبادون أولا بأول، مرة بحرب نووية ومرة بطوفان كطوفان نوح ومرات بأوبئة ساحقة ماحقة.
عُمرُ عمانَ هو عُمرُ الكيان السياسي، أي الدولة الاردنية والذي بدأ عام ١٩٢1. ومع ذلك لا يقبل الناس جواب أحد إذا قال أنا من عمان. المهم ما قبل عمان. من أين جئت ومتى جئت، والى أي من الصحابة ينتسب جد العشيرة؟ عمان لا تصلح كهوية وكمسقط رأس في نظر سكان الاردن، بل يجب العودة الى مسقط رأس الجد. حتى الحراكات الاحتجاجية التي يُفترض أنها تُعبرُ عن علاقة المواطنين السياسية الدستورية مع حكومتهم، نجدها في الاردن مُختلفه. فهناك حراك ذيبان لقبيلة الحمايده، وحراك قبيلة بني حسن، وحراك الكرك، وحراك مزار الكرك، وحراك قبيلة بني عباد، وحراك قبيلة بني صخر.. وهكذا. حراكات قبلية والمطالب في جوهرها قبلية وإن زُخرفت بشعارات ومطالب عامة. الهوية الثانية مناطقية: البلقاء، الكرك ، شمال، طفيله..
الوحيدونَ المُتمسكونَ بإنتمائهم الى جغرافيا الاردن هُم الرومان، حيثُ تشهدُ أثار حضارتهم المُنتشرةُ في معظم أنحاء الاردن: قلاعا ومُدرجات وسدوداً وقنوات وزيتون”على مقدار إرتباطهم وحبهم للمكان”. تلك الاثار بقيت صامدةً مُتحديةً كل عوامل الهدم والفناء التي تمتاز بها الثقافة العربية، وفوق ذلك لم تبخل تلك الاثار الحضارية الرومانية على الاردن بالعطاء، حيث أنها المقصد الرئيس للسياح، ومفتاح محافظهم المليئة بالعملات الصعبة. الفئة الاخرى التي تُصرُ على إرتباطها بالاردن هم اليهود الصهاينه. ودليل ذلك أنهم يتلقفون أي قطعة أثرية يكتشفها الباحثون عن الدفائن تحت الارض، فيشترونها منهم بأي سعر، لإثبات الوجود اليهودي التاريخي وصلتهم بالارض الاردنية، وبالتالي حقهم الأصيل فيها، لأن أجدادهم اليهود الذين جاءوا حسب الاساطير بقيادة النبي موسى، مكثوا في الاردن قبل أن يدخلوا الارض الواقعة غربي النهر التي وعد الله بها إبراهيم وابناءه، واكد ذلك الوعد لموسى، الذي أمره بغزوها وأخذها من أهلها الكنعانين عنوة، وإلا باء قومه بغضبه وشديد عقابه في الدنيا والاخرة.
ماذا على الاردن أن يفعل حتى يُعترفَ به على أنه “على الاقل مشروع وطن” لكل من هاجر اليه عبر مئات السنين واحتمى بحماه وعاش على خيراته؟ بدو الصحراء المتنقلين بحثا عن الماء والمرعى هُمُ الوحيدون الذين لا يعنيهم المكان، بل يعنيهم “ما في المكان”. وطنهم مُؤقتٌ، لا حدود له ولا عنوان. ورغم أن مُعظم سكان الاردن لم يعودوا بدواً بالتعريف اللغوي والمواصفات الشكلية، لكنهم يثابرون على تخيل مساكنهم سواءاً كان المسكن غرفتين من الطوب، أو قصرا في احسن مواقع عمان، على أنه خيمةٌ من الشعر وفي ساحته تنوخ الابل وتثغي الشياه، وفي قلب كل واحد خارطة الوهم التي تمثل الوطن الحقيقي. هذا الشعور بعدم الانتماء وعدم الإلتصاق بالارض، يجعلُ الشخص مسكونا بهاجس أن يكون مستعدا لهدم الخيمة وطيها في أي لحظة إستعداداً للرحيل.
عندما يُسبُ الاردنُ أو الحكومة الاردنية، لا ينبري للدفاع عنهما أحدٌ حتى لا يُتهم بأنه إقليمي، أو أنه يعترف بمخرجات سايكس بيكو أو أنه يقبل بما بعد الخلافة العثمانية. أما إذا أُنتقدت تركيا اردوغان أو الخلافة الملكية العثمانية التي دمرت الجنس العربي وكادت أن تُفنيهِ وجوداً بعد أن أفنتهُ ثقافة وعلما وابداعا، وبعد أن تخلت عنه للقوى الاستعمارية الايطالية والفرنسية والانجليزية في كامل افريقيا بدءا من مصر وسواحل الخليج العربي، إنبرى من هب ودب من مهوسي الاسلام السياسي للدفاع عنها وعن اردوغان بنفس القدر الذي يدافعون به عن مكة المكرمة وعن الصحابة. خادعين أنفسهم، أن لو ظلت الخلافة العثمانية لما نشأت اسرائيل. كما قلت تركيا الخلافة تخلت عن مصر وليبيا وتونس والجزائر والخليج العربي ولم تستطع حمايتها، هل كان بمقدورها والحالة هذه، أن تحمي فلسطين؟ أكثرُ من نصف الشعب التركي لا يؤيدون اردوغان وحزبه، لكن 99.99 % من العرب وخاصة الاردنيين يعشقونه لدرجة التقديس، ولا ينسون وهم يمدحون تركيا اردوغان أن يسبوا الاردن وينتقصوا منه. الاتراك يحبون وطنهم بغض النظر عن موقفهم من اردوغان وحزبه، وكذلك المواطنون في معظم بقاع الارض. المصريون والسوريون واللبنانيون يُحبون وطنهم ويشكلون شعوبا رغم كل ما يسخطون منه في وطنهم.
أنا لست من المؤمنين بأن الوطن مقدسٌ بحد ذاته، على خلاف ما يظنُ البعض. قيمةُ الوطنِ في نظري ونظر العقلاء، تعتمدُ على معادلة: ما يقدمهُ الشعب والحكومة للوطن، وبالمقابل ما يعطيه الوطن للشعب. ولذلك يقول الله في القرآن : ” فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الارض. قال ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها؟”. في الاردن، قلةٌ هم المستعدون لتقديم ما يطلبه الوطن، والغالبية تريد لبن العصافير من الوطن، ولإن فاقد الشيء لا يعطيه، تتعاظم الشكوى، ويتعاظم النكران، ولا أحد من المتذمرين ومن غير المنتمين يُهاجر الى ارض الله الواسعة. الخلاصة: ولأن الاردن “مأكول ومنكور” أقترحُ على كافة سكان الاردن أن يستغلوا بقية شهر رمضان وخاصة ليلة القدر، فيبيتوا إستخارة: هل حان وقت الانتماء الى الاردن؟ هل حان وقت أن أكون جزءاً من الشعب الاردني؟ هل الانتماء الى الشعب الاردني يُخرج الانسانَ من دينه ومذهبه، أو يتعارض مع إنتمائاته الاخرى؟ لعل الشعب الاردني “اذا كانت دلائل الاستخارات إيجابية” يولد في يوم أرجو أن لا يكون بعيدا بعيدا.
التعليقات مغلقة.