قراءة في المجموعة القصصية المعنونة ” لاعبة النرد” ، للقاصة المغربية المبدعة خديجة عماري / د. موسى الحسيني
د.موسى الحسيني ( السبت ) 1/6/2019 م …
غير متاكد بالضبط اذا كنا قد تعارفنا عام 2012 او 2013 ،وجدت نفسي امام عقل منظم يشكل ارهاصا واعدا بمستقبل مميز لكاتبة تحمل هموم مجتمعها على راسها ، منظوراً له من خلال الشريحة الانثوية . حتى اني رشحتها عام 2014 و2015 لان تكون واحدة من بين الوجوه التي تمثل الوجه الاخر للمراة المغربية من جيل الشباب ، في الملتقى الذي تحملت شخصيا كل اعبائه المادية والتنظيمية في لندن من اجل الدفاع عن سمعة وكرامة المراة العربية المغربية ، احقاقاً للحق اولا ، ووفاءً لما شهدته من كرم الاخلاق عند المغربي رجلاً او امراة ، يساء فهم كرمه بعيون مريضة او مغطاة بغشاء الجهل ، والدونية تتقبل القمع من انظمة تسوقه كالخروف وتمسخ رجولته فراح يبحث عن هذه الرجولة المفقودة في ازقة العوز والفقر في احياء المدن العربية . في عملية خداع للذات ، تجرح اللاشعور فيه . ما يمتلكه من مال وليس الرجولة هو ما مكنه من ان يمتلك هذا الجسد او ذاك . يدرك هذه الصراعات دون ان يتمثلها ، فهو لم يقنع برجولته او مواقفه تلك الرخيصة التي بذلت له جسدها . الا ان ظروف ما تسببت في عدم مشاركة الاستاذة خديجة في تلك الندوات . ( ساتكلم بموضوع مستقل عن لقاءات لندن هذه ) . خجلت منها في حينه في اني لم افي بوعدي لها بالمشاركة ، فتعمدت التهرب ، ثم كانت ظروفي وانشغالاتي سببا اخر . كما انها انشغلت على ما يبد في الاعداد لرسالة الماجستير فقل او انخفض تواصلنا كثيراً . لااتذكر الان بالضبط من البادئ في عودة تواصلنا المكثف قبل حوالي الشهرين . عندما ارسلت لي مجموعتيها ( لاعبة النرد ) والاخرى ( فوتوغرافية ) ، فكرت ان اعوض تقصيري الاول بالكتابة عن واحد من مجموعتيها ( ان كانت تستحق ) و (ان) هذه شرطية مربوطة بتوفر الجودة . ما ان بدات اقرء مجموعتها لاعبة النرد بدافع اولي محكوم بالمجاملة والتعويض عن تقصير . حتى سقطت ضرورة ( ان ) هذه ، انبعث صوت فيَ ، نعم انها تستحق بدون شروط . تخلصت بذلك من الزامية الكتابة مجاملة .في الليلتين الاولين قرات جميع القصص بنهم وشوق ومتعة بجمالية اعمالها الفنية هذه . تركتها ليومين بسبب انشغالات خاصة ، عدت لها ليلة امس وما قبلها لأقرئها ثانية بتروي وتمهل . فوجدت ان متعة القراءة الثانية لاتقل بمقدار ما تبعثه في النفس من راحة وانسجام عن متعة القراءة الاولى ، مع اني كنت اعرف او اتذكر النهايات وبعض مسارات الاحداث .
رغم انها ( الكاتبة) بررت في مقدمتها الاسباب التي دفعتها لعنونة المجموعة ( لاعبة النرد ) بقولها : “لم يكن نساء مستقلات كن محكومات بالتبعية ، لكنهن كن قادرات على التمرد وجعل انفسهن لاعبات النرد وليس قطعة ” . ولو كنت قد اطلعت على المجموعة قبل الطبع لأقترحت عليها ان تعنون المجموعة بنفس عنوان المجموعة الاخرى ( فوتوغرافية -1 – او البوم – 1) . ففي كل تفاصيل المجموعة تصورتها تلك الصحفية او الباحثة الاجتماعية التي تحمل كاميرتها وتهرول في كل شوارع مدن المغرب بحثاً عن لقطة مؤثرة هنا واخرى هناك لهذا المشهد المميز ، الذي تصوره احيانا من زوايا مختلفة لتقدمه للقارئ حدثاً مجسم قابل للرؤيا من ابعاده المختلفة . بأسلوب يمكن وصفه بالاناقة في التعبير بعفوية بعيدا عن لغة السرد المفتعل .بليغ عندما تعني البلاغة ايصال المعنى المطلوب باقصر الكلمات .واضح انها تكتب ليس بدافع استعراض قدرتها الادبية والبلاغية ، او تحقيقاً لرغبة لاشعورية لاكتساب الشهرة السريعة والاضواء المبهرة . انها تكتب بلغة المصلح الاجتماعي صاحب رسالة يريد من خلالها تجسيد ابعاد مشكلات المراة العربية ، والمغربية كنموذج .
لاتقدم احداث او روايات مفتعلة معزولة عن الواقع المعاش، بل لغة المصلح الاجتماعي الهادفة الى جلب انتباه القارئ للمظالم التي تعيشها المراة الشرقية المحاصرة بين طبيعتها البشرية والعادات والقيم الاجتماعية وما تعيشه من حرمانات تصل الى حد الفقر والعوز لما يمكن ان يطمئن حاجات الانسان الضرورية لمواجهة متطلبات تفرضها الطبيعة البشرية للاستمرار في الحياة اليومية . في عالم يزدان بكل مظاهر التزويق المشوق . ففي كل صورة او قطعة ( كما يحلو للكاتبة تبويبها ) تؤشر لتداخل العوامل الاجتماعية والنزعات الفردية ، التي تفاعلت مع المعاييروالقيم المجتمعية عن مفهوم الشرف ، تلك تشاركت لدفع بعض بطلاتها لأن تعيش حالة من الصراعات الداخلية العميقة من تلك التي يسببها انجراح النرجسية، وتحطم الايمان ، التي تُجرد الانسان من قدرته للدفاع عن كرامته ، بالطريقة التي وصفها المفكر المتمرد على مدرسة التحليل النفسي ، اريش فروم في كتابه جوهر الانسان .
كل القصص باستثناء اثنتين ( القطعة الخامسة – عدت بخفي حنين ،والثامنة – عاملات ) تختلف ظاهرياً عن السياق العام للمجموعة الاولى تتحدث فيها الكاتبة عن هواجس خريجة قدمت للتو طلبها للحصول على وظيفة ، والثانية تتناول مشكلة استغلال الشركات المتعددة الجنسيات للعاملات الاميات لتوقعهن على عقود تحرمهن من حقوقهن المهنية . الا ان المدقق في مجرى سياق احداث المجموعة لايستطيع ان يفصل هاتين القطعتين عن المحتوى العام للمجموعة ، فكلا الظاهرتين البطالة واستغلال او سرقة حقوق العاملات تسهم في عملية ترسيخ الفقر والعوز والحاجة التي تؤكد الكاتبة انها من الاسباب الرئيسية لانحدار المراة الى حد السقوط في المحضور.
النموذج الاخر من بطلات خديجة عماري هي تلك المراة التي تخطأ بفعل رومانسيتها وعشقها ، طيبتها وثقتها بالاخر ، لكنها تظل محكومة بما تملكه من مفاهيم ذاتية عن الكرامة ، واعتبار الذات تشكلت بحجم ما تملكه من المعرفة والعلم والغنى عن الحاجة يحصنها من ان تنحدر الى حد التيه في المحضور .ان دوافع الغلط بالنسبة لمن هن محسوبات على النخبة المتعلمة او المثقفة والمكتفية مادياً ، لاتشبه دوافع تلك المجبرة على السقوط بفعل عوامل العوز والحاجة . الاولى ضحية رومانسيتها ، ثقتها برجل غير جدير بالثقة يقدم نفسه على انه نموذج لالتزام العاشق الولهان الى ان يغزو جسدها ويتصيد عذريتها ، لينقلب وقت الجد بعد ان تطالبه بتحمل مسؤوليته عندما تبدأ مظاهر الحمل تفرض خصائصها . كما في القطعة الثالثة .عندما فاجأت البطلة مروة حبيبها العاشق معاد ، المتعلم والمعيد في الجامعة بانها حامل .!
ترك المكان وتركها في وجوم شاخصة في رحلته الصامتة هذه ، لم يترك غير بعض الكلمات الجارحة التلاعب مع رجل قضى عمره بٌين أفخاذ النساء .
نفس الموقف يتكرر مع الابطال المجهولي الاسم والهوية في القطعة السادسة المعنونة ( وعود رجل ) ،التي تبدو وكانها تمثل اللقطة الاخيرة من قصة مروة ومعاد في القطعة الثالثة . مع فارق اخر بين القطعتين في التكنيك ، حيث تبدء القطعة الثالثة من نهاية الحدث . الذي لخصته القطعة السادسة .أو حتى ذلك الرجل الذي يحتل مرتبة الزوج ، خالد ، في القطعة الاولى ، سرعان ما يتخلى عن زوجته دنيا بعد ان اكتشف ان تضخم بطنها لم يكن بفعل الحمل ، بل بسبب اورام سرطانية في الرحم ، ما يعني حتى في حالة شفائها ، سيعيش حالة حرمان من الانجاب ،فكان الطلاق ، والزواج من اخرى هو الحل الاسرع والاكثر اقتصاداً . لتوظف دنيا بقية حياتها بعد شفائها كممرضة لخدمة المريضات بالسرطان .
الرجل نفس الرجل المتهم بالخيانة وعدم الوفاء بالعهد تتكرر صورته في القطعة السابعة ، عندما يُقنع البطلة المتزوجة بالطلاق من زوجها ، ثم لا يفي بوعده بالزواج منها ، تختلف البطلة هنا انها لاتمتلك الحصانة التي تتمتع بها بطلتي القطعة الثالثة والسادسة فتتحول الى واحدة من بنات الهوى ، لعلها كانت بذلك تريد الانتقام من نفسها ومن عشيقها الخائن الذي لم يحترم كلمته ولا حتى قيم الرجولة التي تُلزمه بالوفاء لها والتعهد بالزواج منها .
تختلف القطعة الرابعة في مسار احداثها وشخوصها كليا عن بقية القطع ، وهي تشكل المنزلة بين المنزلتين بين القصة الطويلة والرواية التي لاتحتاج الا بعض الجهد لتنفرز كرواية مستقلة .تمثل احداثها تاثيرات الفقر التي تدفع الوالدين لاعارة ابنتهم الصغيرة لمعلمة متقاعدة ، وحيدة ، مثقفة خبرت الحياة ، وفنون الثقافة المختلفة ، قراءة وموسيقى ، وادب في التعامل مع الاخرين ، وجدت في هذه الصغيرة ما يجدد حياتها ويعطيها معنى اخر ، فحرصت على ان تتبناها روحياً وعاطفياً لتخلق منها انسانة اخرى تعتد بنفسها وتتفهم قيمتها كانسانة تتطلع للسمو . ترفض حد التمرد رغبة والديها في ان تتحول الى مجرد بضاعة او سلعة يريدان بيعها ، تحت حجة او قناعة ان الزوج المقترح سينقذها من مرارة الحاجة .
رغم ان رفضها او تمردها على ابويها بيولوجياً ، وما تعرضت له من تشرد وضياع بعد موت امها بالتبني او امها الروحية كما يحلو لها ان تسميها التي علمتها معنى الكرامة الانسانية ، مفهوم الحرية والاستقلال ، وبعض الحرف الحضارية كالقراءة والكتابة والعزف على البيانو تقليداً لاعمال اشهر العازفين المشهورين عالمياً.كما حصنتها روحيا وعقليا لان تحافظ على بكارتها ، التي اختزل العرب كل قيم الاخلاق والمبادئ والشرف بها .كانت قيمها اقوى من ان تنكسر الى حد ان تتحول سلعة قابلة للبيع والشراء من رجل واحد او عدة من طلاب اللذة ، حتى بعد ان استرجعها ابويها ليبيعانها على طالب من طلاب الزواج . لكن القيم التي تعلمتها من امها الروحية حركت فيها نزعة التمرد والهروب ، لتجد نفسها مكشوفة وقد ماتت امها الروحية لتنقلها الاقدار مذهولة للسكن في بيت يجمع بعض فقراء الطالبات وحتى بنات الليل ، الذين رغم قسوة الحياة عليهن ، لم تنتزع من قلوب بعضهن كل مساحات الشفقة والرحمة والعطف ، يوم تبنتها واحدة من بنات الهوى، اولئك ، دون ان تحاول الايقاع بها . فبعض او الغالب من النزعات عند بنات الهوى هو التغرير بغيرهن انتقاماً من المجتمع ، او بفعل نزعات الحسد والغيرة من امرأة تترفع بمواقفها عن ان تكون مجرد بيدق، او لتعميم السقوط حتى ليبدو لهن او ليخدعن انفسهن بان السقوط هو الحالة الطبيعية ، وليس الشرف والالتزام الا شذوذ وغفلة .يملن عادة للنزوع للمكر والخبث والانانية المتطرفة للثأر من مجتمع حرمها بكل مافيه لان تعيش كسيدة محترمة وام تفرغ حنانها لحفنة من الابناء والبنات ، كأي امرأة اخرى .
ثقتها المطلقة بنفسها ، وما نمى في عقلها من قيم الكرامة واحترام الذات ، منحاها الثقة لان تعمل كعازفة ومغنية فقط في بار من تلك البارات المعدة خصيصا لعلية القوم لتكتشف هي او الكاتبة كيف يمكن ان تحوي هكذا اماكن : بشر عادٌيون، كانت الهموم والافكار الضالة هي التي رافقتهم لهذا المكان . خاصة ذلك الطبيب المختص بالامراض النفسية والعصبية الذي ياتي كل ليلة لا ليعاشر النساء ، بل ليشرب الحمرة مستانساً بجليسة تثرثر ، او تمضغ العلكة ، تضحك بصخب ، واحيانا تبكي ، وهو يعب كؤوس الخمرة حتى الثمالة ، حتى ان نزلاء الماخور ورواده اعتقدوا ان التزامه هذا واستنكافه عن معاشرة النساء ما هو الا تعبير عن حالة عجز . تنتهي القصة بزواج هذا الطبيب العاجز من فاطمة التي تلد له طفلين ، فكلاهما كان يسمو على وساخة المكان بفعل حالة من احترام النفس في مكان لايستوعب هكذا محترمين ، كانا غرباء اضطرتهم ظروفهما المختلفة للتردد على المكان.
تنتهي القصة او الرواية القصيرة بهذا المشهد .
لو شاء لقارئ ان يعطي رايه في مجموعة خديجة العماري لايستطيع القول غير انه : اذا كانت القصة تتميز عن غيرها من حقول الادب في كونها مجموعة بنى من نسج الخيال ، يجد القارئ نفسه في متابعة قصص خديجة ان الكاتبة ابعد ما يكون عن ما هو شائع بالفن القصصي ، من محاولات اسقاط ما هو غيبي او خارق من الاحداث . تكتب حتى لكانها شاهد يقدم افادته عن حادثة ما في تقرير للشرطة ، او مراسل صحفي يوصف الحدث كما يترائى امامه .او ما يشاهد امام عينيه .لتكشف الغشاوة عن ظواهر اجتماعية يعرف المتابع انها تحصل فعلا بشكل يوميدون ان يتوقف عندها ليتسائل عن اسبابها ومن هذا الذي يتحمل مسؤولية نتائجها وما تسببه من انجراح لكرامة هذه الثلة من النساء الذين هن ضحايا تفاعل عوامل اجتماعية واقتصادية ، دون ان تجرد القاصة هاته الضحايا من المسؤولية التي تتحملها غرائزهن او احلامهن اللاعقانية في حياة كريمة تنقلب عليهن لتتحول الى بؤس حياة سلعة مجردة من الكرامة والحرية . كل ذلك باسلوب من الرصانة ما يمكن ان يحول الاشياء الحقيقية الى حالة اشبه بالاحلام في مخيلة القارئ ، بل حالة تغدو فيها الخطوط الفاصلة بين الحلم والواقع مجرد حدود هلامية لايميز فيها القارئ المسافات التي تفصل الحقيقة عن الخيال.
ان النقلات التي تجري في قصصها بين خاطرة واخرى على تلك الطريقة المعروفة بتيار الوعي، او توارد الخواطر ، تمارسها الكاتبة دون ان تبتعد او تخرج عن السياق العام للحدث ، بل لتعزز معانيه ،كما هي تجربة بطلة القطعة الاولى مع ابن الجيران الذي تحرش بها في سطح البناية ، او تجربتها مع ابنة الجيران المثلية . ما يؤشر الى ان الكاتبة متمكنة من صناعتها كقاصة محترفة ، لاتعوزها الكفاءة او القدرة لان تقف في الصف الاول لكتاب القصة القصيرة العرب .
تتموضع الكاتبة في قصصها بمكانة عالم اجتماع يريد جلب انتباه القارئ الى مظالم سائدة تتحكم بعالم المراة العربية ، بامل ان تقنع الاخر بهذه الصور المرسومة بالكلمات ان ينتبه لمواجهة مشكلة اجتماعية تُركن نصف المجتمع بزوايا مظلمة وتحوله الى مجرد مجموعات طفيلية لادور لها غير اشباع غرائز النصف الاخر .تبعي في قصصها ان تترك فينا ما يمكن ان يحسن نظرتنا وتجربتنا الحياتية المعاشة تجاه ظاهرة موجودة معاشة يعاني ابطالها من الجنسين معاناة لاتنقطع ، سواءكان ظالماً اومظلوماً .اركزهنا على صفة عالم الاجتماع لأنها على مايبد لاتميل لمدرسة علم النفس التحليلي ( فرويد ) التي تقول ان مسارات السلوك والدوافع البشرية تظل محكومة بتركيبة سيكولوجية داخلية تولد معه .بل هي اكثر ميلا لمدارس علم النفس الاجتماعي التي لاترى بالانسان سوى انه نتاج الانماط الثقافية التي يعيشها ، وتفاعلاته بالبيئة الاجتماعية من حوله .
فشخوص او بطلات قصص القاصة خديجة تتصرف على الورق كما لو كانت تتحرك فعلا في الحياة المعاشة .
اتمنى واؤكد كقارئ ان تستمر هذه الشابة المبدعة بعطائها البناء ، ولو اني لاحظت انها تكتب ايضاً عمود يومي في جريدة الاخبارالمغربية ، تحت عنوان ( ممنوع على الرجال ) ، ليكشف القارئ ان مخيلتها حبلى بالقصص . كل يوم قصة وتحليل اخر .!؟
التعليقات مغلقة.