محمد رفعت الدومي ( السبت ) 5/9/2015 م …
“كليبتومانيا”؛ هو الشغف بسرقة أشياء الآخر بهدف الحصول على لذة مؤقتة، سلوك لا إرادي، يبقى مرضًا على كل حال حتى يتعلق الأمر بالضوء، عندئذ يصبح مرض السرقة مرضًا خاصًا بالمشاهير الأكثر قدرة على النفاذ إلى قلوب الجماهير، وهؤلاء أقلية، ومن هذه الأقلية “سيمون”.
عندما قرأت لأول مرة أن “سيمون” قررت الوقوف تحت الأضواء مجددًا في “بين السرايات”، تناست سيطرتها التامة على مفردات شخصية امرأة من القاع في تجربة سابقة لها على المسرح، وسألت نفسي:
– امرأة مثل “سيمون”، وديعة وأرستقراطية ومثقفة الروح، ماذا ستفعل هناك؟
لم أظفر بإجابة عن هذا السؤال إلا مع أول وقفة لـ”صباح” فوق الخط الدرامي للأحداث، تلك اللحظة تبين لي أن “سيمون” ما كانت لتقدم على الذهاب إلى “بين السرايات” لولا أنها تدرك تمامًا أن لديها أسلحة وعتادًا أقوى بكثير مما يتصور أحد.
لقد أكدت وعيها الغائر بلعبة الضوء المعقدة، كما أكدت أنها تعرف عن مزاج الكاميرا ما لا يعرفه إلا القلائل، لذلك كانت شهرًا من القصائد المتجددة التي لمست مناطق رمادية تجاهلتها الدراما المصرية التي تناولت الأرملة، أو المرأة التي تصارع الحياة بمخالبها الخاصة، وتجاوزت بـ”صباح” كل أدوارها السابقة، وأسست لاسمها وعيًا جديدًا لا يمكن أن يهمله كل من سيؤرخ لـ”سيمون” بعد “بين السرايات”!
قدرتها على استقطاب المتلقي إلى عالمها الخاص دون أن يدري مذهلة، إلمام وجهها ليس فقط بمفردات التفاعل مع الكاميرا إنما مفردات التجاوب معها شاسع جدًا، وهذا شيء فطري لا يمكن تعلمه، لكن إن كنت أظن أن تفردها يعود بالأساس إلى انتباهها المبكر إلى خطأ يماطل المتخصصون حتى الآن في تصحيحه فذلك على الأرجح هو سر تفردها، إنها ليست ممثلة، لا كسرت بعدًا على طول الطريق ولا تورطت في انفعالات متشنجة، ولا لقب “الممثل” يليق بفنان، فالتمثيل في أبسط صوره ليس مضاهاة الطبيعة إنما الطبيعة ذاتها، ليس واقعًا موازيًا إنما سردٌ أمين للواقع نفسه، ما ليس طبيعيًا ليس فنًا!
وما كنت أظنها في البداية مجازفة هي عودة “سيمون” من خلال عمل اجتماعي، يعكس واقع المهمشين بقسوته وتوتره وصراعاته في وطن يحلم سكانه بالهروب من قبح الواقع إلى واقع بديل مزيف، يأخذهم بعيدًا عن مآسيهم، يخدرهم، لكن أن نقدم لهم انعكاس واقعهم المرير ونطلب منهم أن يتفاعلوا معه فاحتمالات العزوف كبيرة جدًا.
تزداد احتمالات العزوف حدة مع شغف المخرج “سامح عبد العزيز” بسرد الأحداث تصاعديًا لا حشدها وتكثيفها في البدايات، هذا يعني أن إيقاع الدراما سوف يسير في نطاقه المرسوم، فهو يعلو أو ينخفض طبقًا لتقدم النص دون أن يقيم وزنًا لشهية المتلقي، يبدو أن الاختبار كان عسيرًا!
أعترف الآن بأنني كنت مخطئًا، لقد نسيتُ أن عودة “سيمون” بحد ذاتها كانت حدثًا من شأنه أن يأخذ “بين السرايات” إلى مرتفعات شاهقة من معدلات المشاهدة والإثارة، دعاية مجانية لعمل في طور الإنشاء، وهذا تمامًا هو الذي حدث، ذلك أن وجودها عزَّزَ شعبية العمل وأضفى عليه زخمًا يصعب تصديقه، لقد ضربت قلوب الكثيرين موجةٌ عنيفة من الشغف برؤية جزء سُكَّريٍّ يخرج من متون الغياب يصلهم بماضيهم، وعندما رأى “سيمون” من لم يرها في صاحبة السعادة مع “إسعاد يونس” لأول مرة نسي الكثيرون حالتهم في تفاصيل وجهها، لقد أصيبوا بصدمةٍ ميسرة، ما زالت جميلة ورائقة كالعهد بها!
وكالعهد بـ”أحمد عبد الله” كان النص هادئًا، والنسيج الدرامي صلبًا ومكثفًا، والشخصيات منحوتة بتدبر، وهي تنمو في سياقها الطبيعي، والعلاقات بينها مبررة وواقعية!
كان الانطباع المبدئي من اسم العمل أن البطولة للمكان، كما أن إخلاص “أحمد عبد الله” لتيمة المكان أكدته عدة تجارب سابقة، حيث لا بطل محوري يعمل الآخرون على تربية شخصيته ولا حكاية بطل، آلية في الكتابة تضع الكاتب بمأمن من الاتهام بترك مناطق رمادية وراءه، فاستدارة حكاية من شأنها أن تعوض عدم نضج حكاية أخرى، كما تفتح أمامه بوابة كبيرة للفرار من شبهة استدعاء تجارب سابقة، وتمنحه رفاهية التحرك فوق مساحة واسعة من آفاق التلقي وسرد مستويات مختلفة من المفردات الإنسانية، لكل بطل حكايته الخاصة، ولكل حكاية أبطالها الثانويون الذين يمتلكون دائمًا فرص التسلل إلى مركز الضوء مع تقدم الخط الدرامي وانحساره، وهذا ما استفادت منه “سيمون” كثيرًا، كيف؟
في مثل هذه الأحوال، يصبح الوضع في البلاتوه محمومًا، وتلعب أدوات الفنان الخاصة دورًا مهمًا في تنمية شخصيته، إنه امتحان لمعرفة المزيف من الحقيقي، غير أن قوة روح “سيمون”، وولع الكاميرا بوجهها، من قبل حتى أن تنطفئ المعركة الدرامية في “بين السرايات”، جعلت السؤال عن بطل العمل ينكمش إلى إجابة واحدة: “سيمون”، طبعًا!
ولا ألوم أحدًا على عزفه، لقد فعل معظمهم أقصى ما يستطيع.
كان “صبري فواز” كعادته منصة درامية فادحة، “سيد رجب” كان شديد اللياقة أيضًا، وأكد “محمد شاهين” أنه ينضج بوتيرة مرضية، ونجحت “نجلاء بدر” في الخروج من قفص الحسناء، لم يتطلب هذا أكثر من بطالة ماكييرها لبعض الوقت يثبت خلاله أن الماكيير بإمكانه تزوير الملامح أيضًا.
لكن “باسم سمرة”، لا أدري هل لتعمد الكاتب أن تبدو الشخصية هكذا ملتبسة، أم لتقصيره هو واستعجاله أثناء القراءة أخطأ الإمساك بخيوط “مخلص” وأبعاده جيدًا!
بينما فضلت “روجينا” المراوحة في مكانها، وبالقدر نفسه، “أيتن عامر”، لم تضف كلتاهما إلى أفكار المتلقي السابقة عنهما جديدًا!
إن مما هو في حكم المؤكد أن 30 يومًا قضتها “سيمون” في “بين السرايات”، سوف تهيئها للتحليق في آفاق أكثر رحابة، كانت كيمامة أطلقتها في البراري، عندما تراها تحلق في السماء تشعر بأنه أنسب مكان لها فحسب.
التعليقات مغلقة.