الثقافة الشمولية / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد * ( سورية ) السبت 8/6/2019 م …




* كاتب وباحث ومفكر سوري …

     الثقافة الشمولية, نمط ثقافي مغلق في الغالب على نسق محدد من المعارف, تحدد طبيعته وأهدافه سلطة سياسية في دولة شمولية, وفقاً لقيم معيارية مسبقة الصنع تفرضها أيديولوجيا شعاريه وبراغماتية وحتى أسطورية, بغية التأثير على عقول وسلوك وقيم أفراد المجتمع وتحركيهم كأحجار شطرنج. وما يميز هذه الثقافة الشمولية أنها لا تُدخل في حساباتها أي مشروع إبداعي يساهم في نهضة الفرد والمجتمع أخلاقياً وفلسفياً وجمالياً إلا بما تراه وتريده السلطة الشمولية. أو بتعبير آخر هي ثقافة تشتغل عليها السلطة الشمولية مستخدمة كل وسائل الدولة المتاحة وفي مقدمتها المؤسسات الثقافية والإعلامية من أجل تهجين المجتمع وتدجينه وتوجيهه باتجاه أهداف ذات طبيعة شعاريه لا عقلانية تحت مسميات وطنية وقومية ودينية وإنسانية .. الخ, وذلك للحفاظ على وجود هذه السلطة الشمولية الاستبدادية واستمراريتها أولاً, ثم الحفاظ على مصالحها المادية والمعنوية, ومصالح أفرادها, أو حزبها, أو قبيلتها أو عشيرتها أو طائفتها. دون مراعاة حقيقة لمصالح المجتمع وتنميته ثانياً.

       أمام أو في مواجهة هذا الثقافة الشمولية, نجد ثقافة تنويرية مغمى عليها بفعل قسري, يمثلها مثقفون تنويريون, مأساتهم أنهم محط إقصاء وتهميش في هذه الدولة الشمولية, بل هم دائماً محط كره وحقد من أعداء الحقيقة والحرية والإنسانية, وخاصة من قبل الانتهازيين والوصوليين والسفلة من رجال السياسة والسلطة ومثقفيها في الدولة الشمولية, كونهم يجدون في المثقف التنويري النقيض لهم فكراً وسلوكاً, لأنهم يعرفون بأن ما يمثلونه هم من قيم أخلاقية وسياسية وثقافية, هي قيم منحطة.

     إن هذا الموقف العدائي من قبل ممثلي الدولة الشمولية ضد المثقفين التنويريين المدافعين عن قضايا الناس وحقوقها وحرياتها أولاً, ثم ضد مصالح بقية أفراد الشعب ثانياً, لا ينطبق أو حتى يتنافى مع فهم الدين لمسألة التنوير كما جاء في الآية التالية: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). (179 الأعراف).

     نعم إن الناس الذين لا يستخدمون عقولهم في تحليل وتركيب الظواهر الاجتماعية التي يعشون فصولها يومياً, ولا يستخدمون بصرهم في مشاهدة الحقيقة التي  تجري أمامهم, ولا يستخدمون سمعهم فيما يشتكي الناس من مظالم وفساد, سيتحولون إلى أنعام في الحقيقة, وهذا ما يشتغل عليه رجال السلطة الحاكمة في الدولة الشمولية الذين يتاجرون بالدين أكثر من غيرهم ضد شعوبهم. أي هم من يقوم بممارسة فعل التجهيل على الناس وتحويلهم إلى أنعام.

في مقابل هذه الثقافة التجهيلية التي تمارسها السلطة في الدولة الشمولية على جماهيرها, تأتي الثقافة التنويرية كما قلنا كفعل جماهيري.. كنسق فكري, في أعلى درجات مهامها أو وظائفها بعد اكتمال بنيتها وتبلور حواملها الاجتماعية, طرح التساؤلات الكبرى, والكشف عن الكثير من المسائل الملحة المتعلقة بحياة الإنسان المادية والروحية بكل مستوياتهما. وبناءً على ذلك لم تعد  (الثقافة) وفق هذا التحديد فعلاً نخبوياً فحسب, بالرغم من ارتباطها بالنخب منذ أن ظهر التقسيم الاجتماعي الكبير للعمل على ساحة الوجود الاجتماعي بين العمل الفكري والعمل العضلي. وإنما هي فعل شعبي أو جماهيري يمارسها الفرد والمجتمع معا في حياتهما اليومية المباشرة, وغالباً ما يعملان على اختزالها وتكثيفها في حكم وأمثال شعبية ومقولات فقهية وفلسفية ورؤى أيديولوجية, تفرض نفسها على سلوك الفرد والمجتمع في حياتهما اليومية المباشرة.

* كاتب وباحث من ديرالزور- سورية                                

[email protected]

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.