بعــض دروس الانتفــاضــة الســودانيـــة / هيئة التحرير
الأردن العربي – السبت 22/6/2019 م …
تقدم تطورات الانتفاضة السودانية كلما تعقدت ادلة جديدة على ان اي انتفاضة شعبية بدون وجود قيادة مركزية تستند الى تنظيم شعبي واسع ( حزب ثوري او جبهة ) تتحكم في مسارها طبقا للاهداف الستراتيجية المقررة مسبقا تتعرض للانحراف بل وللسطو عليها من قبل قوى ( الثورة المضادة ) ، فما ان ظهرت بوادر الانتصار الشعبي وعزلة نظام البشير حتى لاحظنا ان رجالات النظام خصوصا العسكر اتفقوا على ابعاد البشير واستلام السلطة لاعادة انتاج نفس النظام ولكن بوجوه جديدة.
الفرق الرئيس بين حالة السودان وبقية الاقطار العربية التي شهدت انتفاضات هو ان الانتفاضة السودانية نتاج ستراتجية وطنية سودانية وضعتها قوى وطنية متحدة في تحالف عريض هدفه انهاء نظام البشير، وهذه القوى ليست نخبا بلا جماهير بل هي قوى لها تاريخ عريق وجماهيرية واسعة وتجارب غنية، لذلك لم ينجح العسكر في احتواء الانتفاضة رغم تماهيهم مع شعاراتها فبقيت القوى الوطنية المتحدة متمسكة باهداف الانتفاضة وفي مقدمتها اسقاط النظام بكافة مكوناته خصوصا انهاء دور العسكر واقامة نظام مدني ديمقراطي وهي معتمدة على جماهير واسعة تحميها من التصفيات الفاشية وتتحرك وفقا لما تتبناه قيادة الانتفاضة، وهذا هو سبب عجز النسخة ( البشيرية المحسنة ) عن النجاح في احتواء الانتفاضة وافراغها من مضمونها التحرري والديمقراطي واطفاء لهيب الحماس الجماهيري الضخم، بينما لاحظنا في اقطار اخرى ان غياب القيادة الجماهيرية المجربة والقوية ورغم وجود جماهير هائلة منتفضة مقرونة بغياب ستراتيجية وطنية واضحة الاهداف وتحدد اهداف كل خطوة قد ادى الى احتواء الانتفاضات الاخرى وتمييعها .
وهناك فرق بين انتفاضة نخبوية بلا تنظيم ثورة جماهيري، وهو ما حصل في مصر وتونس مثلا، وانتفاضة تقودها تنظيمات شعبية عريقة وتستند الى جماهير واسعة وفي اطار ستراتيجية وطنية واضحة تحدد خطوات المسار الثوري ، و ان انتفاضة تقودها نخبة بلا جماهير منظمة في اطار ثوري ( حزب او جبهة ) محكوم عليها بالاحتواء وافراغها من محتواها الشعبي وتحويلها الى نسخة من النظام السابق مع تغيير الوجوه وسرقة الوقت لاجل انهاء حماس الجماهير المنتفضة .
ومن المهم تثبيت مفهوم الثورة التقدمي الذي يقوم على ان الثورة او الانتفاضة لايمكن لها النجاح وتجنب الاحتواء من قبل قوى الردة او المخابرات المعادية الا بوجود قوى وطنية تقدمية منظمة مستندة الى جماهير واسعة وستراتيجية واضحة ، وهذا مانراه الان في الانتفاضة السودانية الشجاعة ،والتي اعادت تأكيد المفهوم الثوري التقدمي للثورة والانتفاضة ووجهت ضربة قاضية الى المفهوم الشعبوي لهما والذي يقوم على اعتماد العفوية الثورية وغياب التنظيم الثوري وتجنب التخطيط الستراتيجي .
ولعل اخطر ما في المفهوم العفوي الشعبوي للانتفاضة والثورة هو انه يسمح بوجود دور ربما يكون خطيرا للمخابرات المعادية والتي تنشط عندما تظهر بوادر انتفاضة شعبية قوية لا تحميها قوى منظمة ومجربة وفعالة فتعمد الى احتواءها بتحريك من دربتهم – مثلا وائل غنيم وحركة شباب 6 ابريل في مصر- او انهم لايملكون تجارب عميقة فيكونون ضحايا شعارات غامضة تستغلها المخابرات المعادية لاحتواءهم وتحديد مسار الاحداث كما تريد، وهو ما حصل في اقطار غير السودان .بل ان وجود احتمال لاندلاع انتفضة شعبية تقدمية ووطنية يواجه بطرح بديل مشبوه مسيطر عليه مخابراتيا وفي هذه الحالة ينتهي باعادة انتاج النظام السابق بطريقة محسنة دون اقتلاع جذور الفساد والاستبداد والتبعية للغرب والصهيونية .
وما نلاحظة الان هو ان المخابرات الغربية تتظاهر بدعم الانتفاضة السودانية لانها تدرك بوضوح بان الانتفاضة تقودها قوى منظمة مستندة الى شعبية واسعة تكفي لفضح من يتأمر على الانتفاضة تحت غطاءها ثم عزله ،وهي توسط اطرافا متعددة وتدعو لحل سلمي لكنها في الواقع تدفع الوضع نحو حل يفضي الى استلام الحكم من قبل قوى تقليدية همشتها الجماهير وتطمح لاستلام الحكم بدلا من قيادة الانتفاضة الحقيقية ، وهذه النسخة اخذت تطرح بعد ان انكشف المجلس العسكري بعد المجزرة الفظيعة التي راح ضحيتها اكثر من مائة سوداني برئ ، وهذا خيار واضح الى حد كبير تدعمه انظمة عربية لا تتحرك الا باوامر امريكية فضحّت بالبشير الذي كان متعاونا معها بعد ان احترقت كافة اوراقه .
الدرس الاعظم الذي نؤكده هو ان الانتفاضة الشعبية كي تتحول الى ثورة شعبية تحررية وجذرية لا يمكن احتواءها من قبل قوى الردة او المخابرات المعادية تحتاج لقيادة وطنية مجربة تستند الى قواعد جماهيرية تثق بقيادتها، وستراتيجية وطنية متفق عليها ، وهذا متوفر في الانتفاضة السودانية وهو سر نجاحها الذي حرك الاحتياطيات المضادة التي اخذت تطل برأسها لاجهاضها والسطو على مسارها كما حصل في اقطار عربية اخرى منذ عام 2011 .
التعليقات مغلقة.