تنظيم المدينة من خلال السياسة الاجتماعية عند أرسطو / د. زهير الخويلدي
د. زهير الخويلدي* ( تونس ) الخميس 13/6/2019 م …
” العلم السياسي هو العلم الأسمى والمعماري بامتياز… إنه يقوم باستعمال العلوم العملية الأخرى، وعلاوة على ذلك يشرع على ما يجب القيام به وما ينبغي الامتناع عنه”1[1]
استهلال:
التفكير في النظرية العلمية السياسية والقانونية عند المعلم الأول بالنسبة إلى العرب في عصور ازدهارهم وحسب أستاذ الأسكندر المقدوني وفيلسوف اليونان أرسطو لا ينفصل عن التعرف على الحياة الاجتماعية والثقافية التي عرفها اليونان في ذلك الوقت ومعالجة المسائل المتعلقة بالعلوم السياسة التي ذكرها في مؤلفاته القانونية وكتبه الفلسفية والدساتير التي ساهم في تأسيسها للعديد من المدن الدولة في عصرها الإغريقي وقبل انتقالها إلى العصر الروماني والعصر البيزنطي والعصر اللاتيني والعصر العربي وخاصة مؤلفات السياسي والأسكندر أو في المستعمرات وفي النظام الملكي التي فقدت ولم يبق منها سوى العناوين والتطرق لتاريخ الدساتير والأنثربولوجيا الاجتماعية والسياسية التي تضمنتها أفكاره الطبيعية.
في البداية كانت عزيمة أرسطو متجهة نحو التخلص من النموذج المثالي الذي كان أفلاطون قد شيده وفق نظرية النظام السياسي الأفضل في كتابي الجمهورية والنواميس واستخراج نموذج سياسي متوازن وأنسب ولكن بعد ذلك تطور تفكيره إلى مستوى وضع الدساتير- قرابة 158 – بمراعاة التشريعات للعادات والشيم الأخلاقية والتقاليد الشعبية والطقوس الدينية والشعائر الهمجية التي تختص بها بعض المدن الإغريقية.
لقد حرص أرسطو على إجراء مقارنات بين أنظمة الحكم التي تتميز بالطغيان وحكم الأقلية وحكم الأغلبية والديمقراطية والأرستقراطية وبين الدساتير التي تم اعتمادها في مصر وقرطاج وروما وبابل وفارس.
لكن الفلسفة السياسية التي بلورها لم تقتصر على مؤلفه الشهير حول “السياسات” الذي يتكون من ثمانية كتب فقدت خاتمتها التي تناولت قضية التربية من منظور سياسي بل ضمت مؤلفاته الأخلاقية التي ورددت في أخلاق إلى نيقوماخوس وأخلاق إلى أوديم إضافة إلى المؤلفات المنطقية وخاصة الخطابة وفن الشعر.
والحق أن كتاب السياسات لم يتم العثور عليه ونشره إلا سنة 1891 من طرف السيد فريدريك كونيون2[2] مع ضياع قسما كبيرا من المادة التي كان أرسطو قد جمعها من أجل توثيق التجارب الدستورية لعصره3[3].
لقد كان للإغريقيين القدرة على سبك الممارسات الاجتماعية الهامة والأبعاد التاريخية في شكل نظريات.
لا يتنزل هذا المبحث حول تنظيم المدينة من خلال علن السياسة عند أرسطو ضمن الطرق المفضية إلى مسائل التعقل والفضيلة والخير الأسمى والنظام الأمثل وعلاقة الفيلسوف بالمدينة من جهة الصلة بين الأخلاق والسياسة وإنما يندرج ضمن التقصي عن الدور الكبير الذي لعبته العلوم الرياضية والطبيعية في جعل أرسطو يجد مخرجا من معضلة العدالة والسلطة ويعثر على الطريق الديمقراطي الذي يتناسب مع الحياة العامة في أثينا ويربط بين معرفة تاريخ المؤسسات السياسية الإغريقية وفهم المشاكل الفلسفية التي أثارها وتحديد منزلة الإنسان والصلة القانونية والإيتيقية بين المواطنين والأجانب الغرباء عن المدينة.
من هذا المنطلق يقود كتاب السياسيات إلى دراسة تنظيم المدينة بالطرق العلمية القانونية التي اقترحها أرسطو من جهة والى معرفة الإضافة الكبيرة التي قدمها إلى تاريخ الفلسفة السياسية من جهة إيتيقية.
لقد كان القرار المعرفي الذي تم اتخاذه في هذا المستوى هو قراءة كتاب السياسيات من منظورين والمقارنة بينهما: المنظور الأول الذي ينطلق من مؤلفاته الطبيعية والكوسمولوجية التي ضمتها كتب مابعد الطبيعة والطبيعة والنفس والتي تصد أحكاما واقعية، أما المنظور الثاني فهو الذي يعتمد على المؤلفات الأخلاقية والمنطقية والفنية والتي تصر أحكاما قيمية بالمعنى الأكسيولوجي وخاصة فن الشعر والإيتيقا.
بيد أن الخطة المنهجية الرئيسية تتمحور حول اعتماد العلم السياسي الذي كان أرسطو قد عرفه بدقة في بداية كتابه إيتيقا إلى نيقوماخوس في تحليل المشاكل الفلسفية والشبكة المفاهيمية الواردة في السياسات4[4].
للإشارة أن أرسطو يطرح في كتاب السياسات العديد من القضايا مثل العلاقة بين المدينة والمواطنين والمواطنة ومعضلة السيادة ودور اللغة في السياسة وبالتحديد السياسة بين الخطابة والسفسطة ومنطق الحرية وعناصر القانون والفلسفة التطبيقية والعلم السياسي ووحدة المدينة وشروط السعادة العمومية وفكرة الطبيعة في السياسة وعلاقة الحرب بالطبيعة وصورة الإنسان في الفكر السياسي وتحليل ظاهرة الطغيان والعبودية ودور التخيل في البحث عن الخير العام للمواطنين والصلة بين الديمقراطية والتعقل.
لكن ما تفسير المصير السيئ الذي آلت إليه الفلسفة السياسية عن أرسطو؟ ولماذا تعرضت للإهمال والتشويه؟ وماهي مكوناتها النظرية ومقدماتها الأولية وتجاربها التطبيقية؟ وما علاقة التفكير بالممارسة لدى اليونان؟ وأين يكمن الخلل في هذه السياسة وتم تسجيل أشياء سلبية؟ وهل تتضمن بعدا ايجابيا يمكن المراهنة عليه؟ ولماذا عزف القدامى عن العودة إلى الكتب السياسية الأرسطية؟ هل كل السلطات تنطلق من نفس المصدر؟ والى أي مدى تكون الطاعة أمرا طبيعيا؟ من الذي يجوز له أن يتحكم؟ وماهو النظام السياسي الأحسن؟ أي منزلة للعدالة في السياسة؟ وماهي أسس النظام الديمقراطي؟ ولماذا وكيف يجب على الناس أن يعيشوا بصورة مشتركة؟ وكيف جعل أرسطو من المدينة محور تفكيره السياسي وإطار تشريعه الحقوقي؟ وأي تصورات إصلاحية وتوجيهات تربوية قدمها للإغريقيين؟ وكيف بقيت أفكاره السياسية حاضرة في الحقبة المعاصرة وتغذت منها السياسة عند ماكيافيلي وماركس ومونتسكيو وأرندت؟
يمكن تقسيم اللحظات المنطقية التي تساعد على التفكير في هذه الإشكالية إلى ما يلي:
– البعد الطبيعي للسياسة
– منزلة العلم في السياسة
– حضور الإيتيقا في السياسة
ما يتم المراهنة عليه في ها المبحث هو تجاوز المعاملة السيئة والنظرة السلبية التي تعرضت لها أفكار5[5] أرسطو السياسية والعمل على تخليصها من النقائص التي تعوزها وغربلة الجيد من الرديء في متونها.
من المعلوم أن كتاب السياسة عند أرسطو الذي كان مفقودا في لغته الأصلية منذ قرابة 2000 سنة قد تمت استعادته منذ 750 سنة وتراوحت تسمية العنوان بين إطلاق المفرد سياسة politique والجمع سياسات politiques ولقد حدث ذلك على يد الشارح والمترجم نيومان في أربع مجلدات ما بين سنة 1887 وسنة 1902 والصادر عن أوكسفورد ، وفي هذا الإطار قام جان تريكو بترجمة سياسة أرسطو عام 1962 بتكليف من دار فران وكان جان أوبونات بصدد ترجمته منذ 1960 وامتدت إلى سنة 1989 ضمن مطبعة الرسائل الجميلة ولكن الترجمة الدقيقة التي لقيت نجاحا كبيرا هي التي أنجزها بليقرين سنة 1990 بعنوان السياسات وأصدرها سلسلة ج ف عن دار فالماريون وأرفقها بمقدمة عميقة ومتأنية وشملت إشارة إلى الصعوبات التي تعترض كل باحث في البيبلوغرافيا الأرسطية وما ضمته من مخطوطات ومراسلات.
ان الصراع بين الأغنياء والفقراء هو الذي يمزق المدن ويضعفها وان الديمقراطية التي تقود الى استبداد الفقراء هي أكثر خطورة على المدينة من استبداد الأغنياء وان النظرة الواقعية للمدينة أفضل من المثالية.
لقدد سعى أرسطو من خلال مقارنة المدن ببعضها الى ايجاد المبدأ المؤسس لحياة سياسية جيدة خالية من الفساد ومليئة بالفضيلة، لكن بأي معنى عمل أرسطو على التعامل مع الإنسان بوصفه سياسي بالطبع؟
– 1– البعد الطبيعي للسياسة المعيارية:
” ينبغي إذا أن يعرف في الكائن الحي وجود سلطة تشبه سلطة سيد وسلطة حاكم معا”6[6]
لقد أضاع الفكر البشري السياسة التي كان أرسطو قد وضع فيها قدراته الفلسفية على الاستقراء التجريبي والسرد التاريخي والتنظير الفلسفي والبرهنة على الممارسات الاجتماعية والتنظيم الإداري والقانوني.
عندما حاول البعض الالتفات إلى الفلسفة العملية الأرسطية في القرون الوسطى فإنهم أدخلوها ضمن نقاشات غريبة عن تصوراتها وبعيدة عن مشروعها ووضعوها في أنساق ميتافيزيقية فاقدة للقيمة النظرية والنجاعة الميدانية وطارحة لأنظمة فاضلة ومدن مثالية وقد قام بذلك أبي نصر الفارابي وغونديسالينوس.
إذا كان أرسطو قد عانى من النظام الملكي حيث مسقط رأسه ومكان ولادته بمقدونيا وعاصر الفترة التي بدأت فيها المدينة الدولة بالاختفاء من اليونان وذلك بزحف الحكم الأوليغارشي عليها فإنه قد تتطلع لنظام سياسي متوازن يمنح المواطنة إلى الأسياد ويعطي استقلالية للمدينة وينظم الحياة العامة للمجتمع بالقانون.
بيد أن بعض المدن حافظت على استقلاليتها الجزئية داخل الدولة التي تشكلت في فترة لاحقة وتراوح وجدها بين الازدهار والاضطراب وتعرض الاجتماع المدني لخلع عن السياسة وانحراف عن الطبيعة.
لقد تبنى أرسطو منزلة متروية حول طبيعة الحكم السياسي الذي يسهر على تحقيق السعادة في المدينة وبحث عن الحد الأوسط بين ملكية الأثرياء للسلطة وحق الفقراء في الثورة وراهن على بلوغ التوازن الذي تحدثه الطبقة الوسطى الأرستقراطية من أجل تحقيق الاستقرار والسؤدد في الجمهورية المعتدلة.
لكن كيف وقع أرسطو في تبرير وضع العبودية بالنسبة للإنسان؟ وألا يوجد تناقض بين المدنية والعبودية؟
لم يكن أرسطو من الأسياد ولم يمارس السياسة ولم يتمتع بالحرية المدنية التي يحق للمواطنين التمتع بها بالنظر إلى ولادته في نظام ملكي وبالرغم من ذلك سعى بكل جهده إلى أن تكون المدينة هي الشرط الذي يمنح الوجود السياسي معناه والإطار العام الذي يوفر للمواطنين حياة سياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
يتكون كتاب السياسة من ثلاثة مقدمات:
– المدينة هي جماعة تاريخية يتم تنظيم العلاقات بين أفرادها بحكم القانون..
– كل جماعة تسعى إلى خير خاص بها.
– الجماعة السياسية هي تلك التي تكون سيدة على الكل وتدمج كل الآخرين
– المدينة لها كغاية الخير الأسمى.
-الخير الأسمى هو الخير الخاص الذي تستهدفه الجماعة السياسية التي تمتلك السيادة على نفسها.
-الأسرة هي الجماعة الأساسية للمدينة
– ترتكز العبودية على جذور أخلاقية وكوسمولوجية ومنطقية.
-المدينة العادلة هي التي تحقق السعادة من خلال العيش المشترك
– يبحث الحاكم العادل عن النظام السياسي الأكثر اتزنا ومواءمة
– يدافع النظام السياسي الديمقراطي على السيادة الشعبية
إذا كان الناس يعيشون بصورة مشتركة في المدن فهذا ليس لأنهم لا يمكنهم أن يفعلوا أشياء أخرى فقط وإنما من أجل أن يبلغوا أعلى الدرجات والمراتب وأن يحصلوا على أفضل الخيرات والفضائل التامة.
لقد مثل كتاب السياسات لأرسطو محاولة فلسفية جديرة بالاحترام في سبيل تحليل وتأسيس ومنح المبرر الإيديولوجي لهذه الظاهرة الاجتماعية التي مثلت حقيقة أساسية للعالم اليوناني والتي تسمى العبودية.
لقد جعل أرسطو من المدينة الدولة من حيث هي الوجود الضروري و الحقيقة الطبيعية شرط الحياة الاجتماعية والفضاء المواطني الذي يقدر ضمنه كل كائن بشري على تحقيق إنسانية بصورة تامة.
لقد عارض أرسطو بهذا التصور الطبيعي للنظام السياسي المدني تصورا اصطلاحيا للنظام السياسي كان قد مثله السوفسطائيون مثل برتاغوراس وأنطيفون ولوكوفرون الذي ذكره في الجزء الثالث من السياسات.
لقد أعلن أرسطو في الفقرة التاسعة من الفصل الثاني من الجزء الأول من كتابه السياسات عن أطروحته والتي تتمثل في ما يلي:”الإنسان هو حيوان سياسي بالطبع”، وتعتبر هذه القضية المبدئية حجة مركزية على طبيعانية المدينة وبرهنة على خروج المدينة بشكل طبيعي من التجمعات والأزواج والأسر والقرى التي مثلت غاية لها بصورة طبيعية وبالتالي مثلت المدينة غاية الشركات البشرية حيث يبلغ فيها الإنسان حالة من الامتلاء والرضا ضمن حياة سهلة وحياة حسنة بالمعنى الأخلاقي وحياة جيدة وحياة سعيدة.
لقد صارت المدينة هي المكان الذي يتحقق فيه بصورة تامة هذا الوضع الماهوي للحياة البشرية السعيدة التي يسميها أرسطو الاستقلالية أو الحكم الذاتي من حيث هو سيطرة مطلقة على الاقليم وتحكم تام في المجال من طرف السكان وتستمد السيادة من ذاته وتسمى أوتارسي وهذا ما يفيد حكم الذات بالذات7[7].
لقد تصور أرسطو المدينة على أنها تشبه الكائن الحي وقرانها بالجسم واعتبر المدينة الحقيقية ليست فقط مكتفية بذاتها وإنما هي قادرة على إنتاج بشكل طبيعي المعيار الذي تشتغل وفقها ويمنحها السيادة الكافية.
كما يشير أرسطو إلى أن السيادة تنقص في المدن المختلطة والتي تم تأسيسها بطريقة اصطناعية وتختفي في المدن التي يتم ضمها إلى بعضها البعض في المملكات الكبرى وتكون عرضة للاستعمار والإلحاق، بينما “عرق الهلينيين يظل قادرا على حكم كل الشعوب لأنه يكاد يصل إلى امتلاك تنظيم سياسي موحد”8[8]. فما طبيعة المبحث السياسي عند أرسطو؟ هل يتعلق الأمر بفلسفة سياسية أم علم سياسي؟
2- منزلة العلم في السياسة:
” ولن نغفل في هذا البحث أي مبدأ من المبادئ الديمقراطية ولا أي نتيجة من النتائج التي تتفرع عنها”9[9]
يتضمن كتاب السياسات ثلاثة مفارقات تدور صعوبة تعريف المواطن وتحديد النظام السياسي الجيد والطريقة التي يمكن اعتمادها في الحكم ويمكن طرحها وفق الأسئلة الثلاثة التالية:
– ماهو المواطن الصالح؟ هل أن الإنسان الفاضل هو المواطن الصالح؟
– ماهو النظام السياسي الجيد؟ هل هو النظام الشعبي أم النظام النخبوي؟
– ماهو المعيار الذي يمكن اتبعاه لتنظيم شؤون المدينة؟ ما الفرق بين مدينة التشابه ومدينة الاختلاط؟
يطرح أرسطو مسألة التعقل ضمن إطار البحث العلمي عن الحد الأوسط بين الشعب والنظام الحاكم ويحاول فهم طبيعة التعدد التي تتميز بها الأنظمة السياسية ويعمل على تصنيفها وتمييز الجيد عن المختلط ويبحث عن أسباب فشل أولى الديمقراطيات التي عرفتها الإنسانية في التاريخ وكان مسرحها أثينا وحلل التنظيم السياسي للمدينة وتوزيع السلطات ومعضلة المساواة ومسألة العبودية وصلة السياسة بالهيمنة.
لقد عد أرسطو الفيلسوف الذي أمكن له تحديد بشكل حصري خصوصية السياسي من بين الإغريقيين كلهم لكنه لم يراهن على مفهوم الحياة السعيدة الذي ظل بعيدا عن وضع المعيار الذي به يحدد السجل السياسي.
لعل الإنسان هو الكائن الوحيد الموهوب بالسياسة لأنه يقدر على التمييز بين الضار والنافع وبين العادل والظالم ويستعمل الكلام للتعبير عن حاجته وفي التعاون مع غيره على خلاف عدم الاكتمال عند البرابرة.
لقد بنى أرسطو نظريته السياسية العلمية من خلال نقده لنظرية أفلاطون في الجمهورية المثالية والذي كان قد رفض أن تكون المدينة مجرد تجمع بشري بالاتفاق وفسر وجودها من خلال ديناميكا الحاجات البشرية بالنظر إلى أن الأفراد لا يقدرون على إرضاء أنفسهم بأنفسهم ويحوزون على استعدادات مختلفة ومتنوعة ومتفاوتة وبالتالي يحتاجون إلى التعاون والاجتماع قصد تلبية الحاجات وتحقيق المنافع العامة بالتبادل10[10]. على خلاف ذلك يرى أرسطو أن الأفراد الذين يتجمعون إراديا في عدد من المدن يضعون هدفا مشتركا لوجودهم المدني ويعيشون على وعي تام به ويعملون بجدية على تحقيقه ويتمثل في بلوغ الحياة السعيدة، ولكنه لا ينبغي أن يفهم بأنه إشباع تام للرغبات وإنما يتنزل في مستوى عال ومطلق من الحياة الإنسانية11[11]. كما يقوم أرسطو بتعميم الخصائص التنظيمية التي تتميز بها المدينة على كل المجالات الأخرى ويوجه نقدا للتراث السقراطي الكاره للديمقراطية الذي استمر مع أفلاطون وأكزينوفان والذي دأب على تصور علاقة الحاكم بالمحكومين من نوع العلاقة الطبيعية بين الأب وأفراد عائلته والعلاقة الاجتماعية بين السيد والعبد, والحق أن المدينة الأرسطية ليست عائلة كبيرة والحاكم ليس السيد الذي يتصرف في الرعية مثل تصرفه بممتلكاته وما يثير الاستغراب في حقيقة الأمر عند أرسطو هو عدم اعتراف أفلاطون بوجود مدينة سعيدة وعدم اعتباره الحياة السعيدة المبدأ والغاية لكل حياة في المدينة وذلك لمجرد وجود أناس في هذه المدينة أشقياء. فهل يمكن أن تكون المدينة بالمعنى الأرسطي هي انفتاح في فضاء العقلانية التي تنتزع الناس من ظلامية تضامنهم الأسري والعشائري؟ ولماذا حكم أرسطو على أفلاطون بأنه لم يكن يعرف خصوصية السياسي؟
تتفق الحياة المدنية civique بشكل مقبول مع التروي والتدبير العقلاني وتحترم القوانين والعادات وتكون موجهة في الأساس إلى الكائنات العاقلة وتعمل في ذات الوقت على تنمية ملكة العقل والإرادة والتفضيل.
كما أن الكائنات الناقصة مثل العبيد والنساء والأطفال والغرباء والمرضى الذين فقدوا قسما هاما من مداركهم العقلية وقواهم البدنية وصاروا غير مؤهلين للسكن في المدينة وبالتالي لم يبقوا كائنات سياسية.
إذا كان أفلاطون قد أخرج الجماعات ما قبل سياسية من المدينة واختزلها ورماها في دائرة اللاّمعقول وكاد أن يحطم العلاقة الأسرية من خلال بعض الدعوات المثالية إلى نوع من الشيوعية المشاعية فإن أرسطو احتفظ بها في المدينة وتجاوزها للعناية بالمواطنين العقلاء الذين يتصرفون وفق أوامر القوانين.
كما يطالب أرسطو أيضا بأن يترك الخيار للأسرة لكي تعتني بالأفراد وتمنح المدينة سكانا صالحين ويمكن للمؤسسات المدنية أن تستعملهم في أدوار سياسية وفي نشر ثقافة حب الوطن والتضحية والعمل من أجله.
يظهر الاختلاف بين أرسطو وأفلاطون حول مفهوم السياسي وحول طبيعة الوحدة التي تتشكل من خلال انصهار المواطنين وتعتبر أقل من حيث القوة من تماسك العائلة ولكنها تكون أكثر عقلانية وتنظيما منها.
فالمدينة لا يمكنها أن تتحمل وجود أناس متماثلين وأن تتشكل من المتشابهين بل من مواطنين يختلفون بشكل نوعي فيما بينهم وتكون هذه الفوارق القائمة بينهم أكثر وضوحا واتساعا من الفوارق البيولوجية ، فحتى داخل نظام سياسي يعتمد آلية المساواة بين أفراده توجد اختلافات في الأدوار التي يقومون بها.
هكذا لا يحصل الأفراد على السعادة بالمشاركة التلقائية في المدينة بل من خلال سياسة مجتمعاتهم الأصلية وجعل غاية الاجتماع السياسي الذي يكونه المواطنين في المدينة تحقيق السعادة المشتركة والحياة الجيدة. إن السياسة الأفلاطونية هي معمارية بالمقارنة مع الأنشطة الأخرى ولذلك هي تضع نفسها في خدمتها بينما السياسية الأرسطية هي صناعة ريادية تشرف على مهام التنظيم وتشجع التبادل بين المواطنين. ولا تقوم المدن على أنقاض التجمعات السكنية السابقة عليها ولا تتقوى المشاعر الوطنية والغيرة على المدينة بأواصر القربى العائلية ولا توجد نماذج سابقة على الحياة السياسية يمكنها أن تقوي تماسك المدينة وإنما الصداقة السياسية بين المواطنين في تجمعاتهم هي التي يعتمدها المشرع في تحديد نظام العدالة لهم. كما تعتبر قيمة الصداقة أشمل من قانون العدالة لأن العدالة تعني إعطاء كل ذي حق حقه وفق قوانين المدينة بينما الصداقة هي تشبه فضيلة تضحية الأب من أجل أبنائه وقبول بالضرر من أجل إفادة الناس الغرباء. لكن ماهي العلاقة بين السياسة والأخلاق عند أرسطو؟
III- – حضور الإيتيقا في السياسة
“البحث الإيتيقي هو شكل من السياسة “12[12]
السياسة العادلة عند أرسطو هي الإيتيقا بامتياز وذلك لأن الحياة في المدينة هي شرط ضروري لتحقيق السعادة ولكنها غير كافية وتحتاج إلى التزام بجملة من القواعد الإيتيقية مثل العيش المشترك وإصابة الحد الأوسط وتحقيق التلازم بين العدالة مع الأقرباء والصداقة مع الغرباء والمواءمة بين السياسة والإيتيقا.
إن الفضيلة الإيتيقية هي الشرط الرئيسي الذي تحقق من خلاله السعادة من حيث هي غاية كل نشاط بشري والهدف الذي يسعى كل الأفراد إلى إحرازه من خلال تكوينهم الإيتيقي في عدة وضعيات خاصة ملموسة.
يصل المرء من خلال ممارسته الطويلة للفضائل المختلفة إلى حالة من التحكم في الذات والسيطرة على الأهواء وقيادة الانفعالات بحيث يتفادى بترو الوقوع في الإفراط أو التفريط ويصيب معقل الحد الأوسط.
يقتني أرسطو أثناء بحثه عن الفضيلة و السعادة جملة الماهيات التي يهتم بها البحث الإيتيقي من السياسة ويرنو من وراء ذلك تحقيق حياة مفعمة بالإنسانية يقدر فيها الناس على فعل ما يرغبون فيه بجودة وإتقان.
تتكون الإيتيقا عند أرسطو من ثلاثة عناصر أساسية تتمثل في مرحلة أولى في المكانة التي تحتلها كل من العدالة والحد الأوسط، وفي مرحلة ثانية هي إعطاء القيمة الكاملة للبعد الاجتماعي على خلاف الأخلاق الرواقية والأبيقورية التي تهتم بالفرد من جهة سعادته وبقائه ، أما في مرحلة ثالثة فهي ترتبط بالتجربة الفلسفية وتنغمس في الحياة التأملية وتعرض النشاط الإنساني على محك التمرين الفلسفي ومعيار الحكمة.
بهذا المعنى تكون إيتيقا الحاكم العادل هي ماهية الحكمة الإغريقية وغاية الحياة السياسية السعيدة وذلك من خلال احترام القانون ومعرفة الذات بالذات وتأمل نواميس الكون والعمل بمقتضاها وإتباع لوازم الفضيلة.
من هذا المنطلق يكون الحاكم مطالب بمقاومة كل أشكال التشويه والتحريف التي يمكن أن تتعرض لها الحياة السياسية عندما تبتعد عن غاياتها ويتم استعمال وسائل غير مناسبة أثناء ممارسة الحكم والإدارة.
على هذا النحو يرفض أرسطو أي اختراق للقوانين باسم المصلحة الخاصة ويدعو إلى الالتزام بالقواعد الأخلاقية والانسجام مع الطبيعة وينبه من الإفراط أو التفريط وينصح بملازمة الاعتدال والتروي والتعقل والتوسط في كل شيء قصد تجنب الألم والشقاء والعنف ويشير إلى أهمية التوازن بين القوى والفضائل.
لقد فتش أرسطو عن المنزلة الوسطى بين غياب الحرية بسبب العبودية والحرية دون قاعدة وضوابط بسبب ضغط الحاجة الطبيعية وهيجان الرتبة الاجتماعية وتوقف عند الحياة الجيدة المليئة بأعمال الخير. لقد حذر أرسطو من ادخال المال في الحياة السياسية وما يترتب عنه من طغيان وبروز لحق الأقوى وأنظمة العبودية والاستيلاء وإفساد النظام الطبيعي ونادي باعتماد أشكال أخرى من المعاملات بين الناس في النشاط التجاري وتفعيل المقايضة وتبادل للمنافع وفق قيم متكافئة للبضائع ورضا الأطراف المشاركة. فكيف يؤدي معرفة اللاّنظام وتعقل الفوضى إلى ترسيخ النظام وتشييد العدالة في المدينة السياسية؟
خاتمة:
” لقد كان أرسطو الأسكندر المقدوني للفلسفة الإغريقية” بالرغم من أن أرسطو يبدو لنا الآن ضاربا في القدم إلا أن كتبه مازالت شابة وتثير فينا الكثير من الإلهام وتصوره للسياسة من حيث جمعها بين العدالة والاستقامة وبين الفضيلة والسعادة وبين التربية والمواطنة بقي إلى حد الآن المنوال الإيتيقي الذي يمكن للأفراد والدول على السواء اعتماده بغية تحصيل الازدهار.
لقد أفلح أرسطو في توجيه فلسفته الأخلاقية نحو الخيرات الدنيوية من خلال تأمله للخير الأسمى ونحج في إيجاد ترابط موضوعي بين السياسة الخالية من الطغيان والتسلط والعنف والحياة الاجتماعية المدنية وتنظم بواسطة الدساتير والخاضعة في مختلف مستوياتها لسلطة القانون ولغة التعاون بين الأفراد وتبادل المنافع.
لقد أقر أرسطو أن الحياة الإنسانية الحقيقية تكون ضمن الفضاء السياسي وأن بلوغ الحياة السعيدة هو تحقيق الغايات المطلقة للنفس البشرية ضمن الوجود العادل الذي توفره المدينة السعيدة التي تمنح الأفراد الرضا على أنفسهم وتدفعهم للعمل المنتج والنشاط الخلاق وعدم الاكتفاء بالنظر العقلي والتأمل المجرد.
لقد تحدث أرسطو عن الصداقة والإنصاف ضمن النظام السياسي العادل وأوجب على المشرع السياسي إصلاح الأخطاء التي يقع فيها القضاة عند تطبيق القوانين بصرامة وتمسك بمبادئ الأخلاق الاجتماعية وألزم الأفراد بضرورة التوافق في مصالحهم مع مصالح المدينة ووجه العدالة لمعرفة تقلبات الظروف وتغير الأحوال وحسن التعامل مع الوضعيات الخاصة وإيجاد الحلول المناسبة عند الطوارئ والأزمات.
اذا كانت المدينة من الأمور المدنية وكان الإنسان حيوانا سياسيا بالضرورة13[13] فذلك مرده أن غالبية البشر يحوزون على قابلية للحياة الاجتماعية أكثر من أي كائن حي آخر وعلى استعداد للتعاون والتشارك في تدبير الشؤون العامة وعلى الخضوع والتنازل والنظر العميق والبصيرة البعيدة أكثر من غيرهم. على هذا الأساس لا يكون الوجود السياسي بالاتفاق وبالقوة وإنما بالطبع وبالضرورة الكونية لأن الطبيعة لا تفعل شيئا عبثا ولأن خاصية النطق التي تنفرد بها الكائنات البشرية تساعدها على التمييز بين الضرر والنفع والشعور بالخير والشر والإحساس بالظلم والعدل وتفضيل إنشاء الأسر وتنظيم المدن والابتعاد عن حياة التوحش والعدوانية والحرب والخضوع للقوانين ومستلزمات الحياة الجماعية وقيم الإيثار والألفة. لكن إذا كان أرسطو قد بجل سعادة المدينة على سعادة الأفراد فإنه ربط المواطنة بالانتماء الفرد إلى الدولة ولم يقوم بتوسيع دائرة المواطنة بصفة كونية عالمية لكي تشمل جميع الفئات والأجناس والأعراق والناس.
فلماذا رفض أرسطو رفضا غير مبرر أن تكون الحرية هي المبدأ الذي ترتكز عليه الحكومة الديمقراطية؟ وكيف تتحرك سياسة العدالة الاجتماعية ضمن دائرة الخير العام للسكان وتحرص على توفير شروط الحياة الجيدة للمواطنين؟ والى أي مدى تخطى أرسطو الجمهورية الفاضلة نحو الديمقراطية الاجتماعية؟
الإحالات والهوامش:
[1] Aristote, Ethique à Nicomaque , I, 1, 1094 a 26-b7 .
[2] Sir Frederic Kenyon
[3] Pierre Pellegrin, Aristote, in Dictionnaire de philosophie politique, sous la direction de Philippe Raynaud et Stéphane Rials, édition PUF, Paris, 1996, pp28-36
[4] Enrico Berti, Phronesis et science politique, in Aristote politique, études sur la politique d’Aristote, sous la direction de Pierre Aubenque, publiées par Alonso Tordesillas, édition Epiméthée, PUF, Paris, 1993.p437.
[5] La politique d’Aristote ou la Science des gouvernements, traduit par le citoyen Champagne en 1797.
[6] أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل، بغداد، بيروت، طبعة 2009،ص105
[7] Autonomie , autoracie, autorakeia
[8] Aristote, Les pol
[9] أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل، بغداد، بيروت، طبعة 2009، ص380.
[10] Platon, la république, II, 369 b. 370 a.
[11] Pierre Pellegrin, Aristote, in Dictionnaire de philosophie politique, sous la direction de Philippe Raynaud et Stéphana Rials, Édition PUF, Paris, 1996,p30.
[12] Aristote , Ethique à nicomaque, I,1, 1094 b 10.
12- أرسطو، في السياسة، ترجمة الأب أوغسطينيوس بربارة البولسي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، الطبعة الثانية، 1980.
المصادر والمراجع:
اللسان العربي:
أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل، بغداد، بيروت، طبعة 2009.
أرسطو، في السياسة، ترجمة الأب أوغسطينيوس بربارة البولسي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، الطبعة الثانية، 1980.
اللسان الفرنسي
Aristote, les politiques, traduction inédite par Pierre Pellegrin, GF Flammarion, Paris , 1990
Jean Terrel, la politique d’Aristote , la démocratie à l’épreuve de la division sociale, édition Vrin, Paris,2015.
Francis Wolff, Aristote et la politique, édition PUF, Paris, 1991.
Aristote politique, études sur la politique d’Aristote, sous la direction de Pierre Aubenque, publiées par Alonso Tordesillas, édition Epiméthée, PUF, Paris, 1993.
Dictionnaire de philosophie politique, sous la direction de Philippe Raynaud et Stéphana Rials, Édition PUF, Paris, 1996,
*كاتب فلسفي
[1] Aristote, Ethique à Nicomaque , I, 1, 1094 a 26-b7 .
[2] Sir Frederic Kenyon
[3] Pierre Pellegrin, Aristote, in Dictionnaire de philosophie politique, sous la direction de Philippe Raynaud et Stéphane Rials, édition PUF, Paris, 1996, pp28-36
[4] Enrico Berti, Phronesis et science politique, in Aristote politique, études sur la politique d’Aristote, sous la direction de Pierre Aubenque, publiées par Alonso Tordesillas, édition Epiméthée, PUF, Paris, 1993.p437.
[5] La politique d’Aristote ou la Science des gouvernements, traduit par le citoyen Champagne en 1797.
[6] أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل، بغداد، بيروت، طبعة 2009،ص105
[7] Autonomie , autoracie, autorakeia
[8] Aristote, Les pol
[9] أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل، بغداد، بيروت، طبعة 2009، ص380.
[10] Platon, la république, II, 369 b. 370 a.
[11] Pierre Pellegrin, Aristote, in Dictionnaire de philosophie politique, sous la direction de Philippe Raynaud et Stéphana Rials, Édition PUF, Paris, 1996,p30.
[12] Aristote , Ethique à nicomaque, I,1, 1094 b 10.
[13] أرسطو، في السياسة، ترجمة الأب أوغسطينيوس بربارة البولسي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، الطبعة الثانية، 1980.
التعليقات مغلقة.