عن الجدل “الهوياتي” في الأردن / أسامة أبو ارشيد

 

أسامة ابو ارشيد * ( فلسطين ) السبت 29/8/2015 م …

لا يمكن لمراقب محايد وموضوعي متابع للخلاف داخل جماعة الإخوان المسلمين الأردنية وخلفياته أن يتغاضى عن حقيقة مفادها بأن التجاذب “الهوياتي”، ما بين “الأردنية” و”الفلسطينية”، أو كما يسمى في الأردن، “الإقليمية”، حاضر بقوة في الانقسام الحاصل في الجماعة اليوم، وإن كان، قطعاً، لا يختزل تعقيدات المشهد كلها. ليس هذا التجاذب “الهوياتي” حبيس خلافات الجماعة المتفجرة اليوم، فهو جزء من سياق عام أوسع ومتصاعد في الأردن، منذ صدامات سبتمبر/أيلول عام 1970، بين الجيش الأردني وبعض الفصائل الفلسطينية، غير أن تسربه بهذا الشكل الفج إلى الجماعة ينبغي أن يقرع نواقيس الخطر في الأردن، فالجماعة، بصبغتها الإسلامية، دائماً ما مثلت، عقوداً، محضناً للصهر والتعايش بين مكونات المجتمع الأردني كله، بعشائريته المتنوعة، وجهويته ما بين شمال وجنوب، و”إقليميته” ما بين أردني وفلسطيني.

في زيارتي الأردن، أخيراً، أتيح لي أن أسمع وأناقش كل أطراف الخلاف في الجماعة، ممثلة، أولاً، بخط الجماعة الأم، وهي “الشرعية” بنظر غالبية القواعد، و”المنحلة” بنظر النظام ومن تحالف مع توجهه من أبناء الجماعة، وثانياً، بالجمعية المرخصة من الحكومة، أو “المنشقة” بنظر مناوئيها في الجماعة الأم، وطرف ثالث يُعَبَّرُ عنه بـ”الحكماء” من قيادات الجماعة الساعية إلى رأب الصدع بين الطرفين الأولين، ورابع مستاء من الكل، وآيس منهم جميعاً.

ثمة قناعة قديمة مترسخة في الأردن لدى كثيرين، وتبنتها “مجموعة الأزمات الدولية”، في تقرير لها حول الإصلاح السياسي في الأردن عام 2012، مفادها بأن هناك في النظام السياسي الأردني من يلعب على وتر المخاوف “الإقليمية” المتبادلة بين من يوصفون “الشرق أردنيين”، وهم الأردنيون الأصلاء، ومن يوصفون “الغرب أردنيين”، وهم ذوو الأصول الفلسطينية، بهدف وأد أي مساع حقيقية للإصلاح السياسي والديمقراطي في البلد. وحسب هذا التحليل، فإن بعض دوائر النظام السياسي تُخوف “الشرق أردنيين” بسيطرة ذوي الأصول الفلسطينية على البلد، في حال ضعف النظام السياسي القائم، كما أنها تُخوف “الغرب أردنيين” بمواجهة المجهول إن ضعف النظام السياسي القائم، وسيطر “الناقمون” من أبناء البلد الأصلاء.

ويفاقم من هذه “النعرة الإقليمية” المفتعلة حقيقة أن الأردن بلد صغير وفقير، محدود الموارد والإمكانات، والحالة الاقتصادية فيه، سواء للبلد أم للمواطن، يمكن توصيفها بالضنك والعسر. أضف إلى ذلك أن معادلته الديمغرافية تتعرض، اليوم، لإعادة صياغة، كما عبر عن ذلك تحذير أطلقه، في إبريل/نيسان الماضي، وزير التخطيط والتعاون الدولي الأردني، عماد الفاخوري، مفاده بأن الأردن يستضيف، اليوم، نحو مليونين وأربعمائة ألف لاجئ سوري على أراضيه، ما يشكل ما نسبته 20% من مجموع سكان المملكة. هذا عن النسبة السكانية التي أضافها اللاجئون السوريون في الأردن، أما عن نسبة ذوي الأصول الفلسطينية فالأمر أقرب إلى “سر دولة”، حيث أن نسبتهم تتفاوت في التقديرات المختلفة بشكل غير منطقي وغير علمي. فثمة من يخسف النسبة إلى 10%، وثمة من يرفعها إلى 75%.

“الحفاظ على الأردن قوياً منيعاً متماسكاً ومتآلفاً بكل مكوناته، فيه حفظ لفلسطين، كما فيه حفظ للأردن، خصوصاً وأنه يوجد بين بعض الفلسطينيين، أيضاً، من لا يتورع عن التساوق مع إسرائيل ومخططاتها”

يثير نقاش النسبة السكانية مخاوف وحزازات كثيرة في المجتمع الأردني، وكما سبقت الإشارة، فإن ثمة من يؤججها ويوظفها. بل إن إسرائيل، نفسها، كثيراً ما أقحمت نفسها في هذا النقاش، وكثيراً ما تحدث بعض قادتها، بخبثٍ لا يخفى، عن “الحقوق المنقوصة” لمن يصفونهم “الأغلبية الفلسطينية”، في الأردن. طبعاً، إسرائيل التي سرقت الأرض الفلسطينية، وشرّدت الشعب الفلسطيني، وتسحق من تبقى منهم على أرضهم، لا يهمها أبداً حال الفلسطينيين في الشتات، بقدر ما أنها تبحث عن حل لمعضلتها الديمغرافية عبر نظام ترانسفير، طوعي أم جبري، لفلسطيني عام 1948 وفلسطينيي الضفة الغربية، بشكل يؤمن لها “نقاء” دولتها الديني. وما اشتراط “يهودية” الدولة العبرية، ورفض إسرائيل، إلى اليوم، القبول بتسوية سياسية في القدس والضفة الغربية، حتى ولو بشروط مجحفة للفلسطينيين، إلا تعبيراً عن تلك المعضلة التي لا تجد لها حلاً. فهي لا تريد “سلاماً” يرغمها على التخلي عن بعض الأرض الفلسطينية المحتلة، في الوقت الذي لا تريد فيه بقاء ملايين الفلسطينيين على تلك الأرض. وضمن هذا النسق التحليلي، فإن بعضهم في إسرائيل لا زال يؤمن أن الأردن هو الحل الوحيد، فـ”فلسطين في الأردن”، كما يقول غير واحد من المسؤولين الإسرائيليين، الأمر الذي يدركه صانع القرار الأردني. ومن هنا، جاء رفضه أي أطروحات عن كونفدرالية أو فيدرالية أردنية-فلسطينية، قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة حقيقية.

اللافت، في هذا السياق، أن رئيس الوزراء الأردني الأسبق، عبد السلام المجالي، الذي وقع “معاهدة السلام” مع إسرائيل عام 1994، وتباهى حينها بـ”دفن مؤامرة الوطن البديل”، عاد وصرح عام 2008 ” أن (رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل أرئيل) شارون سعى عام 2003، وقبيل احتلال العراق، إلى تمهيد الأرضية والظروف لتحقيق أطماعه باحتلال الأردن، لتنفيذ مؤامرة الوطن البديل، لكن سعيه باء بالفشل”. وأضاف: إن “شارون باعتباره عسكرياً كان يدفع الولايات المتحدة لمهاجمة العراق لعدة أسباب، أهمها، إنه توقع أن يقاوم الجيش العراقي على الأقل ستة أشهر، وتصور أن ذلك سينعكس على الوضع الداخلي في الأردن (…) ويحدث خللاً في الجبهة الداخلية، حسب أوهامه. وبهذا العذر، سيلجأ إلى احتلال الأردن وإقامة دولة فلسطينية فيه”. وتابع المجالي: “بحسب مخططه، اعتقد شارون أنه في حال قيام ذلك (الدولة الفلسطينية في الأردن) فإنها ستمتص جميع الفلسطينيين من خارجها، بمن فيهم من هم في الضفة الغربية لتبقى فلسطين كلها لهم”، أي للإسرائيليين.

بغض النظر عن مدى دقة تحليلات المجالي، فإنها تظهر بوضوح مدى القلق الأردني، المشروع، من الأطماع والمؤامرات الصهيونية التي تستهدف الأردن. وبالتالي، فإن النفخ، من بعض دوائر النظام في “كير” الفتنة “الإقليمية”، من أجل تحقيق مكاسب هامشية في سياق رفض إجراء إصلاحات سياسية مشروعة، يغدو صبيانية وعبثاً غير مسؤول. أيضاً، إن نقل هذه النعرة الكريهة إلى داخل المحضن الإخواني الذي مثل، على الدوام، بوتقة وئام وتصالح مجتمعي، يعد جريمة بحق الأردن. فالمناكفات والمماحكات السياسية مع خصم سياسي وطني، لا ينبغي أبداً أن تصل إلى حد تهديد أسس الدولة والوطن وأمنهما. ما سبق لا يعني أن جُلَّ نقاش “الهويات” في الخلاف الإخواني-الإخواني منبعه عبث طرف ثالث، فثمة أسباب أخرى، جزء منها مشروع، تتعلق ببنية الخطاب الإخواني الأردني، وكيفية تشكل الهوية الوطنية الأردنية، وسياقاتها، وهذا نعود إليه في مقال مقبل، بإذن الله.

كلمة أخيرة، الحفاظ على الأردن قوياً منيعاً متماسكاً ومتآلفاً بكل مكوناته، فيه حفظ لفلسطين، كما فيه حفظ للأردن، خصوصاً وأنه يوجد بين بعض الفلسطينيين، أيضاً، من لا يتورع عن التساوق مع إسرائيل ومخططاتها.

*أبو ارشيد كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.