الشيوعيون السودانيون … 69عاما وجذوة الوعي متّقدة / خالد فضل

 

خالد فضل ( السودان ) الجمعة 28/8/2015 م …

حزب عصي على التلاشي والتذويب , نواة صلبة غير قابلة للتفتيت , وعي متقد وذهن صاف وجسارة تبلغ حدود الكمال , تلك صفات يمكن للمراقب العادي للشأن السوداني أنْ يدوّنها في مفكرته اليومية اذا أراد رصد حركة الحزب الشيوعي السوداني , ذلك الحزب الذي صار الآن في عمر التاسعة والستين بحساب السنوات ودوران الشهور منذ ذلك اليوم الذي صدع فيه نفر من المثقفين السودانيين بأنْ حي على النضال , لقد صار الحزب إذا جزء صميما من إرث الشعب السوداني وسطورا باذخة في مسيرة نضال قواه الحية من أجل العزّة والكرامة الانسانية , وسعيا حثيثا ودؤوبا لبلوغ مصاف العدالة الاجتماعية , وتأسيس وطن يليق ببني آدم من السودانيين .

المراقب المنصف لا يمكنه تجاوز حالة كون الحزب الشيوعي مندغم في جوهر تطلعات غالبية الشعب السوداني , وإنْ جرت وقائع التاريخ العلني للحياة السياسية في السودان على غير طبيعة سواد الشعب وغالبيته العظمى , فقد نادى الحزب الشيوعي السوداني باكرا بدولة المواطنة التي تبني وطنا عبّر عنه الشاعر الراحل محجوب شريف كثيرا في أشعاره الملهمة , من , وطنّا الباسمك كتبنا ورطنّا , الى : وطن مدرار,جرت تتلاحق الأنهار,كما تتلاقح الأعراق,كما تتمازج الألوان,كما تتصافح الأديان , هجينا من سلالات الفخار والعز.فالحزب الشيوعي السوداني والشيوعيون السودانيون , شكلوا لوحة ابداعية موحية وصادقة , وعكسوا في أدبياتهم المبثوثة هموم وتطلعات السواد الاعظم من السودانيين , فلا غرو أن جاءت عضويته النوعية أخلاطا من أقصى الجنوب (سابقا)الى تخوم الشمال الأقصى , ومن نواحي الغرب الى فيافي الشرق , وعبر المدن والقرى حيث مظان الاستقرار وامكانات التثاقف وفرص النمو , ووسط الطلاب الجامعيين وطلبة المدارس والمعاهد العليا , وفي أوساط العمال والعمال الزراعيين والموظفين والمهنيين وحتى في أوساط الطبقة الرأسمالية الوطنية التي تبذر خيرها للشعب دون احتكار أو شره شديد للثراء على حساب الفقراء والمسحوقين فجاءت اسهاماتهم المقدّرة في العمل المنتج وسخائهم وبذلهم في أنشطة الحزب دون ضوضاء وضجيج .

يقول الراحل معين بسيسو في يومياته , إنّه لم يجد حزبا شيوعيا ارتبط بالشعر كما الحزب الشيوعي العراقي , لقد كان رئة من الشعر . وأضيف , وكما الحزب الشيوعي السوداني الذي أثرى الوجدان السوداني بما لم يأت بمثله فريق آخر من تنظيمات السودانيين وقواهم الفكرية والسياسية , ويكفي الإعترافات المتلاحقة لدهاقنة التيار الاسلامي في السودان من أنّ الابداع السوداني الحق يساري , وما ذكر اليسار السوداني الا وكان الحزب الشيوعي على قمّته , هذه افادات لا تمت للانتماء التنظيمي بصلة , فقد وعي كاتب هذه السطور على الدنيا في ذروة أحداث يوليو1971م المشهورة , وطرقت اذنيه مآثر الشهداء الأبطال من قيادة الحزب الذين طوحت أجسادهم فوق المشانق وتلقت صدورهم العامرة بحب الشعب الرصاص الراعف , وغرغر الدم الناقع في تلك الايام الكبيسة دون ان يرجف للشيوعيين السودانيين قلب أو تهتز عندهم قناعة أو يتزحزح لديهم انتماء مخلص وصادق للشعب وآماله وطموحاته .وظلوا على عهدهم للشهداء نواة لبث الوعي , مصداقا للمقولة الخالدة لعبدالخالق محجوب عمّا قدّمه للشعب ؟ فاجاب بثبات : الوعي قدر المستطاع , وما استطاعه عبدالخالق ورفاقه الميامين يفوق حدود البهاء .

لقد ظلّ الشيوعيون السودانيون , من واصل انتماءه التنظيمي ومن غادر منهم , على عهد الوفاء للقيم النبيلة وذاكرة الشعب السوداني الصادقة تسجّل باعجاب شديد مواقف ذاك المدير الشيوعي المنحاز لجموع العمال وصغار الموظفين في مؤسسته التي يدير , يتداول السودانيون فضائل المهنية والنزاهة والايثار والتفاني والاخلاص فيردونها مباشرة باللازمة المتداولة عن صاحب تلك الميزات بأنّه شيوعي , وفي مفارقة عجيبة نجد أنّ ذات الشخص الذي يتحدّث بكل ذلك الاعجاب عن الشيوعي يرتد فجأة الى النقيض عندما يعتبر الشيوعية وكأنّها منقصة فيردد دون وعي ( هذا الشخص بكل تلك الصفات يا خسارة شيوعي)!! إنّها الحاجة المستمرة لبث الوعي , حتى لا يصبح الفرد على تعبير مظفّر النواب (يحمل في الداخل ضده ), وهي المهمة التي يطّلع بها الشيوعيون السودانيون , ومن خلال عملهم الجبهوي مع فئات المجتمع الأخرى , فقد لحظ كادر من الاسلاميين المنتمين لجماعة الترابي , أنّ عملهم ضمن قوى المعارضة في اطار قوى الاجماع الوطني قد قرّبهم من الشيوعيين السودانيين فلمسوا فيهم صفات الصدق والمسؤولية , ومضى محدّثنا ذاك للقول إنّ الشيوعين أقرب اليهم من قوى التحالف الأخرى من أحزاب اليمين , هذه شهادة شاهد من موقع العداء المستمر تاريخيا , وعلاقة التربص التي مارسها الاسلاميون بمختلف مللهم وتنظيماتهم لتشويه صورة الشيوعيين في السودان , ولعل الجميع يذكرون حادثة حلّ الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه المنتخبين ديمقراطيا من برلمان الحكومة في أعقاب ثورة اكتوبر الشعبية في السودان في 1964م , ومع ذلك لم يهن الشيوعيون السودانيون ولم يذلوا , رغم كيد الكائدين وتكالب المتكالبين , ورغم الخسارة الفادحة في أعقاب فشل حركة يوليو1971م واغتيال الصف القيادي الأول , وما تلا ذلك من مطاردات وسجون , الى مرحلة هيمنة الاخوان المسلمين عبر انقلاب الانقاذ 1989م وما جرى خلال أكثر من ربع القرن , وما أجرته نواميس الطبيعة من فقد متتالي لأعظم القيادات نساء ورجالا , رغم كل ذلك ما يزال الحزب الشيوعي السوداني حيّا يتنفس عشقا للشعب وتراب الوطن ويناضل الشيوعيون جنبا الى جنب مع جموع السودانيين لإقالة عثرات بلادهم وتخليصها من ربقة استبداد الجماعات الاسلامية المتطرفة , حزب بهذه المعاناة وبهذه التضحيات يحتفل بعيد ميلاده التاسع والستين , إنّها سانحة لتقديم باقة شكر له وبطاقة اعزاز من كل قلب في بلادي .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.