في خريف العام الفائت كان المراقبون جميعاً ينتظرون إطلاق عملية تحرير إدلب على يد الجيش السوري وحلفائه ويتوقعون دعماً نارياً روسياً ملائماً لهذه العملية المعقدة والتي يعترضها الكثير من العوائق والصعوبات الناتجة عن ظروف شتى عملانية وسياسية واستراتيجية وحتى ديمغرافية.
لكن روسيا التي وقفت على هذه العقبات وما يرافقها أيضاً من مخاطر التدخل الأميركي والغربي ومع ما تستلزمه من تضحيات وحاجة إلى تحشيد قدر كبير من القوى والطاقات للتنفيذ، روسيا هذه رأت ان تبحث في خيار أخر يؤمّن تحقيق الغاية السورية من جهة، ولا يمسّ بالسعي الروسي إلى تهيئة الظروف المسهّلة لاستعادة دورها الدولي في عداد الصف الأول من القوى الدولية الفاعلة من جهة أخرى.
وقد رمى الخيار الروسي إلى تجنّب التحرير بالعمل العسكري الصاخب والوصول اليه بعملية متدرّجة مركبة تعتمد على تركيا في بعض وجوهها دون إسقاط الدور المركزي للجيش العربي السوري، ولأجل ذلك استبقت روسيا إطلاق عملية تحرير إدلب بعقد اتفاق سوتشي مع تركيا، الاتفاق الذي شاءته بديلاً مرحلياً للعمل العسكري وتوطئة له في نهاية المطاف لكن في ظروف وبيئة مختلفة.
هنا أدركت تركيا حاجة روسيا إليها لتجنّب العمل العسكري، فأبرمت الاتفاق مع نية الانقلاب عليه او إفراغه من مضمونه منذ لحظة توقيعه، ورغم انّ روسيا أدركت هذا الانقلاب والغدر التركي فإنها ولأسباب ذاتية وإقليمية ودولية امتنعت عن مواجهة تركيا وراهنت على إمكانية إعادتها إلى الاتفاق بالقدر المتيسّر لانّ لروسيا مصالح استراتيجية مع تركيا ترى انّ عدم تحقيقها الآن قد يعني استحالة تحقيقها مطلقاً في المستقبل.
فروسيا تدرك انّ فشل تركيا في مشروعها الإقليمي العام المتضمّن سيطرة الإخوان المسلمين بقيادتها على كامل المنطقة، وانّ برودة العلاقة مع الغرب الأوروبي حتى وجفافها انْ لم نقل أكثر، وانّ شبه العزلة الإقليمية التي تعاني منها تركيا نتيجة تشكل العداوات التي تصبغ علاقاتها مع كلّ دول المنطقة إلا القليل منها قطر مثلاً روسيا تدرك ظروف تركيا هذه وتتصوّر أنها اللحظة المناسبة لجذب تركيا اليها وتجميد موقعها في الحلف الأطلسي وتحييدها في الصراع بين الشرق والغرب، أهداف إذا تحققت تكون قد أحدثت انقلاباً استراتيجياً في العلاقات الدولية ومستقبل النظام العالمي برمّته، انقلاب يكون طبعاً لصالح روسيا على حساب أوروبا وأميركا.
لهذه الأسباب رأت روسيا انّ مسايرة تركيا او ممالأتها وغضّ النظر عن تراجعها في تنفيذ الاتفاقات حول إدلب وسواها في سورية هو أمر متسامَح به إذا تمّ النظر اليه من باب المصالح الاستراتيجية الروسية الكبرى التي يحققها هذا التسامح او التساهل، وفي الوقت نفسه رأت تركيا انّ بإمكانها استثمار الحاجة الروسية تلك إلى الحدّ الأقصى من أجل منع عملية تحرير إدلب ومنحها الوقت اللازم لفرض مشروعها الخاص او تحقيق أكبر قدر من المكاسب في سورية، مكاسب تعوّل عليها لحجب أو تخفيف مفاعيل فشلها الاستراتيجي الإقليمي العام الذي لم يبق لها تقريب سوى الميدان التونسي محلاً لتحقيق الربح والميدان الليبي محلاً للمناورة.
في ظلّ هذا الوضع، ومع توجه الإرهابيين في إدلب وبدعم تركي لجرّ الجيش السوري إلى حرب استنزاف في أرياف حماة وحلب وإدلب، لحرفه عن عملية التحرير وإشغاله عن الخطة العدوانية التركية، اتخذت سورية قراراً ترجمت به استقلالية القرار السوري وعملت وفقاً لجدول الأولويات العسكرية السورية مع مراعاتها للإمكانات الميدانية والظروف الإقليمية والدولية، واعتمدت في ذلك استراتيجية مطوّرة تقوم على مقومات أربعة هي:
1 ـ الحركة الدائمة والمتواصلة والمدروسة في الميدان وتجنّب الوقوع في فخ حرب الاستنزاف كما تجنّب إعطاء الذرائع للقوى المعادية ومكوّنات معسكر العدوان بقيادة أميركية، الذرائع التي تستغلّ من أجل العدوان المباشر على قوات وتشكيلات ومراكز الجيش العربي السوري.
2 ـ اقتياد التجمّعات الإرهابية إلى حرب تستنزفها وتضعفها وتشتّت قواها وتدمّر مراكزها النارية والقيادية بما يمنعها عن شنّ عمليات عسكرية واسعة تمكّنها من احتلال أرض وإفساد أمنها.
3 ـ تحرير الأرض بالقضم المتتابع المتدرّج وإنتاج بيئة عملانية ملائمة لإطلاق عملية التحرير الإلزامية النهائية التي لا يمكن إغفالها في مسيرة استعادة إدلب إلى حضن الدولة والوصول إلى الحدود الدولية مع تركيا بعد إجهاض المشروع التركي في سورية.
4 ـ تحييد القدر الأكبر من المدنيين في المنطقة وإتاحة الفرص لهم للانتقال إلى مناطق آمنة وتجنيبهم مخاطر الحرب.
لقد انطلقت سورية في تنفيذ خطتها تلك مع علمها الكامل باهتمامات الآخرين ومصالحهم، ووقوفها على وجهتي النظر القائمتين حول تحرير إدلب… وجهة النظر الداعية إلى الحلول السياسية مع ضغط عسكري ووجهة النظر الرامية إلى العمل العسكري المنتج لحلول سياسية، في مواجهة خطط معسكر العدوان المتمثلة في الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى إطالة أمد الصراع ومنع تحرير إدلب وشرقي الفرات في الوقت الراهن، والخطة التركية الرامية إلى إنشاء مناطق نفوذ في الأرض السورية تحت تسميات متعدّدة تتقاطع كلها عند فكرة السيطرة التركية الميدانية على قطاع من الأرض يمكن تركيا من التأثير في القرار السوري المركزي.
لكن سورية التي عرفت كيف تخوض المواجهة وأخذت بعين النظر ما يشتمل عليه الميدان والإقليم من مؤثرات، واختارت ما يناسبها، حيث أثبتت الوقائع القائمة أنها نجحت في خيارها الاستراتيجي وحققت حتى الآن مكاسب لا بأس بها تستطيع ان تبني عليها خلال الأسابيع المقبلة لتتوسّع في عملية التحرير بالقضم المتتابع، وتفكيك فصائل الإرهاب وإعاقة لا بل منع المشروع التركي من تحقيق أهدافه، ويبدو أنّ هناك محطة مهمة في شهر آب المقبل تتمثل في الاجتماع الثلاثي الروسي الإيراني التركي، اجتماع قد يعوّل عليه من أجل مزيد من كشف الخطط التركية العدوانية وللتأكيد على انّ الوقت شارف على النفاذ ولن يكون بوسع تركيا أن تناور بشكل إضافي.
وعليه نرى وربطاً بين ملفي تحرير ما تبقى في سورية، وإنقاد الاتفاق النووي الإيراني، نرى انّ مطلع أيلول المقبل سيكون تاريخاً للخيارات الاستراتيجية الهامة، فإما تكيّف دولي مع إرادة سورية في التحرير وإيرانية في ممارسة الحقوق الوطنية المتصلة بملفها النووي ورفض الحرب الاقتصادية، أو تصعيد ومواجهة ستكون منطقة إدلب محلاً لها لانطلاق التحرير عسكرياً، مع احتمال احتكاك محدود مسيطر عليه بين إيران ومن يستهدفها يكون الخليج بشكل خاص ميدانه الأكثر احتمالاً وبهذا سيؤكد مجدّداً نجاح الصبر الاستراتيجي الذي مارسته إيران في استراتيجية النقطة نقطة ومارسته سورية باستراتيجية القضم المتتابع..
التعليقات مغلقة.