عن ناجي العلي في ذكراه الثامنة والعشرين ( ذكريات ومشاهدات )
عوني صادق ( فلسطين ) الإثنين 31/8/2015 م …
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
مساء الخير وأسعد الله أوقاتكم
إنه يشرفني أن أكون بينكم في هذه الليلة، ليس فقط لإحياء ذكرى فنان شعبنا المبدع، المناضل الشهيد، رسام الكاريكاتير الأشهر ناجي العلي لأنه حي رغم غيابه الجسدي منذ ثمان وعشرين سنة، بل لإحياء ما قد يكون مات من ذاكراتنا نحن. فأمثال ناجي لا يموتون، تحتفظ بهم شعوبهم قيما عليا ورموزا غالية تستمد منهم الهمة والعزيمة وروح الكفاح من أجل الحرية والتقدم. لكني إن أردتم الحقيقة، أشعر أني في ورطة! لماذا في ورطة؟ … لسببين: الأول هو أنه لم تعد مجهولة أية معلومة خاصة أو عامة تتعلق بناجي العلي، بدءا من مولده في قرية الشجرة، إلى مخيم عين الحلوة، وانتهاء بلندن! والثاني أنه مطلوب أن يكون حديثي في الجانب الإنساني، واستنادا إلى ما افترضه الأخ الصديق ابو الرائد من “علاقة شخصية” كانت تربطني بناجي العلي أتاحت لي، كما يعتقد، معرفة ما لا يعرفه غيري ! وعندما اتصل بي لأتحدث في هذه المناسبة، التي درج على إقامتها مشكورا منذ سنوات، حاولت بكل الطرق أن أقنعه أن الأمر ليس كما يتصور، لكنه أغلق في وجهي كل الأبواب، بل وأشعرني أنني أتهرب من واجب! وللحقيقة أقول: نعم لقد رافقت ناجي العلي في مواقع العمل لفترة قصيرة، وجمعتنا خارج العمل صداقة قامت أساسا على القناعات المشتركة والموقف السياسي الواحد، لكنني لم أكن ضمن ما يمكن تسميته “الحلقة الضيقة” لناجي العلي، إن كانت له مثل هذه الحلقة، والتي إن وجدت لم تكن لتتجاوز في رأيي الشخصي، تلك المجموعة الصغيرة التي جاءت معه أو لحقت به إلى الكويت، والتي عرفها في مخيم عين الحلوة وصيدا وصور وجوارهما اللبناني قبل وصوله إلى الكويت. وكل أو معظم من عداهم ممن كانت لهم علاقة بناجي، كانوا إما زملاء عمل، أو أصدقاء بالمعنى العام للكلمة. لذلك فإنني أشدد على أن ما ستسمعونه مني ليس “معلومات خاصة” بقدر ما هي ملاحظات ومشاهدات ومعها رأيي وانطباعاتي، والقليل منها فقط يستحق صفة “الخصوصية”. وقد وجب التوضيح حتى لا يحمل صاحب الذكرى وزر خطأ وقعت فيه أنا من هنا، أو مسؤولية عن تقدير خاطيء لي من هناك.
هل يعني ذلك أن نتوقف عن إحياء هذه المناسبة؟ بالطبع لا، ليس هذا هو المقصود، بل العكس تماما. فناجي العلي يستحق على المستوى الفلسطيني أن ينال من صور وأفعال التكريم والتعظيم والتخليد، مثل ما نال الشاعر الكبير محمود درويش، على الأقل، ودونما دخول في المفاضلة بينهما. فكلاهما ارتقى القمة في مجاله. لكني قصدت أن علينا أن نحيي هذه المناسبة بطريقة أخرى محتلفة عما جرى حتى الآن، دون أي تقليل من الجهد الفردي الكبير والمشكور الذي يبذله الأخ عبد الله حمودة في هذا المجال. وسأتي على ذكرما أراه في آخر حديثي الذي لن يطول.
على كل حال، بدأت معرفتي بالشهيد ناجي العلي أثناء حرب حزيران 1967. كنت قد وصلت الكويت قبل ذلك بثلاث سنوات، وعملت موظفا في شركة نفط الكويت، خارجا من تجربة صحفية قصيرة في عمان، ولم أكن راغبا ولم أعد بالفعل للكتابة والعمل الصحفي حتى وقعت الحرب. في تلك الأيام، التحقت كاتبا متطوعا في مجلة (الطليعة) الكويتية، وكانت لسان حال القوميين العرب في الكويت. دخلت المجلة ووجدت فيها ناجي، وكانت المرة الأولى التي ألتقيه فيها على مستوى شخصي. كانت زياراتي للمجلة في تلك الفترة مرة واحدة في الأسبوع أسلم فيها ما كتبت، واتنقل بين مكاتب المجلة أجالس هذا وأحادث ذاك، ومن ضمنهم بطبيعة الحال ناجي. وقد كان عمل ناجي في مجلة (الطليعة) في ذلك الوقت على النحو التالي:
– تصميم (ماكيت) المجلة
– رسم الغلافين، الأول والأخير للمجلة
– رسم صفحتين داخليتين في المجلة
– ثم إخراج المجلة
– وأخيرا وليس آخرا كان يشارك في التحرير أحيانا.
إلى جانب ذلك، كان ناجي يعمل أي شيء يمكن أن يخطر على البال بل وما لا يخطر على بال أحد، وبدون تكليف. وبما أن الصفات الشخصية هي المطلوبة في هذا الحديث، لا تستغربوا إن قلت لكم أنني رأيته أكثر من مرة يعمل القهوة لضيوف المجلة. كل ذلك مقابل أجر يمكن أن يعتبر رمزيا. وهنا لا بد أن أشير إلى أن كل كادر المجلة، والفلسطينيين منهم بخاصة، كانوا آتين من حركة القوميين العرب. ولعلني كنت الوحيد بينهم الذي شذ عن القاعدة، لكني كنت قريبا من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ومن هنا كان ناجي يتصرف داخل المجلة كعضو في تنظيم، وليس كموظف أو رسام في مجلة، وبسبب ما جبل عليه من تواضع وتفان في العمل، كان يبذل مجهودا أكبر كثيرا من المطلوب منه. صحيح أنه كان “من أهل البيت”، لكنه قياسا بجهده المبذول، كان يختصر عمل أكثر من نصف أهل هذا البيت !! وما لفت نظري في حينه، تلك الغزارة في الأفكار عنده عندما يجلس ليرسم. كان يرى الفكرة نفسها من عدة زوايا، فكان يجسدها فنيا في أكثر من رسم، وأحيانا كان رسم ما يبدو جميلا ومعيرا عن الفكرة في نظر هيئة التحرير، لكنه كان إن لم يرضه يرميه ويرسم غيره. وفي النهاية تتجمع لديه مجموعة من الرسوم أكثر من العدد المطلوب، فيتم اختيار المطلوب من بينها !
ما بين 1968و 1979، وهذه هي السنة التي غادرت فيها الكويت إلى غير رجعة، تنقل ناجي بين الكويت وبيروت، وبين جريدة (السياسة) الكويتية، وجريدة (السفير) اللبنانية، أكثر من مرة. لكنني في ما أذكر أنه ظل عندما يكون في الكويت يرسم ل(لطليعة) الغلافين والصفحتين الداخليتين، وبلا مقابل هذه المرة، حتى أغلقتها الحكومة الكويتية في العام 1976.
في جريدة (السياسة) الكويتية، التي تعود في ملكيتها ورئاسة تحريرها لأحمد الجار الله، المعروف برجعيته وولاءاته المشبوهة، كان ناجي يعاني من مضايقات كثيرة، ولم يكن سفف تلك الجريدة يتحمل جرآة مواقف ناجي السياسية، فضلا عن سياستها العامة التي كانت نقيضا لكل ما كان ناجي يؤمن به، لكنه ربما من حسن حظ ناجي وحظنا، أن الجار الله كان من “مدرسة الإثارة” في الصحافة، مدرسة الإنسان الذي عض كلبا! وفي الوقت نفسه كان يريد أن يرفع من مبيعات جريدته، وهذا في اعتقادي ما جعله يتعامل مع ناجي ويتحمله، ولكن مع المضايقات.
كنت أزور ناجي في مكتبه بين وقت وآخر، وقد سمعته أكثر من مرة يشكو ما يتعرض له، وأذكر أنني في كل مرة كنت أزوره فيها، وعادة كانت زيارتي تتم في حدود الساعة العاشرة ليلا، أي في الساعتين الأخيرتين قبل إغلاق عدد الجريدة لليوم التالي، كنت أرى على الطاولة التي يرسم عليها ليس أقل من خمسة أو ستة رسومات، وفي واحدة من الليالي عددتها وكانت أحد عشر رسما، بعضها على الطاولة وبعضها في سلة المهملات. كان ناجي يرسم ويبعث بالرسم إلى الجار الله، أو لمدير تحريره، فيرفض هذا الرسم، فيرسم ناجي غيره، وهكذا إلى أن تتم الموافقة على واحد من الرسومات. وربما كان يحدث شيء من ذلك أيضا بعد أن استقر في جريدة (القبس) ابتداء من 1983، رغم أن أصحابها لم يكونوا مثل أحمد الجار الله بل كانوا عروبيين من حيث الميول والتوجهات. لذلك لم يدهشني ما كتبه سليمان الشيخ، وهو أحد أصدقاء ناجي من مجموعة لبنان، وكان من زملائنا في (الطليعة)، عندما قال إن مجموع ما رسمه ناجي وصل إلى (40 ألف رسم)، كثير منها لم ينشر، ولم يشاهده قاريء الصحف التي عمل فيها ناجي، ولا توجد في الألبومات التي صدرت حتى اليوم !
على كل حال، لم تتوقف المضايقات التي واجهها ناجي عند مضايقات إدارات الصحف. ففي مطالع السبعينات بدأت تتسرب أنباء عن اتصالات سرية تتم بين قيادات في منظمة التحرير الفلسطينية، وفي حركة (فتح)، وبين شخصيات يهودية وصهيونية على صلات وثيقة مع سلطات تل أبيب. وقد أصبح معروفا الآن أنها بدأت مع عصام السرطاوي وانتهت مع محمود عباس. وفي الوقت نفسه كانت تتسرب “مواقف” وتظهر كتابات لقيادات من منظمتي (فتح) والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” حول “دولة فلسطينية في الضفة والقطاع”. كل تلك التسريبات والكتابات والمواقف بدأت تتضح وتقوى بعد وقف إطلاق النار مع “إسرائيل” وانتهاء حرب تشرين “التحريكية” كما وصفت في حينه في العام 1973، واكتملت وأصبحت علنية في العام 1974 مع ما سمي “برنامج النقاط العشر” الذي أصبح يسمى “البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية”. في تلك السنوات، كان للمثقفين الفلسطينيين والفلسطينيين عموما في الكويت، كما في خارجها، خطان سياسيان: خط مع التسوية والمفاوضات، وخط ضد التسوية ومع المقاومة والكفاح المسلح والتحرير الكامل. ويحتفظ أرشيف الصحافة الكويتية بالكثير من السجالات والمعارك التي نشبت بين أنصار الخطين السياسيين في تلك الفترة. وكان ناجي العلي في طليعة الخط الثاني، فازدادت رسوماته خطرا وخطورة، ويدأ يتعرض لضغوطات أوسع وأكبر.
كان العام 1979 هو عام التوقيع على “اتفاقية كامب ديفيد” وما حملته من دلالات وما تركته من آثارعلى الوضع العربي كله، وكان لناجي في فضح المسارات السياسية التآمرية على القضايا العربية عموما والقضية الفلسطينية خصوصا، ما جلب عليه عداوة الأنظمة والحكام وكل القوى والأطراف صاحبة المصلحة من تلك المسارات السياسية. وفي يداية 1985 عاد ناجي إلى الكويت والتحق بجريدة (القبس)، وتحت الضغوط التي مورست على الحكومة الكويتية من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تم نقله العام 1987 إلى النسخة الدولية من (القبس) التي كانت تصدر في لندن، وكان ذلك تمهيدا لتصفيته، وقد كان !
والأن أعود إلى ما طرحته في بداية هذا الحديث عن كيفية إحياء هذه المناسبة.
لنسأل أنفسنا أولا: لماذا نتذكر ناجي العلي؟ بل لماذا يتوجب علينا أن نتذكره؟ ناجي العلي منزوعا من قضيته الوطنية التي وهبها فنه وعمره وحياته شخص عادي وبسيط جدا، لم تكن الجوائز تهمه، ولا كانت ولائم التكريم تغريه، وكان يستحقها. لكن ما جعل ناجي العلي هذا الرمز الوطني الكبير الذي نعرفه ونفتخر به هي مواقفه، انتصاره لشعبه وأمته والفقراء فيهما والدفاع عن حقهما في الحرية والحياة الكريمة. إن هذا في ظني يوضح لنا طريق وكيفية إحياء هذه المناسبة، أي من خلال إبراز والتأكيد على تلك المباديء التي آمن بها ناجي العلي والتي وضع عبقريته في خدمتها، ثم ضحى بحياته في نهاية المطاف في سبيلها. ولست أرى أن الاكتفاء بجعل هذه المناسبة فرصة لتكرار ما أصبح يعرفه الجميع، أو للاستماع إلى بضع قطع من الإنشاء، يليق بهذه الذكرى أو بصاحبها، فضلا عن أنه لا يحيي أحدا ولا يحفظ شيئا، إن لم يزدهما موتا واندثارا !!
إننا بقليل من التفكير يمكن لنا أن نجد بين أيدينا أفكارا عدة مفيدة عند كثيرين، تساعد في تحقيق الهدف الذي أتحدث عنه. وعلى سبيل المثال، أقترح أن يخصص يوم اسمه (يوم ناجي العلي)، يكون عبارة عن ورشة عمل، يكلف فيها مسبقا عدد محدود من المفكرين أو الباحثين، يعد كل منهم بشكل مسبق ورقة تعالج جانبا عالقا من جوانب القضية الفلسطينية، وتكون الدعوة عامة لقراءة ومناقشة تلك الأوراق. هذا واحد من الاقتراحات التي يمكن أن تخطر على البال، وغني عن القول إنه إن لاقت الفكرة قبولا لدى المهتمين، فسيكون الباب مفتوحا لكل الاقتراحات المفيدة …
هكذا نرد جزءا بسيطا من حق ناجي العلي علينا، وفي الوقت نفسه نخدم قضية شعبنا وأنفسنا … فلماذا لا نفكر في هذا الموضوع؟!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التعليقات مغلقة.