عقلة” يتدفأُ بحرق الاحذية و”هدى” تشوي الكستنا ! / بسام الياسين

 

 

بسام الياسين ( الأردن ) الأربعاء 14/1/2015 م …

 

( للمعذبين على هذه الارض،المحكومين بالشقاء فوقها،بإنتظار موتٍ رحيم،لعلهم يسعدون تحت ترابها     )

إستيقظ ‘عقلة’ مبكراً على غير عادته كي يتحاشى ازمة المواصلات، قبل تزاحم الموظفين والطلبة في مثل هذا اليوم،من مطلع كل اسبوع.هرول الى الحمام.دعك وجهه بالماء والصابون.تناول منشفة معلقة قبالته،وراح يجفف بقايا قطرات ماء لم تزل عالقة باطراف ذقنه الناحلة التي تشبه ‘بوز سيارة مضروبة ‘، جرى تشليحها بعد ان اصبحت غير صالحة، بشهادة ميكانيكي معتمد،و تقرير موظف شركة التامين،نتيجة حادث إنزلاق صهريج نضح عليها،ثم إنقلابه فوقها بكامل حمولته،عند احد المنعطفات الحادة،بسب حالة الانجماد الناتج عن دخول ‘هدى’ ضيفة باردة غير مرغوب فيها عند الغالبية العظمى لقسوتها اللامعهودة،وضعف قدرتهم الشرائية، ليس لشراء الكستنا، البطاطا الحلوة ،الكاشو،اللوز، الفستق الحلبي،الحلويات بمذاقاتها المتنوعة ومسمياتها المختلفة ،بل للضروريات القصوى كالغاز، الكاز،العدس لحم الفقراء،الشاي المشروب الوطني للشعب الاردني.

*** استقبل الاغنياء ‘هدى’ باللعب معها،الاستمتاع بها،قضاء الليالي بمداعبتها تارة بطقطقة الكستناء على جمر مدافيء الـ ـ fire place ـ ،وكسارات البندق،وتارة باحتساء المنكرات الملونة،بينما امضى الفقراء لياليهم الطويلة، يتحّلقون حول مدافيء بدائية مهترئة، وقودها صرامي عتيقة، شرايط قديمة ، كرتون من مخلفات المحلات التجارية والمؤسسات العسكرية والمدنية. حصيلتها كانت ‘مُميتة’. إستشهاد عائلات باكملها،ممن عاشوا حياة هامشية،كأنهم طارئون عليها،مطرودون من رحمتها.ماتوا مسمومين من إنبعاث غازات احذية بلاستيكية محروقة،قطع موكيت وملابس بالية مصنوعة من مشتقات بترولية تطلق غازات سامة،خطورتها لا تقل سُمّية عن الاسلحة الكيماوية المحرمة. الامم المتحدة تولول حين استعمالها في الحروب، وتسكت عند تفجيرها في بيوتنا.

*** عقلة مواطن يخاف ربه،يصلي الفرائض الخمس، ادى العمرة اكثر من مرة،.يحلم باداء فريضة الحج عندما تتوفر لديه العملة.لم يقرب حراماً في حياته.مأكله حلال،مشربه حلال،لكنه ممعوط مثل ‘صوصهزيل،كسر للتو قشرة بيضته وخرج يواجه العالم عاريا لا يستره الا جلده الرقيق.ممطوط كـ’قصبةِ شَبابةٍ’ ناشفة من كثرة الهموم،لا تدوزن عند النفخ فيها سوى انغام حزينة،اقرب ما تكون الى نواح مقامات كربلائية، تنوح على مقتل سيدنا الحسين،كأنَّ جسده المطعون ـ منذ الف عام ـ لم يزل ‘يفرفط’ حتى اللحظة.اخذ يتأمل تفاصيل وجهه في مرآة كالحة اثر اكسدة بخار الحمام، بنظرات فاحصة لم يفعلها من قبل،الا ان شيئاً ما شده هذه المرة،لاجراء فحص شامل،كأنه يرى نفسه لاول مره. تفحَّص هيئته بمهارة مدقق في هيئة مكافحة الفساد يحب وطنه،أُنيطت به لامانته،مهمة تدقيق ملف شخصية منحدرة من عائلة نافذة،مفطورة على سرقة المال العام،و إحتلال مراكز متقدمة بالوراثة. ضرب الاخماس بالاسداس على آلة حاسبة، مُخزنّة في هاتفه الخلوي.بعد لعبة طويلة بالارقام، ظهرت إجابه حاسمة على الشاشة تقول:انه لا يساوي نكلةٍ،حتى لو باع نفسه في ‘سوق الحرامية’ بقاع المدينة.كم تمنى ساعتها من ربه لو انه يساوي كومة من حطب، ليقايض نفسه بها،ويعود فيها الى عياله.لكنه ايقن انه كومة من زبالة لا تصلح الا للكب في قلابات البلدية او ضاغطات الامانة.

*** ما جرح كبرياء ‘عقلة’ الوطني،ان الحرامي الذي يتابع ملفه موظف هيئة المُكافحة،يساوي عشيرة من شاكلته.فقط لامتلاكه موهبة فنان يحمل جائزة الاوسكار في فن الحرمنه،ومهنية رفيعة في سرقة اموال الدولة، من دون ان يترك خلفه بصمة تدينه. داهية مجبولُ بماء الشياطين،نجحت كل عملياته في التحايل على القوانيين، حتى نبتت في راسه قرون عصية على الكسر. لذلك اطلق عليه العارفون بالاسرار لقب ‘الاسطورة’، اذ بلغ به الاستخفاف برقابة ومُساءلة مجلس النواب،وديوان المحاسبة ان وصفهما بـ ‘ملجأ العجزة’ لانهما قوى عاجزة لا تحل عنزة ولا تربط سخلة.كما وصف هيئة مكافحة الفساد بـ ‘متحف الشمع / الفزاعة ‘، الذي وُجد لاخافة ـ العصافير الصغيرة ـ . اما هو فكان يفاخر على الدوام انه ‘ذيب’ غير هيّاب، يسطو على حظائر الخزينة.ويتباهى انه سرسري طق عرق الحياء في جبينه، منذ ان لفظته امه في مستشفى خاص بعد مخاض عسير،استدعى استعصائه من الطبيب الجراح ان يمدّ يده الى كوعه، ليسحبه عنوةً من زاوية بعيدة معتمة في رحم امه،رغم رفضها لهذه الطريقة المُؤذية المُهينة،لكن الطبيب المتمرس في مهنته عرف بخبرته الطويلة انها امرأةمتعودة’ على ذمة عادل امام الواسعة،لها قدرة استيعابية اكبر من ميناء العقبة بعد التوسعة.

*** المؤلم اكثر، حسب شكوى ‘عقله’، انه اذا تأخر خمس دقائق عن الدوام،فالقيامة تقوم على راسه،بينما فاسدٌ من تلاميذ ابليس، تَخرجَّ برتبة زنديق،نهب البلد،وتنّعم بخيرات الوطن، لا يجرؤ احدٌ على الاقتراب منه،ولا يعبأ بوالد ولا ولد. اما ‘عقله’ المواطن المسالم،دافع الضرائب الذي لم يمشِ خطوة في مظاهرة،لم يحرق اطار سيارة احتجاجاً على رسوب قريبه في الانتخابات،لم يحمل مكبر صوتٍ لتغشيش إبنه في الامتحانات، لم تدخل بيته الطاهر حبة ‘كيوي او مانجا’ من مزارع مستوطنات اليهود القتلة.ينظر اليه الناس بعين الشفقة ،فيما ينظرون للذي بزَّ اقرانه في جميع المقررات الشريرة، باحترام ، حتى ان ابليس يُعنّف اعوانه ،ويزدري مريديه ممن اطلقوا على انفسهم ـ انصار ابليس ـ لانهم ليسوا مثل ـ ابن الحرام ـ في ـ ولدّنة الحرام ـ ،ولا مثل عائلته صاحبة الشعار المتوارث: ‘إنهب،مال الدولة،وما لم تستطع ان تنهبه…إحرقه حتى لا يستفيد غيرك منه ‘.

*** عقلة المدهوش بنفسة.الحزين على وضعه.المندهش لما آل اليه شكله. تساقطت قلاعه الواحدة تلو الاخرى،و حصون جهاز مناعته رفعت الرايات البيضاء. ما زاد الامر سوءاً، تلك الدوائر السوداء المحيطة بعينيه،كسوار يؤرخ لتعبٍ مُضنٍ في رحلة ايامه الصعبة، او كأنها إسوارة الكترونية تُطبق على يده، لتدل على مكان وجوده لاستدعائه عند الطلب، من اجل تنفيذ حكم قضائي عليه بالشقاء المؤبد.ما ازعجه اكثر،تلك الخطوط العميقة المحفورة على صفحة جبهته،التي غيّرت تضاريس ملامحه (180 ) درجة حتى اصبح كعجوز متقاعد،احدودب ظهره،مع انه في الواقع لم يقطع نصف المدة القانونية،فيما التقاعد امنيته،ليعمل عملاً حراً،من اجل شراء منزله الحلم،كي يشير الناس باصابعهم الى ‘بيت عقلة’ المكافح الذي صبر ونال مراده اواخر عمره .

*** لتجسيد امنية الحلم،كان على راس خياراته الحصول على رخصة بسطة في راس العين من امانة العاصمة.التصريح لن يكون صعباً،لان ما يربط بين ‘عقلة المكدود وعقل المحظوظ’ امين العاصمة ثلاثة حروف ابجدية،ناهيك انه يزيد عليه، بتاء مربوطة تربطه بخازوق فقر مدقع.اما اذا تعسرت الامور،فانه قرر قيادة عربة شاي حديثة في مجمع سفريات الشمال.لكن مشكلته الكبيرة،ان حلمه الصغير بعيد المنال،لانه وحيد بلا سند،ولا راس مال يبدأ به عمله الحر،ناهيك ان صحته،’على قد الحال’،فهذه الاعمال تتطلب مباطحة و دفاشة يفتقر لهما.عندها داهمه إحساس قوي،ان الدنيا تقف حائط صد ضده، وانه اشبه بعصفور مكسور الجناح تتقاذفه ثلاث عواصف مجتمعة، دفعة واحدة لا واحدة هن: إليكسا…،بشرى…،هدى…!.عندها لمع الحل الاخير في ذهنه الذي لا يكلف سوى كيس صغير يلملم به علب البيبسي الفارغة من الارصفة والحاويات.

*** تذكر عقلة ‘نق’ المرحومة والدته،وهي تردد على مسامعه، صباح مساء، كلازمة الاغاني الوطنية على بعض الفضائيات المحلية،التي تدار بمناسبة وبلا مناسبة : ـ ‘يُما’ انت مثل جبر من ‘دبر’ امك للقبرـ . بلع ذكرى الاهانة ،محاولاً التمرد على ما يدور براسه من افكار سوداء،قد تؤدي به للجنون،بابتسامة تضيء عتمة كآبته التي تلتف حول عنقه،كمحكوم يقف على كرسي الاعدام. جاهد بما أُوتي من قوة، ليبقى متماسكاً،الا ان دمعةً فرت من عينه،واستقرت على زاوية فمه.مدَّ لسانه آلياً ليلعقها،فاحس بلذعة كاوية،لم يتبين طعمها،هل هي مالحة كايامه الماضية، ام مُرةٍ مثل’علقم’مستقبله المظلم؟!.آثر بصقها على تاريخه الحافل بالعثرات،لكنه ندم على فعلته وعاد فاستغفر الله،لان غالبية الناس على خط العدم مثله،وبعضهم اكثر سوءاً.

*** هَمَّ بالخروج من البيت،قبل اطلاق طفل صرخة تستفز اعصابه،وقبل انطلاق اول حافلة من مجمع السفريات،ليكون راس طابور في مؤسسة النقل العام،للوصول الى دوامه دون تاخير،خشية تقريع المدير، وتأثير غيابه على تقديره السنوي. فجأة شعر بقوة جذب تجبره على تغيير خط سيره.انعطف متوجهاً الى غرفة اطفاله ـ احب الناس اليه و اغلاهم على قلبه ـ . انحنى على اصغرهم ليطبع قُبْلة ناعمه على جبينه،وتفريغ شحنة احزانه، التي تعتمل في اعماقه كمرجلٍ لا يهدأ.لكن ما حدث كان مغايراً لتوقعاته.فعندما اقتربت شفتيه من وجنة الطفل، احس الصغير، بلهاثه وحرارة انفاسه،فانفجر باكياً.هُرعت الزوجة راكضة نحوه،وبيدها رضاعة حليبٍ القمتها فمه، ليكف عن معزوفته الصباحية الصاخبة التي تشبه موسيقى بائع الغاز،التي توقظها باكراً من نومها العميق ايام الجمعة.

*** استدارت الصابرة المتصابرة،المرابطة على خط التماس الاول نحو زوجها،من دون ان تنظر إليه،قالت له بصوتٍ كسير متقطع:ان حليب الاطفال اوشك على النفاذ،كما ان صاحب المنزل ابلغني ان ابلغك ان صبره هو الآخر قد نفذ ،فاما ان تدفع اجرة الشهر الحالي،و الاجور المتراكمة،و الا فالاخلاء بالتراضي او البهدلة في المحكمة.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.