أسوار الأبارتهايد.. مفارقات فلسطينية جنوب أفريقية / حسن العاصي
حسن العاصي ( فلسطين ) السبت 6/7/2019 م …
*كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك
شهدت الفترة الممتدة من منتصف السبعينيات لغاية منتصف الثمانينيات من القرن العشرين أحداثاً هامة تركت أثراً بليغاً على القضية الفلسطينية، ما تزال تداعياتها مستمرة إلى وقتنا الحاضر. من أبرز هذه الأحداث أنه في فترة لم تكن جراح خروجهم من الأردن العام 1971 قد شفيت تماماً. تم زج الفلسطينيين في الحرب الأهلية اللبنانية، بعد أن أقدمت ميليشيا الكتائب اللبنانية بإطلاق النار على حافلة كانت تقل فلسطينيين اثناء عودتهم إلى مخيم تل الزعتر، من مهرجان سياسي في مخيم شاتيلا، في العام 1975 مما أدى إلى استشهاد 27 فلسطينياً من ركاب الحافلة، في حادثة عرفت باسم “بوسطة عين الرمانة” التي شكلت شرارة اندلاع الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر عاماً. في العام 1977 زار الرئيس المصري الراحل أنور السادات مدينة القدس المحتلة. وفي العام 1978 وقعت مصر وإسرائيل معاهدة السلام الشهيرة التي عرفت باسم “اتفاقيات كامب ديفيد”. اشتعلت شرارة الحرب العراقية- الإيرانية في العام 1980 واستمرت لمدة ثماني سنوات، انشغل العرب خلالها بهذه الحرب الدموية التي استنفذت مقدرات الدولتين، وكان الخاسر منها إضافة إلى شعبي البلدين هو القضية الفلسطينية. ثم أقدمت إسرائيل على تنفيذ عدوانها الوحشي على الأراضي اللبنانية في العام 1982، وبعد حصار مدينة بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي الذي استمر لمدة ثلاثة أشهر، قاوم خلالها المقاتلون الفلسطينيون هذا العدوان ببسالة لا مثيل لها، وانتهى باتفاقية بين منظمة التحرير الفلسطينية والمبعوث الأمريكي “فيليب حبيب” قضت بخروج القوات الفلسطينية من لبنان إلى دول عربية أخرى، فكانت تونس واليمن ثالث المنافي للمقاومة الفلسطينية بعد الأردن ولبنان.
في العام 1983 أعلن عدد من قيادة وكوادر وأعضاء حركة فتح الانشقاق عن الحركة وتأسيس ما بات يعرف لاحقاً “فتح الانتفاضة” بزعامة كل من العقيد أبو موسى، وقدري، وأبو صالح. في عمان عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته السابعة عشرة العام 1984 وكان من أبرز قراراته إعلان برنامج الجبهة الوطنية العريضة، التي ستقوم في إطار منظمة التحرير الفلسطينية لحماية وحدتها وصيانة خطها الوطني، بالتصدي لنهج الانحراف والاستسلام. وكذلك رفض قيام قيادة فلسطينية بديلة، وعدم إقامة مؤسسات موازية لمؤسسات منظمة التحرير.
نجحت القيادة الفلسطينية رغم كل العراقيل، في بدء حوار وطني الفلسطيني بدءاً من يوم 14/4/1987 في مدينة الجزائر بين الفصائل الأساسية. تكللت جولات الحوار بعقد الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 20/4/1987 التي خرجت منها منظمة التحرير الفلسطينية موحدة وقوية ومتفقة على برنامج سياسي وتنظيمي واضح.
ما قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى
بخسارتها لقاعدتها العسكرية الرئيسية في بيروت وبقية الأراضي اللبنانية، وفقدان مؤسساتها المدنية والمالية والخدماتية، ضعفت مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، وتقلص حجم تأثيرها شعبياً وعلى الساحة الدولية. لكن هذا الأمر شكل تحدياً لفصائل المنظمة بهدف توجيه جهدهم واهتمامهم نحو الداخل الفلسطيني، في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. على اعتبار أن هذه المناطق المحتلة هي الركيزة الرئيسية للنضال ضد العدو الصهيوني، وهي كذلك العمق الجغرافي والخزان البشري. هذا أسهم بتزايد واتساع وتطوير الأنشطة الجماهيرية والثقافية والنقابية والطلابية، مما شكل التربة الثرية لاندلاع الانتفاضة الوطنية الفلسطينية الكبرى أواخر عام 1987 التي شكلت أحد أهم معالم النضال الوطني الفلسطيني.
كان هذا يتم في ظل أجواء ضاعفت إسرائيل خلالها في بناء المستوطنات، وتصاعدت حدة تهجير السكان الفلسطينيين من منازلهم، ومصادرة أراضيهم، ومنعهم من الزراعة، مما أجبر عدداً منهم للعمل لدى الإسرائيليين بأجور قليلة ومعاملة تتسم بالتمييز العنصري. كما عانى الفلسطينيين من صعوبات شديدة في التنقل والحركة بين القرى والمدن، حيث كانت القوات الإسرائيلية تحاصرهم، وتمنع عليهم السفر إلا من خلال تصاريح تمنحها لهم بشكل مسبق. إلى جانب ما كان المواطنين الفلسطينيين يتعرضون له من تفتيش مذل على الحواجز وفي المعابر. وكانت إسرائيل تخصم من أجورهم 20 بالمائة بذريعة تحسين الخدمات في الضفة والقطاع، لكن تلك الأموال كانت ترسل إلى الخزينة العامة الإسرائيلية.
الانتفاضة المجيدة
في مساء يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر العام 1987 أقدم المستوطن الصهيوني المتطرف “هرتسل بوكبزا” على قتل أربعة عمال فلسطينيين دهساً بشاحنته، كانوا يقفون على حاجز “بيت حانون” الإسرائيلي. وهم الشهيدين طالب أبو زيد 46 عاماً، وعلي إسماعيل 25 عاماً، من مخيم المغازي وسط قطاع غزة. والشهيدين عصام حمودة 29 عاماً، وشعبان نبهان 26 عاماً من جباليا البلد شمال قطاع غزة.
في الصباح التالي عم الغضب الجماهيري مخيمات جباليا والمغازي أثناء مراسم تشييع الشهداء، وانطلقت عدة مظاهرات عفوية وساخطة، تحولت سريعاً إلى مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، أدت إلى استشهاد الشاب “حاتم السيسي” فكان أول شهداء الانتفاضة المجيدة.
انتقلت المواجهات الشعبية إلى مخيم بلاطة في مدينة نابلس وإلى بقية المخيمات والقرى والبلدات والمدن الفلسطينية. شارك فيها الجميع من كل بيت وحارة وحي بالحجارة والأغنية والقلم واللوحة. في اليوم الثاني للانتفاضة استشهد الشاب “ابراهم العكليك” وعمره 17 عاماً. ثم استشهدت الشابة “سهيلة الكعبي” بعمر 19 عاماً. ثم استشهد الطفل “علي مساعد” بعمر 12 عاماً. لتشتعل فلسطين بأكملها تحت اقدام قوات الاحتلال، في مواجهات استخدم فيها الشباب الفلسطيني الحجارة ضد الجنود الصهاينة، وقتل خلالها مئات الفلسطينيين، وجرح واعتقل الآلاف. بحسب بيانات مؤسسة رعاية أسر الشهداء والأسرى، فقد استشهد في الانتفاضة الأولى 1550 فلسطينياً، وتم اعتقال 10 آلاف، وبلغ عدد الجرحى حوالي 70 ألف جريح، يعاني 40 بالمائة إعاقات دائمة، 65 بالمائة شلل أو بتر أحد الأطراف. وهناك 40 سجيناً فلسطينياً استشهدوا داخل السجون الإسرائيلية نتيجة التعذيب خلال فترة الانتفاضة.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلع لهيبها في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 1987 واستحوذت على إعجاب وتعاطف وتضامن الشعوب والدول في كافة الأرجاء، وتسببت في صدمة للعقل الغربي الذي كان يتبنى الرواية الإسرائيلية التي كشف زيفها أطفال انتفاضة الحجارة. تكسرت صورة إسرائيل “الوديعة” عبر وسئل الإعلام ومحطات التلفزة، وهي تنقل مشاهد قيام الجنود الصهاينة بتكسير عظام المتظاهرين الفلسطينيين بالهراوات والأحجار، تنفيذاً لأوامر “اسحق رابين” رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، بعد أن فوجئ بصدى الانتفاضة وشدتها. حيث أنه للمرة الاولى منذ مرور أربعين عاما على الصراع العربي الاسرائيلي، دخل السكان الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة- حوالي مليون ونصف شخص- في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. أفضت هذه الانتفاضة التي استمرت ست سنوات إلى قيام منظمة التحرير الفلسطينية بالتوقيع على اتفاقيات أوسلو في العام 1993.
سحر الانتفاضة
الانتفاضة الفلسطينية الأولى أبهرت العالم باتساعها وشموليتها ومستواها التنظيمي العالي، ونالت تضامن دول وأحزاب وقوى وشخصيات وشعوب متعددة في العالم. من أبرز ما يميز تلك الانتفاضة كونها حركة مقاومة جماهيرية شعبية غير مسلحة، شاركت فيها كافة شرائح المجتمع الفلسطيني. وبأنها كانت ذات مستوى مرتفع من الانضباطية. كما تمتعت بمقدرة هائلة على التواصل والديمومة لمدة ست سنوات رغم آلة البطش والقمع التي جابهت فيها إسرائيل جماهير الانتفاضة. ومشاركة واسعة من المرأة الفلسطينية في مجريات الانتفاضة، مما أحدث قيماً اجتماعية جديدة في المجتمع الفلسطيني المحافظ. ومن مكامن قوتها هو وجود قيادة وطنية موحدة تألفت من ممثلين عن كافة الفصائل والقوى واللجان الشعبية الفلسطينية. كان لهذه القيادة رؤية سياسية وأهداف واحدة، هي وقف الاحتلال وإنهاء الاستيطان، وبناء دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.
قامت القيادة الموحدة بتشكيل لجان شعبية متعددة ومتخصصة، ابتداء بلجان القوى الضاربة، انتهاء بلجان الزراعة، مروراً بلجان التجار والتعليم والمرأة والتموين وسواها. لعبت تلك اللجان دوراً محورياً باعتبارها الأداة التنظيمية الأساسية التي استخدمتها القيادة الموحدة للتواصل مع الجماهير. تعاظمت قوة هذه اللجان مع تصاعد الانتفاضة، وكانت واحدة من أهم ما أنجزته قيادة الانتفاضة، لأنها عكست قوة وصلابة التنظيم الداخلي للانتفاضة.
لقد تمكنت القيادة الموحدة من تجميع وتحشيد وتوحيد كافة القوى الفلسطينية، ثم بدأت في مرحلة ثانية من استثمار المواجهات الشعبية والهبات الجماهيرية العفوية، وتوظيفها لخلف حالة من النضال المنظم المبرمج، والصراع الشامل المفتوح ضد قوات الاحتلال، من أجل تحقيق أهداف الانتفاضة. واستطاعت من مد جسور التواصل المستمر مع القيادة الفلسطينية خارج فلسطين.
من أهم الدروس المستخلصة من تجربة انتفاضة الحجارة أنها ابتعدت عن مغريات الحلول البسيطة والإنجازات السريعة، وأدركت أن طريق المواجهة مع دولة العدوان شاقة ومكلفة وتحتاج صبراً وجلادة. ثم أن قيادة الانتفاضة تجنبت بوعي الدعوات لرفع السلاح وممارسة الكفاح المسلح ضد قوات الجيش الإسرائيلي، واعتمدت سياسة العنف المحدود باستخدام الحجارة والزجاجات الحارقة. وركزت على النفس الطويل الذي يضمن استمرار زخم المواجهات مع الاحتلال، وبنفس الوقت لا يرهق الجماهير أكثر مما تحتمل. كما أنها وضعت استراتيجية فك العلاقة مع مؤسسات الاحتلال، من خلال استقالة العاملين في الإدارات المدنية، ورفض دفع الضرائب، والدخول في عصيان مدني شعبي تدريجي.
مقاربة ضرورية
خاضت الجبهة الديمقراطية الموحدة في جنوب أفريقيا نضالاً جماهيرياً واسعاً وتصاعدياً ضد نظام الفصل العنصري، أدى في النهاية إلى إنهاء هذا النظام. وقد ضمت الجبهة حوالي أربعمائة منظمة وجماعة قادت النضال الجماهيري في مواجهة العدوانية المتزايدة للنظام، والتي أدت في النهاية إلى إسقاطه. في الحالة الفلسطينية كانت القيادة الموحدة للانتفاضة هي التي قادت النضال الجماهيري.
فيما كان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو القوة السياسية الرئيسية المناهضة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تقود نضال الشعب الفلسطيني. قيادة حزب المؤتمر كانت إما في المعتقلات أو في المنافي، وهذا ينطبق إلى حد كبير على قيادة الشعب الفلسطيني. قبل سقوطه بحوالي عشرة أعوام تغّول نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا كثيراً وزاد من الأفعال العنصرية والعدوانية. تماماً مثلما فعلت إسرائيل. واجه المؤتمر أزمات في الركود الجماهيري، وتغير الحال بداية من الانتفاضة الطلابية عام 1976 ومن ثم ظهور “حركة الوعي الأسود” في عام 1979. وهذا يشبه الأزمة التي عانت منها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد الخروج من بيروت والانشقاق الذي حصل في حركة فتح.
شكلت الانتفاضة الفلسطينية قيادتها الموحدة والمؤلفة من ممثلي عن كافة الفصائل والقوى والأطر الفلسطينية، وفتحت قنوات اتصال مع القيادة الفلسطينية في الخارج. في تجربة جنوب أفريقيا قادت “الجبهة الديمقراطية الموحدة” نضال الجماهير، وأقامت علاقات تنسيقية مع حزب المؤتمر، لكنها كانت مستقلة تماماً بقراراتها وإدارتها للصراع.
اعتمد المؤتمر الوطني وسيلة الكفاح المسلح شكلاً رئيسياً لنضاله ضد حكومة الفصل العنصري حتى بداية الثمانينيات. تأثير هذا الشكل النضالي كان محدوداً جداً بسبب الخلل الكبير في ميزان القوى بين الطرفين، لكن المؤتمر خاض كفاحاً مسلحاً بهدف لفت أنظار العالم وشد أزر الجماهير. في مرحلة لاحقة تراجع العمل العسكري وأصبح النضال السياسي والجماهيري هو الشكل الرئيسي. وهذا ما فعلته قيادة الانتفاضة الفلسطينية في تجنب العمل العسكري واعتماد النضال الجماهيري المتنوع.
ترك المؤتمر الوطني وقيادته في الخارج قيادة المعركة لقيادة الجبهة الديمقراطية الموحدة في الداخل، واكتفى بتنسيق المواقف والتشاور معها، دون أن يغضبه ذلك أو أن يقلل من شأن القيادة في الخارج، بل كان الجميع حريصاً على توحيد النضال وتوحيد الأهداف في القضاء على نظام الفصل العنصري وإقامة دولة مدنية ديمقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين.
في الحالة الفلسطينية تدخلت القيادة الفلسطينية في الخارج بقرارات وتوجهات القيادة الموحدة للانتفاضة، بل وصل الأمر إلى إفساد بعضهم بالمال.
ويجب أن نعلم أن العلاقة التي ربطت المؤتمر الوطني الأفريقي مع الحزب الشيوعي ومع قوى ومنظمات أخرى في جنوب أفريقيا، لم تكن خالية من الخلافات والصراعات التي وصلت حد الاقتتال الداخلي، لكن تمكن الجميع في النهاية من الاتفاق والتوحد في خضم النضال الذي أجبر نظام الأبارتهايد أخيراً على الموافقة في الدخول بمفاوضات على أساس نيل الحرية.
فلسطينياً، لم تتمكن الفصائل والقوى الفلسطينية من تحقيق الوحدة بين كافة الأطر، إلا في فترات محددة، وانتهت بخلافات سياسية أدت إلى إتعاب الانتفاضة لاحقاً، وإضعاف الموقف الفلسطيني المفاوض.
كان من أبرز أسباب نجاح المؤتمر الوطني في معركته هو ارتباط قيادته العميق مع قيادة الجبهة الديمقراطية الموحدة في داخل جنوب أفريقيا، ومع كافة القوى والحركات الجماهيرية التي شكلت أحد عوامل قوة المؤتمر، وكانت بمثابة أداة كابحة وضاغطة على القيادة حتى تظل في تناغم وانسجام مع النضال الشعبي. حتى أثناء المفاوضات مع النظام العنصري لم يتوقف الحراك الجماهيري لممارسة مزيد من الضغط لإجباره على الاستجابة للمطالب الشعبية.
بينما في الحالة الفلسطينية قامت القيادة الفلسطينية بالتسلل من خلف ظهر الجماهير، وعقدت صفقة مع الكيان الصهيوني العنصري، من دون علم قوى الانتفاضة، ودون التنسيق مع قيادتها.
تجربتان بنتائج مختلفة
تتشابه كثيراً التجربة الفلسطينية النضالية مع تجربة جنوب أفريقيا. إن الشعب الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وشعب جنوب أفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي، هما شعبين خاضا معركة تحرر وطني ضد أنظمة عنصرية كولونيالية استيطانية، أنظمة فصل عنصري متوحشة وبدائية. وتتشابه كلا التجربتين في كثير من مراحل تطور أدوات النضال والمقاومة وطبيعة ومستوى التنظيم، والمخاطر التي واجهت كلا الشعبين، والعلاقة بين الداخل والخارج أيضاً لديهما.
لكن للأسف فإن نتائج التجربتين كانت متناقضة. في تجربة المؤتمر الوطني الأفريقي تم الانتصار على نظام الأبارتهايد هناك، والقضاء نهائياً على العنصرية، واستعادت الجماهير حقوقها الطبيعية التي تم انتهاكها طوال عقود. فيما فشلت منظمة التحرير الفلسطينية في تحقيق أي إنجاز للشعب الفلسطيني، وعجزت عن التحرر من نظام الفصل العنصري الاستيطاني الكولونيالي في فلسطين.
نعم ليس من الإنصاف المقاربة بين التجربتين، لكنها مهمة جداً لإعادة قراءة كلا التجربتين بهدف استيعاب العبر. رغم أن التجربة النضالية التحررية للشعبين الفلسطيني وفي جنوب أفريقيا تتشاركان في كونهما ضد استعمار فصل عنصري وكولونيالي، إلا أن هناك تباينات سياسية وجغرافية واقتصادية وتاريخية بين التجربتين، إضافة إلى اختلاف العوامل الدولية في الحالتين، وتميزت كل منهما بسمات خاصة بها.
من الناحية الاقتصادية شكل العمال السود الذين كانوا يديرون عجلة اقتصاد النظام العنصري في جنوب أفريقيا، قوة ضغط هائلة بعد تنظيمهم من خلال الإضرابات، لدرجة سببت شللاً للاقتصاد. فيما لا يقوم الاقتصاد الإسرائيلي على قوة العمال الفلسطينيين بصورة مهمة، وحتى العمال الذين أضربوا خلال الانتفاضة، جلبت إسرائيل عمالاً أجانب مكانهم. إضافة إلى عامل آخر مهم لم يكن في صالح الفلسطينيين، وهو العامل الدولي، حيث تزامنت الانتفاضة مع مرحلة بدأ فيها الاتحاد السوفيتي الداعم لحركات التحرر، في الانهيار اقتصادياً وسياسياً، مما أخل بالتوازن ومكن الولايات المتحدة من الاستمرار في الانحياز والدعم التام المريح لإسرائيل. لكن النظام العنصري في جنوب أفريقيا لم يكن طبعاً بأهمية إسرائيل بالنسبة لأمريكا. وهي اصلاً لم تعد بحاجة له لدعمه، خاصة بعد انهيار النظام الاشتراكي، لذلك لم تمانع الولايات المتحدة من التوصل إلى تسوية بين نظام جنوب أفريقيا ونيلسون مانديلا.
في المشهد الفلسطيني فإن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قامت بتبديل برنامجها ومواقفها السياسية أكثر من مرة، وتراجعت عن شعاراتها التي بدأت معها المسيرة الثورية، حتى وصلت إلى التوقيع على اتفاقية أوسلو. لم يكن لديها برنامج واضح محدد بأهداف لا شبهة فيها. ولم تتسم علاقتها مع قيادة الانتفاضة في الداخل بالتنسيق والتكامل، بقدر ما اتسمت بفرض رؤية وقرارات الخارج على الداخل. ثم قامت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج بالالتفاف على حركة الوفد الفلسطيني المفاوض من داخل فلسطين، الذي كان يرأسه المناضل الدكتور حيدر عبد الشافي، وكان هذا الوفد يجري مباحثات في واشنطن استمرت لمدة عامين تقريباً. استقال الدكتور حيدر من الوفد في نيسان عام 1993 بسبب إصراره على رفض أية تسوية لا تنص على إزالة المستوطنات الإسرائيلية. وبدلاً من أن تقوم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية باستثمار هذا الصمود في موقف المفاوض الفلسطيني، الذي كان مدعوماً بإرادة جماهيرية شعبية على الأرض مؤيدة له، قامت القيادة الفلسطينية بفتح قناة تفاوضية خلفية تمخضت عن اتفاق أوسلو البغيض.
السؤال المعضلة
في الراهن الفلسطيني، دخلت القضية الوطنية الفلسطينية مرحلة الانسداد السياسي الحاد. كان وصول الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض قد أربك القيادة الفلسطينية، وأسهم في تعميق أزمتها السياسية من خلال تبني الإدارة الأمريكية لمشروع يفضي إلى حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، سمي “صفقة القرن” وفق تسوية يتم فيها حذف ملفي القدس وحق العودة من مفاوضات الحل النهائي. وتشويه فكرة حل الدولتين ومسخها بحيث تكون الضفة الغربية من مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي. وتحسين الوضع الاقتصادي الفلسطيني. ثم قامت الولايات المتحدة بنقل سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس. كل هذه الأحداث لاقت رفضاً فلسطينياً رسمياً وشعبياً. هذا دفع أمريكا إلى وضع ضغوط اقتصادية وسياسية ودبلوماسية شديدة على القيادة الفلسطينية، وعلى الرئيس محمود عباس الذي أعلن قطع العلاقات مع الولايات المتحدة.
إن صفقة القرن في حال انتظار حدوث تطورات في منطقة الشرق الأوسط كي تصبح قادرة على التحقق، منها الموقف الأمريكي من الملف النووي الإيراني، ومن مسار التسوية في سوريا، ومدى قدرة الإدارة على حشد موقف عربي مؤيد للصفقة، ومدى قدرة الفلسطينيين على الصمود، والوضع الإسرائيلي الانتخابي الداخلي حول إمكانية بقاء نتنياهو من عدمها.
إن الوضع السياسي الفلسطيني يعاني من حالة استعصاء سياسية شديدة. القيادة الفلسطينية ترفض-للآن- التنازل مسبقاً، ولم تقبل الاعتراف ببقاء الاحتلال في الضفة، ولم توافق على دولة فلسطينية دون حدود أو بحدود مؤقتة. وترفض أي حلول لا تؤدي إلى كيان سياسي سيادي يسمى دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس. وهذا هو جوهر الانسداد الذي تسبب في رفع الحالة الجماهيرية الفلسطينية، وأسهم في زيادة الأزمات.
هناك انسداد آخر داخلي يتسبب به الانقسام الوطني، ويتعلق بالمصالحة مع حركة حماس. مصالحة لم تكتمل رغم كافة الوساطات والتدخلات الفلسطينية والمصرية والعربية والغربية. وهذه الجهود لم تتمكن من إنهاء هذا الانقسام البغيض، ومن إخراج قطاع غزة من حالته القائمة، ووضع الغزاويين القاسي. فشلت الوساطات لأنها تصطدم بأمر جوهري ورئيسي هو مبدأ ازدواجية السلطة. هذا يعني أن تقوم السلطة الفلسطينية بتوفير الخدمات للسكان في القطاع، فيما تقوم حركة حماس بمد نفوذها الأمني. وهذا نموذج لا يمكن أن يخلق وضعاً طبيعياً في أي بقعة في العالم.
أعود للسؤال الكبير، الهام، المعضلة. إن تمكنت الانتفاضة الأولى المجيدة من إخراج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من أزمتها، وأفرجت كربها الشديد، فمن ينتشل القيادة الفلسطينية الآن من محنتها الحالية، في ظل أوضاع تعاني فيها كافة الفصائل الفلسطينية من أزمات بنيوية وقيادية وبرنامجية وجماهيرية ومالية، ضعفت معها قدرة هذه الفصائل والقوى، التي فقدت هويتها الأيديولوجية، على استنهاض حركة الجماهير الفلسطينية لمواجهة عدو صهيوني استعماري استيطاني اجتثاثي. هذا الوهن والعجز الفصائلي الذي وصل مرحلة التخاذل كان سبباً مهماً في قيام القيادة الفلسطينية على عملية إلحاق منظمة التحرير الفلسطينية بسلطة أوسلو بدلاً أن يتم العكس، وكان هذا بداية خراب البيت الفلسطيني.
الخيار الثالث مفقود
فشلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في تحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال الاستيطاني لأسباب سالفة الذكر. جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، وقدمت فرصة تاريخية للقيادة الفلسطينية في معالجة النتائج الكارثية لاتفاق أوسلو، لكن عسكرة الانتفاضة، وغياب استراتيجية موحدة، أدى إلى نتائج كارثية.
سعت حركة حماس لأن تقدم بديلاً إسلامياً عن حركة التحرر الوطني الفلسطيني وتوجهاتها، من خلال رفضهم لاتفاقية أوسلو وسياسية قيادة المنظمة. لكن الحركة أخفقت في تشكيل مشروع وطني فلسطيني جامع للجماهير الفلسطينية وقواها وفصائلها. وبظني أن واحداً من أهم أسباب هذا الفشل هو عدم إدراك قيادة حركة حماس أن مركزية المشروع الوطني الفلسطيني المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية، قضية لا تخص حركة فتح وحدها، بل هي حركة وطنية تحررية ثورية لكافة الشعب الفلسطيني.
بعد مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو ونهج المفاوضات الكارثي على شعبنا الفلسطيني، وأحد عشر عاماً على الانقسام الدامي، وفشل جميع جهود الجهود لتوحيد البيت الفلسطيني، وفي ضوء عجز ونكوص الفصائل الفلسطينية الأخرى التي تعاني من أزمات متعددة، لم يستطيع الشارع الفلسطيني من بلورة تيار نضالي وطني ثالث يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية وللمشروع الوطني الفلسطيني التحرري، ويجعل الاحتلال يدفع ثمناً باهظاً.
إن الشعب الفلسطيني يمتلك خبرة تاريخية في ابتداع وابتكار أساليب واشكال متجددة دوماً للنضال والمقاومة. ورغم كل ما تقوم به إسرائيل من بناء الجدران المرتفعة، وإنشاء الطرق الالتفافية لتحويل المناطق الفلسطينية إلى كانتونات متفرقة، إلا أن الجماهير الفلسطينية تجد دوماً طرقاً للتواصل فيما بينها لمواجهة عدوها.
في هذه المرحلة بالغة الخطورة على القضية الفلسطينية، حيث اعترفت الإدارة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتسعى لفرض حلول تقوض الحقوق الوطنية والسياسية للشعب الفلسطيني. وتمارس كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الغربية ضغوطاً غير مسبوقة على القيادة الفلسطينية، ووصلت العنجهية الصهيونية إلى ما وصلت إليه من استهتار بالقيادة الفلسطينية وبشعبنا وتضحياته، وبلغ تآمر بعض الأنظمة العربية على القضية الفلسطينية مرحلة الجزار الشريك، وأمام سقوط أوهام نهج المفاوضات السياسية، فقد حان الوقت للشعب الفلسطيني صاحب المصلحة الأساسية في الحرية لأن يقول كلمته، وأن يحدد خياراته والانطلاق في معركة جماهيرية لإسقاط نظام الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني العنصري في فلسطين.
التعليقات مغلقة.