الرّماد ( قصة قصيرة )! / رضا غالب الكيلاني

 رضا غالب الكيلاني ( الأردن ) الأربعاء 24/7/2019 م …




طبعت القبّة السماوية بصمتها الأبديّة…. فراحت تغازل الأرض بنجومها وكواكبها….
فوأد الفجر الطريق ….وألبس ثوب الظلام الدامس خيوطا ًبيضاء ..طغت بنورها الخافت
على ضوء الفوانيس الذابلة….وتثائبت الكلبة تحت شجرة التّين الميّتة كاشفةً عن أنياب عاجية
يشوبها الاصفرار….وبالت اسفل سور المقبرة……وألقمت أثدائها لجرائها الناعسة ……فانكبت
عليها بنشوة فلسفية عجز فرويد عن تفسيرها…..وترامى صوت الديوك المتأملة في الملائكة
تصدح في اكثر من موضع …وهزّ المؤذن حنجرته النحاسيّة ..بأن الصلاة خير من النوم
فتلفّعت الرؤوس بالخرق البالية ..ووجدت الملابس المتهتكة طريقها الى الاجساد شبه
العارية ……وترامى الى السماء نداءا ً خفيّا ًً بأن يا فتّاح ياعليم ..ويا رزّاق يا كريم……….
وسمع أطيط الشباشب المطاطيّة كفحيح شقّ جدار الصمت الواجم على طريق البواكي العابسة !!

لم يكن ثمّة ما يعيق تقدّم هذا القادم من بعيد سوى نقطة التقاء الماضي في الحاضر….فلا الطريق
هو الطريق …ولا المكان هو المكان…ثلاثون عاما لم تطمس ملامح الوجوه العفنة فحسب ..بل قد
خلت اٌثارها من بقايا السلف الضائع ….وانبلجت الذكريات الجارفة كفيضان اجتاح كيانه …فلعن
شعوراً من الاعماق ..بالكاد قد تخلّص منه….

– مريود !! ما الذى أتى بك ؟….الويل ….الويل ….
تجهمتك الدنيا ثلاثين سنة …وها هو الطريق يبخل عليك مرّة اخرى لكأنّه يعلن عن اشمئزازه
بوجودك ….فأضحيت غريباً عن الحي ..كأنك لم تلد فيه ..ولم تتنفس من خلاياه …..حتّى شجرة التّين
التي زرعتها بيدك قد خذلتك….. فلم تنبت ايّ ثمرة …وباتت مترعا دافئاً للكلاب الضالّة….الويل…الويل
اذا لم تتعرّف عليك تلك الوجوه القذرة …..فتسمّرحينها في مكانه…..وطرد من ملامحة الفولاذيّة ابتسامة بدت
في غير محلها….

– اٌة يا رب السماوات والارض!! من أين أبدأ؟؟
فهيهات ان يتذكّره أحد ..ها هو ينظر بعين السخط على نفسه …ولا يدري ان أصاب أم أخطأ في الرجوع
بعدما أخذ عهداً غليظا أمام الله والقبيلة ….فما جدوى أن تعود الان؟! ….وما افضع ان تتنفس طوبا ً !!!…..
جئت لكي تؤول حلماً زائفاً ؟؟…..أم لتأجج ثأرا اٌخر قد أخمدته السنوات العجاف؟؟؟

قطرت السماء حينئذ رزمة من الحمرة القانية ….فضربت بعكازك أديم الأرض وانتعلت التراب ……. ومضيت تبحث عن تلك النقطة التي اضمحلّ فيها اثار الزمان ..واتجهت الامور نحو التعقيد ..وتضائل الامل بشدّة …..
عليك القبول في المغامرة باي شكل …فانت هكذا منذ خلقت …لا تعرف المهادنه ولا الحلول الوسطى …تقاتل
بنخاعك ..وتعمل بأعصابك الباردة….
فكم أجهدك العناء وانت تحاول أن تصرخ بأعلى صوتك في ذلك الحي البائس :
– انا مريود ….لقد عدت!!
ولكن هيهات لسنوات لا تعرف الرحمة ..ولك يا مريود بأن تتخيل هرطقة لم تكتمل بعد!!
كأنك لم تحمل هم الحيّ بأكمله يوما ً..ولم تشكّل بارقة امل لاخماد نارا ً استعرّت ..ولم تكن انت طرفا ًبها
أصلا ً…بقدر ما كنت ضحيّة من ضحايا قبيلتك المجنونة…..ما اقساها؟…وما افظعها؟!
وتتذكر جيدا كيف اندفعت القبيلة بأكملها وتجمّعت حول شجرة التين في محاولة بائسة قائلة:
– لا أمل لك في الحياة …..الا الانتقام …….
ومضيت بعدها ثلاثين سنة تعاقر الخمر والنسّاء على حد سواء …..ولم يتحرّك بغير الحقد قلبك !!

طارده القلق كظلّه …لكن سرعان ما تبدّد …عندما غمرت فؤاده الطمأنينة برؤية بيتة القديم ….وراح يتأمّل به
بنظر كليل ..وعيون زائغة لم تدمع في يوما ..الا دماً… ..لكأن الدموع لها ثمن !!!….واذا بخلت بها يا مريود يوما
…فلتكن الان عزائك الوحيد!!

لكز الباب بعكازة فأطاع دون مقاومة !!
وقف من على العتبة وهتف :
– انا مريود ….لقد عدت!!
اي تجاهل؟؟…اي اعدام هذا ؟؟…..اي شماتة؟؟ !!!
يالسخرية السماء……لا تعجب لهذه الوحشة الجاثمة على صدرك …لم تتوقع هذا اللقاء الميّت يوما ً!!
لعلّك كنت تريد أن تشاهد عجائز قد وحدّهن الدهر …..وخلعن الشعر من منابته البيضاء!!
وربّما توقعت سلالة من الرجال والغلمان تتقافز أمامك كعفاريت سليمان !!
أما بريح نحيبة…. تعصف في بقايا البيت المتهالك …..فترتدّ تروّض الشعر المتمرّد والمتلبّد على صدرك
هذا الذي لم تعمل حسابه يوما ً….
شعر برغبة جنونيّة تدفعه الى الانفجار لينفس عن صدره بعض الغيظ والحنق المكتوم ..والحقد المطمور
فلم يجد من يسمعه حتّى ….
وترامى الى مسامعه همهمات بهيميّة …لعلّها قد تبعته الى البيت القديم ..كغريبا ًعن الزمان والمكان
التفت اليهم كأنه لم يتوقع وجودهم :
– من انتم ؟؟
يا له من سؤال جدير في الاحتقار !! لمن الاولى بان تعرّف عن نفسك اولا !! فانت الغريب وليس هم !!
اجاب احدهم بنبرة ناعسة :
– سكان الحي القديم !!!
تردّدت كلمة القديم في صيوان أذنه …كرنين اجراس الكنيسة !!
من هو بأقدم وأعتق منك في هذا الطريق ….اي شماتة …واي سخرية!!
صرخ حينئذ بصوت قادم من اعماق بعيدة….كالمخنوق :
– انا مريود….اين القبيلة ؟؟..اين الرجال والصبيان والنساء ؟؟؟
لم ينبس احدهم بحرف والتفتوا جميعا ً نحو المقبرة …
كان جوابا قاسيا ً…اقسى من ثأرك ….واقتم من حلمك الذي يلاحقك كظلك المعتم ….
فلا تدري اي قبر تزور حتّى ..فبات لا يعلم اذا كانت القبيلة قد غدرت ام غدرت ..ولا هو بعالم الصديق من العدو
ولا احد يفصح له ويفسّر اندثارها ..وانقراضها…

مريود !! جئت لتؤول حلما زائفا ً….فضاعفت في مقتك اضعافا ….وعبثا تحاول أن تدفع الما……فليبقى حلمك بلا تأويل والى الابد!!!
وان عدت لتأجج ثأراً مدفونا ً ……وتشعل نيرانه المستعرّة …فها هو قد استحال الى رماداً في صدرك !!
فمن الحكمة أن تبقى مجهولاً مدى الحياة ………مدى الحياة !!!
جرت حينها في صفحة وجهه صورة كمأساة لا شفاء منها….واندفع مهرولا ً نحو شجرة التين الميتة …ورغبة عارمة في البكاء تجتاح كيانه!!!!

ملاحظة : كتبت هذة الخاطرة في الذكرى الحادية والستون للنكبة …ورمز لفلسطين بمريود…..تلك الارادة التي تطمح يوما ما بتحرير الارض والانسان على حد سواء؟؟؟؟؟
ورمز للكلبة باسرائيل …..ورمز ايضا ً للاصوات البهيمية بالعرب البائدة والمستعربة والمستغربة؟؟؟؟
فبخل الزمن علي واختصرت السنوات الى ثلاثين فقط…….
وستبقى ذكرى مغلفة في الاحزان الى ان يرث الله الارض وما عليها !!!!!

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.