ثقافة قبول الآخر .. بين النظرية والتطبيق / د. مجد القبالين
تُعتبر ثقافة قبول الآخر من الثقافات النفس اجتماعية بمعنى ان توفرها لدى الفرد او عدمه يرجع بالدرجة الاولى لجذور نفس اجتماعية في حياة الفرد خصوصاً وحياة المُجتمعات عموماً ، وعندما يتم ذكر ثقافة قبول الآخر لا بُد من التطرُق لموضوع التطرُف على اعتبار انه من المُصطلحات الاجتماعية المُضادة لثقافة قبول الآخر ، فمثلما ان ثقافة قبول الآخر تعني قبول المُقابل بكُل ما يتكون منه من فكر وشخصية واسلوب وديانة ، وقناعات شخصية وحتى لون البشرة فإن التطرُف يعني عكس ذلك ويعني استبعاد المُقابِل ورفضه وإقصائه اجتماعياً والتعنُت والتزمُت للرأي ، وقد يتطور التطرُف الى الارهاب ويتم ترجمة هذا التزمُت والتعنُت للرأي الى عُنف سواءً عُنف لفظي ، ام جسدي ، ام معنوي ، والزج به خارج دائرة التفاعُل الاجتماعي لمُجرد انه يختلف عنا في جانب او اكثر من الجوانب المكونة له.
والكثير من الأشخاص يُردِدون شعارات الاختلاف في الرأي لا يُفسِد للود قضية وغيرها من الشعارات التي تعكس ايمانهم بثقافة قبول الآخر ، وقد يكون إيمانهم ذلك لا يتجاوز حدود التنظير.
ويُمكِن توظيف ثقافة قبول الآخر عملياً وفي حياتنا اليومية من خلال اولاً ان نتصالح مع انفُسنا في عِدة قواعد ومبادئ أساسية وهي:
– الإيمان المُطلق بأنه لا يوجد إنسان يُشبِهنا بالميل وكما نُريد ونُحب ونرغب ، فمثلما هُنالك صفات او طباع في المُقابل لا تُعجبنا ولا تروق لنا ايضاً هُنالك طباع وصفات موجودة لدينا لا تروق لدى المُقابِل ، فمثلما نحن ننظر بعدم الكمال للمُقابِل ايضاً المُقابِل ينظر لنا بعدم الكمال وهذا بحد ذاته لا يشكل مُشكلة تُعيق عملية التفاعُل الاجتماعي بين الأفراد ، بل انها من سُنن الحياة والفطرة البشرية السليمة.
– الإيمان المُطلق بأنه لا يوجد انسان يخلوا من العيوب ، وان من يختلف معنا بوجهة النظر لا يعني انه ضدنا او عدواً لنا ، وعدم اتخاذ من الاختلاف إهانة شخصية موجهة لنا.
– الإيمان المُطلق بأننا ولدنا لنُكمل بعضنا البعض وليس من اجل ان نُشبه بعضنا البعض في كل شيء ، فهُنالك فرق كبير بين التشابُه والتكامُل.
– الإيمان المُطلق بأن الاختلاف بيننا لا يعني ابداً ان يؤدي الى خلاف وصراع ونزاع.
– الإيمان المُطلق بأنه لا يوجد معيار مُتفق عليه عالمياً حول ما هو صحيح وما هو خطأ ، فحتى معايير الصح والخطأ امر نسبي يختلف من فرد لآخر ، ومن مُجتمع لآخر ومن ديانة لأخرى.
– الإيمان المُطلق بضرورة ان نضع انفُسنا مكان المُقابل اذا رفضناه واستبعدناه اجتماعياً لمُجرد اختلافه عنا.
– الإيمان المُطلق ودون شك بأن كل فرد قام ببناء قناعاته الشخصية ومبادئه ورغباته وميوله واتجاهاته بناءً على قاعدة معرفية ومُعطيات تختلف من فرد لآخر فإذا اختلفت وتنوعت المُدخلات سوف تختلف وتتنوع ايضاً المُخرجات وتتمثل في : الاختلاف في التنشئة الاجتماعية واساليب التربية المُتبعة ، والاختلاف في خبرات الطفولة ، والاختلاف في الجو الاسري والمُحيط الاجتماعي الذي نشأ فيه الفرد ، والاختلاف في الخبرات الحياتية التي مر بها الفرد ولا يزال يمُر بها حتى مماته ، والاختلاف في طبيعة الاشخاص الذين يحتك بهم الفرد ، وتلك العوامل كلها كفيلة بأن تخلق لدينا فروقات واختلافات في وجهات النظر والقناعات الشخصية والميول والاتجاهات.
وخُلاصة كلامي…………………..
من صور واشكال الرُقي البشري ان تحترم القناعات الموجودة لدى الآخرين حتى لو كنت انت غير مُقتنع بها وغير مُتصالح بها مع نفسك وغير مُقتنع بتطبيقها على نفسك ، فليس مطلوب منك ان تتبنى فكر غيرك او قناعات غيرك وتؤمن بها ، يكفي فقط ان تحترمها ولا تُترجم رفضك لها الى عُنف بكافة اشكاله ، فتلك اعلى درجات الرُقي البشري واحترام رغبات وميول وحاجات واتجاهات الآخرين.
فعدم قناعتك بوجهة نظر ما لا يُعطيك الحق ابداً ان تستهزئ بقناعة غيرك بها ، وقناعة غيرك بها لا يعني ابداً انهم بشراً يتسمون بالتفاهة والسطحية او الجهل ، وهذا هو التجسيد الحقيقي لمعنى احترام المُقابل المُختلِف عنا ، وبالتالي التوظيف الحقيقي لثقافة قبول الآخر.
ويبدأ تجسيد وتوظيف ثقافة قبول الآخر من طرح عدة تساؤلات …….
ما هي العوامل التي تجعلنا اصلاً مُختلفين عن بعضنا البعض سواءً كان الاختلاف في الاتجاهات ، ام القناعات ، ام الميول ، ام الرغبات والطموحات ، ام حتى الاديان ؟
وهل تلك العوامل نحن نتحكم بها ام ان بعضها قد فُرض علينا ونحن مُسيرون فيها ولسنا مُخيرون؟
وهل فعلاً يوجد في مُجتمعاتنا ثقافات فرعية مُختلفة ومُتعددة ؟ وكيف يمكنها التعايش معاً بسلام وبانسجام وليس بصراع؟!
وفي الختام…..
ان التفُاح بكافة انواعه والوانه……الاخضر والاصفر والاحمر جميع تلك الأنواع تنتمي لنفس عائلة التفاح ، ولكنها مُختلفةً باللون والمذاق والفوائد الغذائية ، وهذا تجسيد حقيقي وواقعي ان حتى الإخوة الذين عاشوا في نفس المُحيط الأُسري والمُنتمين لنفس العائلة وتلقوا نفس التنشئة الاجتماعية ونفس اساليب المُعاملة الوالدية قد يختلفون في العديد من القناعات الشخصية ، والمبادئ والاتجاهات والميول.
*دكتوراه علم اجتماع / علم الجريمة
التعليقات مغلقة.