مقال هام جدا … عن تلك “الهندسة السياسية” التي تصنع بؤسنا / د. عبد الحكيم الحسبان

د.عبدالحكيم الحسبان ( الأردن ) الأحد 28/7/2019 م …



ثمة مفارقات صارخة تسم المشهد السائد في بلادي. ففي المشهد، ثمة دولة قادرة أن تلعب دورا إقليميا مهما بل ومفتاحيا في ملفات الإقليم بفعل الذراع الأمني والعسكري والسياسي الذي بنته وأنجزته على مدى عقود، ولكن هذه الدولة تبدو وكأنها لا تشبه نفسها حين تقف عاجزة عن معالجة اصغر الأمور المعيشية لمواطنيها في الصحة كما في النقل العام كما في التعليم.

وبالتاكيد، فثمة شعور بالفخر ينتابني كأردني حين تقع عيناي على نتائج الدراسات التي تقوم بها افضل مراكز الأبحاث العسكرية عن ترتيب الجيوش في المنطقة والتي تقول بأنه بات لدينا ذراع عسكريه تحتل مرتبة متقدمة في ترتيب الجيوش في المنطقة. أشعر بالفخر وافرح لأي خبر يتعلق بنمو الجيوش وتطورها في اي بلد عربي. فالجيوش في العمق لا يمكن إلا أن تكون مؤسسات وطنية وتمثل قيمة مؤسساتية مضافة في عالم اليوم.

أما المفارقة انه وفي موازاة ذلك النجاح في خلق ذراع عسكريه وأمنية يعتد بها تبدو ذراعنا الاقتصادية والصحية والتعليمية في أقصى درجات الضعف والهشاشة لدرجة اننا عاجزون عن رتق ثقوب وحفر صغيرة تدمر مركباتنا التي تعبر كل يوم على طريق رئيس يصل العاصمة بشمال البلاد. وتصل هشاشة الدولة ذروتها حين تذهب الى غرف المرضى في المستشفيات الحكومية وأنت ترى أهالي المرضى وهم يجلبون المراوح الكهربائية من بيوتهم لتساعد مرضاهم على تحمل عذاب المرض والحر الشديد.

ولان بلدا بحساسية موقع الاردن ومفتاحيته لا يمكن لسير الامور فيه أن تترك نهبا للصدفة ولعبثية الأقدار، فانني أجزم أن الحالة الأردنية تبدو خاضعة للهندسة والترتيب والتدخل والتشكيل حتى في أدق تفاصيل مكوناتها. في اللغة الفرنسية تم اشتقاق مصطلح هندسة” من كلمة عبقرية او نبوغ. وبهذا المعنى تصبح الكلمتان تتقاطعان وتتداخلان في المعاني المتضمنة فيهما. ما من مفردة تبدو أكثر بلاغة من مصطلح هندسة لوصف تلك الآلة الجهنمية التي تصنع أدق تفاصيل المشهد الاردني. اي التي تصنع بؤسنا.

منذ تأسيسه كان الأردن جزء من منظومة سياسية وإستراتيجية غربية. وفي حين تتفاخر المنظومة الغربية بنجاحها منقطع النظير في تحويل بلد ككوريا الجنوبية من دولة تعاني الفقر باكثر مما تعانيه مصر في ستينيات القرن الماضي، الى بلد يصل حجم متوسط دخل الفرد فيه الى الاربعين الف دولار سنويا، كما تحتفل هذه المنظومة الغربية برفع مستوى دخل الفرد في الكيان الصهيوني الى اكثر من 40 الف دولار سنويا، فان المنظومة الغربية والخليجية بما تملكه من فوائض تتجاوز التريليونات تريد لنا أن نقتنع بأنها عاجزة عن النهوض باقتصاد بلد يبلغ عدد سكانه العشرة ملايين ولا تتجاوز ميزانيته السنوية ميزانية بعض المدن الأمريكية او الأوروبية متوسطة الحجم.

منذ عقدين أو أكثر يتم هندسة النمو الاقتصادي في الاردن بواسطة دهاقنة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وشركاء محليين بحيث لا يزيد عن ٢ بالمئة سنويا. هذه النسبة في السياق الأردني لا تعني نموا اقتصاديا كما هو عليه الحال في اقتصاديات اليابان او فرنسا, بل هي نسبة نمو تبقي الحال على ما هو عليه، وتبقي حال المراوحة في المكان البائس ذاته. فنسبة النمو السكاني مضاف إليها نسبة النمو بفعل التهجير السكاني بفعل التدمير الذي يقوم به الفيل الأمريكي والاسرائيلي في الإقليم المجاور مضاف إليها فساد إداري وسياسي متماد تلتهم كلها رقم “ال ٢ بالمئة نمو” لتحيله إلى ما هو أكثر من كساد اقتصادي. نسبة النمو الاقتصادي المخططة للاردن يراد لها أن تمنع تحول الاردن إلى دولة فاشلة بما يمثله ذلك من مخاطر على الاقليم كله، ولكنه لا يراد له في الآن ذاته أن يحيل الاردن إلى وطن قادر على إشباع احتياجات أبنائه.

في هندسة صناعة البؤس الاقتصادي والاجتماعي بالأردن وفي هندسة صناعة الفقر والبطالة، لا يمكنك إلا أن تفكر في التسعيرة الجهنمية والغامضة والقاتلة للمشتقات النفطية التي تتكفل بقتل كثير من عوامل النمو الاقتصادي الحقيقي في الأردن, كما لا يمكنك إلا أن تفكر في نسبة الفائدة الجنونية والقاتلة التي تفرضها البنوك على الشعب الأردني والتي تزيد عن العشرة بالمائة. أجزم أن مقدار نسبة الفائدة كما تسعيرة المشتقات النفطية كانت من عمل الهندسة السياسية الشيطانية عينها.

ثمة أرقام مفتاحية أخرى يمكنك من خلالها الولوج إلى المشهد السياسي في بلد ما مهما كانت درجة تعقيده واستعصائه على الفهم. فوفق دراسة نشرت قبل حوالي الشهر فان اكثر من ٤٠ بالمئة من الأردنيين يرغبون في الهجرة. الرقم كاشف عن حجم البؤس والاحباط الذي بات الجميع يعيشونه. والرقم أيضا صادم عن حجم المخاطر الوجودية التي باتت تهدد الأردن كوطن ودولة ومجتمع.

الرقم الصادم أي نسبة ال ٤٠ بالمئة من الاردنيين التي ترغب بترك وطنها، مرت داخل شريط الأخبار ودفق المعلومات وبقيت مجرد عنوان صغير هامشي لم يلق صغير اهتمام من صانع قرار او من مراكز دراسات. ولم يستحق الرقم من الأردنيين اهتماما، ساسة أو نخبا أو أكاديميين أو حتى جموعا تخرج بمئات الآلاف لتحتفل بهدف كروي أو لتخوض معارك الكترونية طاحنة بعد أن استفزتها قبلة طبعت على صخور المدينة الوردية ووثقتها كاميرا مخرج تلفزيوني في عمل “فني”.

أمام الخبر عن نسبة الأربعين بالمئة من الأردنيين الراغبين بالهجرة، أجزم أن هناك من كان يحتفل بالرقم داخل مراكز صناعة القرار الصهيوني بالنجاح الذي حققته أذرعه الدولية في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالشراكة مع أذرع محلية أردنية واقليمية. النظرية الصهيونية تقوم على أن كل أردني أو فلسطيني او سوري يهاجر فهو يخلي مكانا ليهودي روسي او فرنسي كي يستوطن فيه.

في مفردات الهندسة السياسية الأمريكية هناك مشهد ملائكي يراد له أن يظهر للعين. هناك ضجيج إعلامي عن معونات امريكيه سنوية ضخمة للأردن. من يدقق يجد أنها لا تخدم أبدا ذراع الدولة الأردنية في الداخل كي تشبع احتياجات مواطنيها. وفي المشهد أيضا زيارات متبادلة لوفود أمريكية وأردنية لا تنقطع وحديث عن صداقة وتعاون بل وتحالف بين الولايات المتحدة وبلادنا الأردن.

ولكن في المشهد الحقيقي والذي لا يتحدث عنه الاعلام، هناك سفارة أمريكية في عمان يصر الأمريكي على أن تبقى ومنذ ثلاث سنوات دون سفير. من يقرا السياسة جيدا يدرك معنى رفض الولايات المتحدة تسمبة سفير لها في بلد يفترض انه صديق بل وحليف. وفي المشهد أيضا هناك تعيين جرى في وزارة الخارجية الامريكيه قبل حوالي الشهر لشخصية كريهة تحمل حقدا على الأردن قيادة وشعبا ووطنا أريد لها في هذا التوقيت بالذات ان تكون في أعلى الصفوف التي تصنع القرار في السياسة الخارجية الامريكيه. الحديث هنا يدور عن ديفيد شينكر الذي اعتاد على مدى سنوات طويلة كتابة مقالات مسمومة عن فساد السلطة في الأردن مسلطا سمومه على أعلى المرجعيات في الدولة الأردنية.. الهندسة السياسية الشيطانية لعصابة بولتون اقتضت الآن إن يتحول شينكر من موقع الباحث والكاتب الصحافي إلى صانع سياسات شيطانية ضد الاردن وأرضه وقيادته.

تشتمل الهندسة السياسية الأمريكية للمشهد في بلادي أن يتم تصنيع الأزمات والبؤس على الارض، بالتزامن مع بث خطاب إعلامي عن وعود بالسمن والعسل من قبل الأمريكي والغربي اذا تم تمرير المشاريع السياسية التي يطرحها الإسرائيلي بلبوس امريكي. قبل ثلاثين عاما انهار دينارنا، وحاصرت اساطيل امريكا مينائنا الوحيد. على مدى سنين تم خنقنا وتجويعنا لتخرج علينا أبواق الأمريكي في الداخل لتعدنا بشيكات مليونية لكل أسرة أردنية اذا قبلنا بالصفقة.

وقعنا الصفقة في العام ١٩٩٤ لنشهد انفراجة قصيرة ونسبية مبرمجة لتبدأ بعدها حلقة جهنمية جديدة من ضنك العيش ليأتي هذه المرة جاريد كوشنر ونتنياهو ليعدونا بذات جرار السمن والعسل التي سبق ووعدونا بها في العام ١٩٩٤ والتي لم تصل بعد ولن تصل قط.

الاردن وفلسطين ومصر كلها وقعت مع إسرائيل لتنعم بالسلام والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية ولكن المفارقة أنها تبدو أكثر الدول المحاصرة و المستهدفة أمريكيا واسرائيليا بالرغم من أنها تبدو ظاهريا هي الأكثر قربا من الولايات المتحدة.

من البداهة أن يسعى الامريكي إلى أن يصنع تاريخه بل وأن صناعة تاريخ العالم وهندسته وفقا لمصالحه، ولكن البداهة والمنطق والوطنية تقضي أن يسعى الأردنيون عرشا وحكومة وشعبا ونخبا لان يصنعوا تاريخ وطنهم لا ان يتركوا أمر صناعته نهبا للغرباء والاعداء.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.