مجزرة فضّ الاعتصام.. الليلة التي تحوّلت فيها الخرطوم إلى دافور / أمينة الأحمد
أمينة الأحمد ( السودان ) الثلاثاء 18/6/2019 م …
أواسي نفسي إنهم كانوا يقدّرون الخطر ويعرفونه، ربما لم يتخيّل أيّ منهم فظاعة ساعات فضِّ الاعتصام، لكنهم اختاروا الثورة يوميّاً بإصرار. الصمود يجعل الموتَ أنبل والعذابات أقلَّ عبثيّة.
لقد مات طليعة ثوّارنا، نوافذ الأمل في عتمة الخرطوم الكئيبة، مات من صنع في قلب بؤسنا ويأسنا مدينةً فاضلةً صغرى، كنموذجٍ لما يمكن أن يكون عليه الحال لو زال النظام. ماتوا وتركوا لنا ثورةً تتأرجح وتستند على من نجى منهم بجراحهم وآلامهم.
لقد مات طليعة ثوّارنا، نوافذ الأمل في عتمة الخرطوم الكئيبة
مات شباب الاعتصام اللذين يدين لهم كلّ سوداني بمساحة الحرية المقتطعة من سلسلة القمع المتواصل منذ 30 عاماً، حريّة مؤقتة لمدّة شهرين، هما عمر اعتصامهم أمام قيادة الجيش. منحة الحرية تلك لم يطلبها المواطنين كلّهم، لقد أعطيت لنا بلا تمييز حتى لمن هو ضدّ الثورة.
لن تُمحى عن الخرطوم الدماء إن لم نحصل على حريتنا كاملةً كما أرادوا ومعها السلام والعدالة. السلام الذي يمنع إعادة الجرائم، والعدالة التي ينبغي أن تبدأ بالقبض على مجرمي المجلس العسكري الانقلابي، ومحاسبة كلّ متورّطٍ في مجزرة السودان، التي تبدو لي حتىّ الآن كابوساً يفوق حدود أظلم خيالاتي.
أرجو أن تعذرني أيها القارئ، أن تعذريني أيتها القارئة، فالكآبة محصّلة طبيعيّة للغدر ولهذه المرحلة.. وإليك ما أعلم به عن ليلة التاسع والعشرين من رمضان، خلفيّاتها وما أظنّها تعني.
الجنجويد وحميدتي في العاصمة والثورة
لعلّ العالم أجمع سَمِع بجرائم نظام البشير في إقليم دافور عام 2003، والتي ظلّت تتكرّر لأعوامٍ. بشاعة ما حدث آنذاك، جعل السودانيين يتشبّثون بكذبة النظام، حتى بعد إدانة محكمة الجنايات الدوليّة لعمر البشير وعددٍ من رؤوس الشرّ، ممن خططوا ونفّذوا عمليّات الإبادة الجماعيّة في إقليمٍ كبيرٍ غرب البلاد، شهد في الماضي إحدى أعظم حضاراتنا، مملكة الفور.
في السنوات الأخيرة من مأساة دافور الطويلة، ذيّلت صحيفة المذابح باسم قائد مليشيا يدعي حميدتي (محمد حمدان دقلو)، تُسمى مليشيّاته بالجنجويد. بعد محاولة البشير إنهاء الاقتتال هنالك، أحضر حميدتي ورجاله إلى معسكر على أطراف العاصمة وأطلق على الجنجويد اسم الدعم السريع.
حسب المجلس العسكري، فإن حميدتي، الذي قرّبه البشير ومنحه رتبة فريقٍ دون أيّ دراسةٍ أو تدريبٍ في الكليّة الحربيّة، ساند الثورة وانتصر للمواطن ورفض فضّ الاعتصام كما أراد الرئيس المخلوع المختفي.
إذن فضُّ الاعتصام متوقّع، القتل في حرم الاعتصام له سوابق، وخذلان الجيش للثوّار مجرّب، المفاجأة كانت في التوقيت والتنفيذ.
اعتصام القيادة، دافور الجديدة
صدّق من شاء أكذوبة شرف مجرم حرب دافور، وعليه صار مقبولاً كنائبٍ للمجلس العسكري و طرفٍ في المفاوضات الانتقاليّة، بينما ظلَّ طليعة الثوّار لا يثقون بالرجل ويتذكّرون هتاف نبذ العنصرية من يناير الماضي: “يا عنصري ومغرور .. كلّ البلد دافور”، فالقبول بحميدتي هو إهانةٌ لضحايا دافور. بعد شهرين من الأخذ والردّ، حقّق المجلس العسكري الهتاف، كما لو كان نبوءةً وحوّل ساحة الاعتصام لدافور جديدة.
أيام قبل المجزرة
عندما تستمع للرواية الأولى التي ساقها العساكر للعالم، بينما قطعوا الإنترنت عن البلاد وحاولوا إخفاء تفاصيل الجريمة، تَرِدُ منطقة كولومبيا كذريعة.
كولومبيا باختصار، وكرٌ صغير لبيع المخدّرات والخمور وتعاطيها، تقع بالقرب من محيط الاعتصام. مكانٌ صغيرٌ، محدود الزوّار ويمكن السيطرة عليه بضابط مكافحة مخدّراتٍ واحدٍ مع رجال وحدته.
تمّت شَيْطَنَة المكان وتأليب الثوّار عليه، وقُتل شاب وامرأة بالقرب منه قبل أيامٍ من اقتحام الاعتصام. كولومبيا لا تستحقّ الإبادة، هذه بديهيّة يعجز المجلس العسكري عن ملاحظتها وهو يسرد وقائع ملاحقة مرتاديه، ما أدّى لمذبحة 3 يونيو، إنه العذر الذي يفوق الذنب قبحاً.
الكثير من الثوّار سمع عن تسريباتٍ بخصوص تدريباتٍ يتلقّاها الدعم السريع “الجنجويد” لفضِّ الاعتصام في صباح العيد. رغم ذلك ظلّوا يرتبون لصلاة العيد في الميدان، والجميع يقول إنها ستكون أشبه بالمليونيّة لكثرة المتحمّسين لحضورها.
قُتِل المعتصمون في أيام 8 و9 أبريل وفي الثامن من رمضان وفي العشر الأواخر قبل المجزرة بأيام. وبعد كلِّ حادثة قتل، يقول المجلس العسكري إنه غير مسؤول وإنه سيجري تحقيقات. في الأيام الأولى كان الجناة من قوات الأمن والمدافعون جنود وضباط في الجيش، في آخر الحوادث كان الدعم السريع من يحمل السلاح والجيش يقف بلا ذخيرةٍ ولا إرادة.
إذن فضُّ الاعتصام متوقّع، القتل في حرم الاعتصام له سوابق، وخذلان الجيش للثوّار مجرّب، المفاجأة كانت في التوقيت والتنفيذ.
ساعات المجزرة والهلع
بدأ الاقتحام الساعة الثانية صباحاً، واستمرّ حتى التاسعة تقريباً، حيث تحوّل المكان المزيّن بالجداريات والمليء بالتفاؤل إلى حطام ودخان يشبه منظر قرى دافور المحروقة، خالٍ من الثوار المدنيين العزّل اللذين اختاروا مبنى الجيش ليحميهم.
في بداية الهجوم، تخيّل المعتصمون أن صوت الطلقات الكثيف هو رصاص مطاطي، ثوان وظهر الدم ليعلموا أنها ذخيرةٌ حيّة. شهادات من حضر المجزرة وخرج حياً مختلفة باختلاف الزاوية التي احتلّوها من المشهد، والساعة التي تواجدوا فيها داخل الاعتصام.
الثابت هو تكرار فظاعات دافور بحذافيرها، حُرقت خيام الاعتصام كما حُرقت بيوت القشّ “القطاطي” هنالك. سُجّلت حالات اغتصابٍ جماعي للفتيات المعتصمات، “الجنجويد” مرّة أخرى يستخدم الاغتصاب كسلاح بالضبط كدافور.
الموت بالرصاص أهون النهايات في تلك الليلة الشنيعة، فهناك من كان نائماً في الخيام التي حُرقت، وهنالك من أُلقي بهم في نهر النيل القريب من شارع قيادة الجيش، وربطت أقدامهم بحجارةٍ تجرّهم للأعماق بلا عودة.
لماذا كلّ هذه البشاعة والعنف؟
الملاحظ في تخطيط الاقتحام ثلاثة أمور، أوّلاً إنهم هجموا من جهةٍ واحدةٍ وتركوا الجانب الجنوبي للاعتصام كمخرج، ثانياً إنهم لم يقتلوا المعتصمين كافّة وهم قادرون على ذلك، ثالثاً إنهم حرصوا على إغلاق الإنترنت مبكّراً، لدرجة أنني أشاهد الكثير من مقاطع الفيديو لأوّل مرّة، بعد عشرة أيام على فضّ المجزرة.
الطغاة يستخدمون الرعب لردع الشعوب.
حسناً، إن تفسيري لكلِّ ذلك هو أن المجزرة تهدف لنشر الذعر والهلع وبالتالي اقتلاع الثورة من جذورها، فالثورة قامت على أكتاف من غادرهم الخوف. كي ينتقل الخوف كالوباء فيهم، أن يُتركوا أحياء يقصّون الحكاية وتحمل أجسادهم آثار التعذيب وأذى الاغتصاب. وكي لا يتورّط الجناة بالأدلّة، قطعوا الإنترنت، وسيلتنا للتوثيق والحشد.
كان بالإمكان إخلاء الاعتصام عبر الغاز المسيل للدموع فقط، لكن المجزرة هي التي تكسر الروح، تذكّر بمجازر الكيان الصهيوني، تذكّر بمجازر رابعة في مصر، تذكّر بما يفعله بشار الأسد… فالطغاة يستخدمون الرعب لردع الشعوب. ها هم يحتلّون الخرطوم كالغزاة، كي نخاف ونرضى بحكمٍ عسكري أبدي.
رحم الله أرواحاً مضت للموت وقد هتفت طوال رمضان: “يا إنت يا وطنك … جهز عديل كفنك” وردّ الهتاف “جاهز”!
التعليقات مغلقة.