حراك المخيّمات الفلسطينية في لبنان: محاولة جديدة للخروج من الهامش / هنا سليمان، إسلام الخطيب

هنا سليمان، إسلام الخطيب ( الأربعاء ) 21/8/2019 م …




مظاهرة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان ضد قرار حكومي يحد قدرتهم على العمل.

نكابر ونقول إن لا ناقة لنا في لبنان ولا جمل. إننا مجرّد عابري سبيل أو ركّاب في محطّة قطار ينتظرون عودتهم المحتّمة. نُزايد على من يتهمنا بـ«نتف الذقن» ونقول أننا نفضّل العيش في فلسطين الخالية من أزمة النفايات وانقطاع الكهرباء والسموم التي تحاصرنا. نَعِد أصدقاءنا مازحين بأن فلسطيننا المستقبلية سترحّب بحفلاتهم وتحتفي بحقّهنّ بالاختلاف وتعطي النساء حق الجنسية وتصون كرامة اللاجئين والعاملات الأجنبيّات. نذكّر أنفسنا ونذكّرهم أننا هنا رغمًا عنّا وبأن قرانا المدمّرة أغلى على قلوبنا من مخيمات اللجوء القابعة في ضواحي مدن لا ترانا ولا تريدنا. نتابع نضالات الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ومسيرات العودة في غزّة وهدم البيوت في القدس ونغصّ بعدم قدرتنا على المشاركة أو المساندة الحقيقية الفاعلة. نعاير من يريد تحرير فلسطين ولكنّه لا يأبه بالفلسطينيين: أليس الأقربون أولى بالمعروف؟ نواسي بعضنا البعض ونلعن اللجوء ونفكّر بأسرع طريق للخلاص من عبثيّة وعنصريّة لبنان.

كل هذا صحيح، لكنّه لا يتعدّى كونه نصف الحقيقة. أمّا النصف الآخر فهو أننا وُلدنا في بيروت وصيدا وصور وطرابلس والبقاع، هذه المدن تعرفنا منذ نعومة أظفارنا، فيها كبرنا، ومن على شواطئها رأينا البحر لأوّل مرة. نمشي في شوارعها فنتذكّر الحب الأوّل والمظاهرة الأولى، زففنا أقرباءنا في أحيائها ودفنّا أحباءنا في مقابرها وعرفنا معنى الحياة والموت في طيّاتها، شهدتْ كلّ مراحل تكوين وعينا السياسي وفيها عرفنا أنّ القطار لن يأتي في زمننا وأننا سنعيش ونموت في لبنان. إن هذه المدن لنا كما نحن لها، ونكراننا لبعضنا هو طمس لكينونتنا وكينونتها. إن منعنا العمل والعيش الكريم مؤذٍ ليس لأنه يذل ويجوّع الناس فحسب، بل لإنه كذلك يبتر علاقتنا بالمكان الوحيد الذي ألفناه وبنينا فيه منازلنا التي يمنعنا القانون أن نتملكها.

كما نعرف أننا لسنا لوحدنا. ندرك أننا نتشارك المصيبة مع عدّة مجموعات لفظتها الصيغة اللبنانية الجامعة. نعي أن نضالنا من أجل العمل والعيش الكريم يتقاطع مع السوريات والعاملات الأجنبيّات وفقراء المدن. نرى أن خطاب الكراهيّة وقمع الحريات وتجريم الاختلاف قضايا تمسّنا، لأننا لسنا فلسطينيين فقط، نحن مختلفون أيضًا. نفهم أن هندسة القمع والحرمان تختلف باختلاف الوضع القانوني بين المواطن واللاجئ والنازح وغيرها من المسميّات التي، على سخافتها، تتحكّم بواقعنا المعيشي وأفق تغيير الواقع. ننادي بتساوي الأولويات والقضايا، ونرى الفجوة بين خطاب التضامن وواقع التشرذم وندرك أن لا خلاص لأي منّا إلّا بمواجهة وحش العنصرية والشعبوية والفاشيّة.

هذه حقيقتنا المركّبة وهذا سياقها الأوسع. إلا أننا في هذه المداخلة لن نتطرّق لكل القضايا، ولن نسرف في الحديث عن التقاطعيّة في الفاشيّة التي تهددنا جميعًا. بل سنركّز على السياق الأضيق: على الهيكليّة القانونيّة والسياسيّة المحددة التي تقمع الفلسطينيين في لبنان منذ عقود وتسلبنا مقومات العيش الكريم. هذا ليس قصر نظر ولا تجزيئًا للقضايا بل هو انتصار للثورة التي اجتاحت مخيمات لبنان منذ ستة وعشرين يومًا، واعترافًا بأن هذه لحظة تاريخيّة في سيرورة مجتمعنا الفلسطيني الذي لم يشهد حراكًا سياسيًا واسعًا منذ عقود، وأن لهذه اللحظة أبعاد أقل ما يقال عنها إنها مصيريّة، مدى نجاح هذا الحراك في انتزاع الحقوق سيحدّد أفق معيشتنا في لبنان، ومدى تصدّيه للفساد وتخلّي القيادة الفلسطينية سيحدد قدرتنا على خلق البدائل السياسيّة والانخراط بالعمل السياسي الفلسطيني الأوسع.

لا نبالغ بالقول إن هذا الحراك كسر هامشيتنا وأعادنا إلى صلب الأسئلة السياسية الفلسطينيّة واللبنانيّة على حد سواء، وإن بإمكانه أن يعيد انتاج صورة اللاجئ الفلسطيني في لبنان من جديد. هذا الحراك استرجع جزءًا من كرامتنا وصوتنا ووضَعنا أمام أسئلة تبحث عن حلول منذ عقود. هي لحظة مفصليّة إذن، وتتطلّب منّا جميعًا المشاركة والدعم كلٌ من موقعها؛ وتدفعنا إلى إعادة التفكير في نظرتنا إلى أنفسنا وفي فهمنا لبعضنا البعض.

القشّة وظهر البعير

في الثالث من حزيران/يونيو 2019 أطلق وزير حزب القوات اللبنانية في الحكومة اللبنانية، كميل أبو سليمان، خطة لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية بهدف «حماية اليد العاملة اللبنانية وتطبيق القوانين وتعزيز الأمن الاجتماعي»؛ خطة تستهدف في جوهرها العمالة السورية في لبنان. تقتضي الخطة بأن يكون كل عامل أجنبي في لبنان حاصلًا على إجازة عمل، بما في ذلك اللاجئون الفلسطينيون. أعطت الوزارة مهلة شهر واحد للحصول على تصاريح عمل. وبمجرد انتهاء المهلة بدأت الوزارة بإغلاق وتوقيف كل من لم يمتثل لقرارات خطة العمل. أرسلت الوزارة مفتشين إلى مدن مختلفة في لبنان، ذهب المفتشون إلى المتاجر والشركات ومحلات البقالة والأفران وغيرها وأصدروا إشعارات مخالفة للشركات التي توظف عمّالًا «أجانب» دون تصاريح عمل. خلال تلك المدّة كان التركيز محصورًا باللاجئين السوريين الذين كانوا وما زالوا عرضة لخطر الترحيل.

امتدت هذه الحملة لتشمل اللاجئين الفلسطينيين، وبدأت وزارة العمل بإغلاق مؤسسات لفلسطينيين وطرد عمال فلسطينيين لا يملكون إجازات عمل، مما دفع الكثير من الفلسطينيين إلى النزول إلى الشارع مطالبين بإعفائهم من إجازة العمل. عندها نشرت وزارة العمل بيانًا يقول بأن قانون العمل «لا يستهدف أحدًا»، وبأنه يطبق على الجميع دون استثناء. وقال كميل أبو سليمان، وزير العمل اللبناني، في حديثه إلى محطة تلفزيونية محلية في 18 تمّوز/يوليو: «إنّ الوزارة تعمل ببساطة على فرض القوانين التي تنظّم العمال الأجانب في البلاد». ونفى استهداف الفلسطينيين بشكل خاص؛ إلا أنّه على الرغم من تصنيف الفلسطينيين كلاجئين وفقًا للقانون الدوليّ، إلا أنّ القانون اللبناني ما زال يفتقر إلى صيغة وتعريف واضحيّين ووقانونيّين للوجود الفلسطيني في البلاد، وهم الذين لا يمكن تصنيفهم على أنهم عمال أجانب انطلاقًا من عدم قدرتهم على العودة على فلسطين المحتلة.

ننادي بتساوي الأولويات والقضايا، ونرى الفجوة بين خطاب التضامن وواقع التشرذم وندرك أن لا خلاص لأي منّا إلّا بمواجهة وحش العنصرية والشعبوية والفاشيّة.

الإجراءات الحالية التي اتخذتها وزارة العمل ليست مفاجئة، لأنها كانت تطبق على اللاجئين والعمال السوريين منذ بعض الوقت في لبنان، ما فاجأ الجميع هو استخدامها ضد اللاجئين الفلسطينيين الذين يتوارثون العنف الاقتصادي في لبنان منذ 71 عامًا. الإجراءات الأخيرة جزء من قائمة طويلة من الإجراءات والقوانين المسيئة ضد الفلسطينيين، ولهذه الإجراءات سياق تاريخي وقانوني ومؤسساتي طويل بدأ مع بداية الخمسينيات حين أخذت السلطات اللبنانية تخشى النتائج السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمكن أن تعكسها قضية اللاجئين الفلسطينيين. دفعت هذه «المخاوف» الدولة اللبنانية إلى التعاطي الأمني مع قضية اللاجئين، حيث باتت الأجهزة الأمنية هي المكلّفة بمتابعة قضية اللاجئين وأصبحت هذه الأجهزة تفرض الرقابة على المخيمات وتعنى برصد الأنشطة السياسية. وظلّت هذه الأجهزة هي المسؤولة عن السجلات الشخصية للاجئين حتى تم تأسيس مديرية شؤون اللاجئين. لكن من الناحية القانونية اختلفت معاملة السلطات اللبنانية للفلسطينيين بين فترة وأخرى. ففي أوقات اعتبرتهم أجانب وفي مراحل لاحقة صنّفتهم كلاجئين يتمتعون بحالة اقامة خاصة؛ أي أجانب من نوع خاص. وهنا تكمن المشكلة الجوهرية في القانون اللبناني: عجزه عن صياغة تعريف قانوني، واضح وعادل للاجئين الفلسطينيين في لبنان. فمثلًا، الإجراءات التي تتعلق بعمل الفلسطينيين في لبنان تتبدل بحسب الصلاحية التقديرية لوزير العمل، وذلك لعدم وجود قانون ثابت لتنظيم عمل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

ساوى القانون اللبناني الخاص بحق العمل بين اللاجئ الفلسطيني وأيّ أجنبي مقيم في لبنان. وبما أن القانون اللبناني يصنّف الفلسطينيين في دائرة الأجانب، فإن قوانين العمل اللبنانية الخاصة بالأجانب تنطبق على اللاجئين الفلسطينيين، وفي ذلك مخالفة واضحة لقرارات القمة العربية ولاتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين. وكان قانون العمل اللبناني المعمول به في السنوات التي أعقبت وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان ينص على خضوع المؤسسات الوطنية والأجنبية إلى أحكامه، وعلى تمتّع الأجراء الأجانب عند صرفهم من الخدمة بالحقوق التي يتمتع بها العمّال اللبنانيون، وعلى شرط المعاملة بالمثل ويترتب عليهم الحصول على إجازة عمل. وبعد وصول اللاجئين إلى لبنان وانخراطهم في سوق العمل لم يأخذ المشرّع اللبناني بعين الاعتبار وجود آلاف العمّال الفلسطينيين الذين لا فرصة أمامهم إلا العمل في شتى المجالات للإنفاق على تكاليف الغذاء والعلاج والتعليم.

ومنذ تلك الأيّام وحتى العام 2005، حُرِم الفلسطينيون من ممارسة الكثير من المهن. أصدر الوزير طراد حمادة مذكرة بتاريخ 7/6/2005، يجيز فيها للفلسطينيين المولودين على الأراضي اللبنانية والمسجلين بشكل رسمي في سجلات وزارة الداخلية اللبنانية العمل في المهن المختلفة بعد أن كان الفلسطينيون ممنوعين من أكثر من سبعين مهنة. لكن رغم أهمية المذكرة إلّا أنها كانت جزئية ولم تلامس الحاجة الفعلية؛ فلم تجز للأطباء ولا المهندسين باختلاف تخصصاتهم العمل في مهنتهم بشكل قانوني، لكونهم ممنوعين من الانتساب إلى النقابات. ومن بعد ذلك جاءت حملة حق العمل عام 2010 لتتوّج باعتراف الدولة اللبنانية بـ«خصوصيّة» العاملات والعمّال اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وذلك بعد عقودٍ من غياب مصطلح اللاجئين الفلسطينيين عن النصوص التشريعيّة اللبنانيّة. إذ أصدرت الدولة القانون رقم 128، والقاضي بخضوع اللاجئ الفلسطيني دون سواه إلى أحكام قانون العمل اللبناني لجهة تعويض نهاية الخدمة وطوارئ العمل، لكن دون الاستفادة من تقديمات صندوقَيْ ضمان المرض والأمومة والتقديمات العائليّة.(1) كما نصّ القانون على وجوب إفراد حسابٍ منفصلٍ ومستقلٍّ لدى إدارة الضمان الاجتماعي للاشتراكات العائدة للعاملات والعمّال اللاجئين الفلسطينيين. بينما استثنى القانون رقم 129، حصرًا، الأُجَراء الفلسطينيين من شروط المعاملة بالمثل ورسم إجازة العمل. وهذه التعديلات التي اعتبرتها الأحزاب اللبنانية والفصائل الفلسطينية «خطوات ايجابية»، تعتمد بشكل أساسي على مزاجية أصحاب العمل واستنسابية وزراء العمل الذين يمكنهم، كما نشهد الآن، إصدار قرارات تعسفية لغياب نص قانوني واضح. زد على هذا إجراءات قانونية وأمنية عديدة تمنع الفلسطينيين من التملّك منذ عام 2001 وتحاصرهم في مخيمات لا تتمتع بأدنى مقومات العيش.

الحراك الذي فاجأ الجميع

كانت خطّة وزير العمل بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ولا يمكن فهم الحراك بمعزلٍ عن عقود من التضييق الحقوقي الذي أفقر المجتمع الفلسطيني وحرمه أبسط الحقوق. لم يكن أحد يتوقّع ردة الفعل، وقد عوّلت الأطراف اللبنانية والقيادة الفلسطينية أن يمر القرار كما مرت غيره من القوانين العنصرية بحق الفلسطينيين. لكن ما إن انتشر خبر إقفال المحلات التجاريّة حتّى انتشرت الدعوات للتظاهر في 15 تموز/يوليو ابتداءً من مخيم الرشيدية في صور فمخيّم عين الحلوة في صيدا فمخيّم نهر البارد في طرابلس. ودعا ائتلاف حملة حق العمل (2) الى مسيرة شعبيّة في 16 تموز/يوليو انطلاقًا من منطقة الكولا باتجاه مجلس النوّاب، إلّا أن التجمع مُنِع من السير بتواطئ من الفصائل الفلسطينية التي تعمل على حصر التحركات داخل المخيمات ومنعها من الخروج إلى الحيز اللبناني العام. تزامن هذا الأمر مع اتصالات فلسطينية لبنانية للتهدئة واحتواء الموقف بالتزامن مع محاولات بعض أصحاب رؤوس الأموال الفلسطينية بسحب ودائعهم من المصارف. أطلّ علينا وزير العمل في 18 تموز/يوليو ليؤكّد أنه يطبّق القانون وحسب، وانتشرت شعارات «تحت طائلة القانون» و«القانون فوق الكل» التي تتناسى أو تتجاهل التالي: أولًا أن القانون ظالم وأن استحصال اجازة العمل شبه مستحيل قانونيًا إلّا بتدخّل أصحاب النفوذ، وثانيًا أن أرباب العمل يتذرّعون بصعوبتها لعدم توظيف فلسطينيين، وثالثًا أن تسوية أوضاع المحلات التجاريّة يتطلّب أموال طائلة لا يملكها أغلب أصحاب المصالح ورابعًا أن هناك لائحة طويلة من المهن الممنوعة والتي تطول أو تقصر بحسب أهواء وزير العمل وبحسب الجو العنصري السائد. يُطلب منّا أن نكذّب تجاربنا على مدى سبعة عقود ونصدّق أن وزير العمل يطبّق القانون فحسب وبأنه لا علاقة بين الحملة والجو العنصري السائد.

المشكلة الجوهرية في القانون اللبناني تكمن في عجزه عن صياغة تعريف قانوني، واضح وعادل للاجئين الفلسطينيين في لبنان

بطبيعة الحال لم يصدّق أحد هذا الخطاب وقامت الاحتجاجات الشعبيّة رفضًا لمنظومة القوانين الظالمة التي تمنعنا العيش الكريم منذ لجوئنا إلى لبنان. نزل الكلّ إلى الشارع: نساءً ورجالًا من مختلف الأعمار والتوجهات السياسية والانتماءات الحزبية. بدأت التحركات في المخيمات الفلسطينية، وتحديدًا مخيم الرشيدية. وانتشرت في المخيّمات دعوات التظاهر والإضراب العام وسحب الأموال من البنوك اللبنانية وكذلك إقفال مداخل المخيمات. نجح الإضراب في المخيمات التي التزمت به، وتحديدًا عين الحلوة ونهر البارد وتطوّر الاحتجاج في مخيّم عين الحلوة إلى إضراب عام وإلى مقاطعةٍ لسوق الخضار في صيدا (الحسبة) وإقفال المخيّم على نفسه معلنًا قطع كافة العلاقات مع الخارج حتّى إسقاط القانون. كما انتشرت الرسائل الصوتية عبر تطبيق واتساب من قبل أهالي المخيمات، يدعون فيها الفلسطينيين إلى الاحتفال بعيد الأضحى القادم داخل المخيم، وأن يقاطعوا الأسواق اللبنانية، في محاولة منهم للتأكيد على أهمية الدور الفلسطيني في السوق اللبناني. وأكّد على ذلك تجار صيدا الذين اعتصموا أيضًا لمطالبة الدولة اللبنانية باستثناء الفلسطينيين من إجازة العمل. أمّا من ناحية الأعداد فإنه من الصعب تقدير العدد بشكل دقيق إلا أن المخيمات الكبرى كعين الحلوة ونهر البارد تشهد تحرّكات تضم آلاف المتظاهرين بحيث تسود المخيّم يوميًا حالة احتجاجية واسعة تحوّل مساحته الصغيرة إلى ميدان واسع. كما نُظّمت في صيدا مسيرة شارك فيها ما يقارب عشرة آلاف شخص. أمّا في بيروت فالتحرّكان خجولة وذلك لكون البيئة المحيطة بالمخيمات ليست بـ«القريبة» أو «الصديقة» فعليًا.

ومن الملفت أن المخيّمات خلقت أساليب جديدة للتظاهر والتحرك لم تشهدها الساحة الفلسطينية من قبل، كما تشهد التحركات مشاركة واسعة من النساء من مختلف الفئات العمريّة، أولئك اللواتي اعتدن على التواجد في المساحات السياسية، وكذلك اللواتي ولدن في مرحلة ما بعد اتفاقية أوسلو ويشاركن للمرة الأولى في حالة نضاليّة واسعة.

حاولت الفصائل، ولا تزال، إخماد الحراك عبر الإقناع ثم التهديد أحيانًا، وأحيانًا عبر المشاركة والتخريب، بسبب خشيتها من خلق الحراك لقيادات بديلة، لكن الحراك ما يزال مستمرًا بشكل يثبت أن القيادة الفلسطينية باتت عاجزة عن التحكّم بالشارع بعد أربعين عامًا من الإهمال والفساد والتخلّي.

أمّا منطمو الحراك فهم ناشطون وناشطات من المحزّبين والمستقلين اجتمعوا لتنسيق الجهود، ولمحاولة الحفاظ على الحراك وعلى وضوح الرؤية وعلى المشاركة الواسعة. أمّا مطالب الحراك فقد تعدّدت، من إسقاط خطة وزارة العمل إلى إسقاط كافّة القوانين العنصريّة بحق الفلسطينيين والمناداة بكامل الحقوق المدنيّة عدا حقوق المواطنة. ما زالت الاحتجاجات مستمرة على قدمٍ وساق وتواجه تحديين أساسيين: الأوّل هو انحصار الحراك داخل المخيّم واستحالة نقل الحالة الاحتجاجيّة إلى الخارج ممّا يحد من احتمالات التصعيد السلمي. والثاني هو محاولات إفشال الحراك من قبل القيادة الفلسطينية الملتزمة بإخضاع شعبها للقانون الظالم.

معركتنا الأهم هي المعركة من أجل استعادة حقوقنا السياسية الفلسطينية والمشاركة بخلق جسم سياسي فلسطيني يعمل على بلورة مشروع تحرر يشمل كافة الشعب الفلسطيني.

أمّا على الصعيد اللبناني الرسمي، في أول يومين بعد الإجراءات التعسفية بحق العمال الفلسطينيين، كان الصمت العاملَ المشترك بين مختلف الأحزاب السياسية باستثناء حزب القوات اللبناني، والذي ينتمي إليه وزير العمل. ولم يكن هذا الصمت مستغربًا في الواقع، لأن مختلف أطياف السياسة اللبنانية متفقة على اتباع سياسة الإنكار والإسكات حينما يتعلّق الأمر باللاجئين الفلسطينيين.

لكن، وبعد تصاعد الحراك، بدأت البيانات «التضامنية» تظهر من كيانات سياسية كالتنظيم الشعبي الناصري والذي اعتبر هذه الاجراءات تصب في مصلحة صفقة القرن. ومن بعدها أدان رئيس مجلس النواب نبيه برّي القرار ووافقه رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري. ممّا دفع وزير العمل للخروج إلى الإعلام والتشديد على أن ردة الفعل الفلسطيني «غير منطقية». أمّا فيما يتعلق بالفصائل والقوى والهيئات الفلسطينية، وتحديدًا فتح، فقد أجرى مبعوث السلطة الفلسطينية في لبنان، عزام الأحمد، اتصالاته وقام بزيارة ثانية للبنان والتقى مع عددٍ من السياسيين واعتبر أن «هذه التفاصيل لن تؤدي إلى توتر العلاقات بين لبنان وفلسطين». وأجرى الأحمد اتصالات مع الرئيس بري ورئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني الوزير السابق حسن منيمنة. كما طالبت السفارة الفلسطينية بالتروي والهدوء عند بدء المظاهرات، ومن بعدها عادت لتبنيها والدعوة إلى التحركات، وهذا تناقض اعتدنا عليه في لبنان عند نشوء أي حراك سياسي خارج نطاق سيطرتها.

أما السياق اللبناني الحليف والتقدمي، وهو قلّة قليلة من المجموعات التي تحمل كافة قضايا المقهورين في هذه الجمهورية، فهم امتدادنا خارج المخيمات، وهم وحدهم القادرون على الاحتجاج خارج المخيمات بسبب منع الفلسطينيين من التظاهر خارج حدود المخيم، وفي ذلك تأكيدٌ على أساس علاقة الدولة ومؤسساتها مع اللاجئين الفلسطينيين. نظّمت هذه المجموعات اعتصامًا أمام وزارة العمل في المشرفية، الضاحية الجنوبية، ونسّقت أيضًا مسيرة ليوم الجمعة 9 آب، تنطلق من منطقة بدارو في بيروت إلى مخيم شاتيلا.

عن العيش والعمل في لبنان

يطرح الحراك علينا أسئلة أساسية تتعلّق بعلاقتنا بالأطراف اللبنانية المختلفة، كما يطرح عليهم أسئلة وهواجس تتعلق بوجودنا بينهم. البعض يرى فينا أشباح الحرب الأهلية وفزّاعة التوطين التي ستقلب التوازن الديموغرافي الطائفي، والبعض الآخر يرانا لاجئين عُزّل ويدعم حقوقنا نظريًا متجاهلًا التناقض بين أهداف تحرير فلسطين وواقع إهمال الفلسطينيين. أمّا الغالبيّة العُظمى فترى المخيمات بؤرًا أمنيّةً لتصدير الإرهاب وتختلف على طريقة التعامل مع هذه القنبلة الموقوتة: هل هي عبر إعطاء الفلسطينيين الحقوق المدنية كي لا يتحولوا إلى إرهابيين؟ أم بزيادة القمع والتضييق حتى الاختناق؟ تحدّى الحراك جميع هذه الصور وطرح الفلسطينيين لأوّل مرّة كمجتمع فاعل وغنّي قادرٍ على درجة عالية من التنظيم والتنسيق من أجل حراك شعبي واسع ينادي بالحقوق المدنية والعيش الكريم. وبهذا يكون الحراك قد نجح بكسر عقود من الصمت والتهميش الذي مارسته الدولة اللبنانية بتواطئ من القيادات الفلسطينية.

كما يطرح الحراك أسئلة حول علاقات المجتمعات الفلسطينية ببعضها وعلاقتها بالقيادة الفلسطينية. لقد ذكّرَنا الحراك أن المخيّم هو القلب النابض للعمليّة السياسية الفلسطينية وأعاد أهل المخيمات إلى مركز الوجود الفلسطيني بعد سنواتٍ من التهميش والإقصاء. كما أوضح الفجوة الواسعة بين مصالح القيادات وهموم الشعب، ورسّخ الحقيقة التي يعرفها الفلسطينيون على اختلاف أماكن تواجدهم: القيادات الفلسطينية المختلفة بتنوّع أطرها التنظيمية ووجودها الجغرافي لا تمثّلنا ولا تعمل لأجلنا ولن تفوّت فرصة للتنازل عن حقوقنا من أجل مصالحها الضيّقة. إن معركتنا الأهم هي المعركة من أجل استعادة حقوقنا السياسية الفلسطينية والمشاركة بخلق جسم سياسي فلسطيني يعمل على بلورة مشروع تحرر يشمل كافة الشعب الفلسطيني.

قد يُقدّر لنا أن نعايش سقوط الصهيونية وتحرير فلسطين من الاستعمار الكولونيالي، وأن نعود إلى حيفا ونتذكّر بيروت في لحظة حنين مباغتة. وربما نعيش ونموت في لبنان، نقارع وزارة العمل وتقارعنا. إلّا أننا في كلا الحالتين لن نعيش على الهامش.

1) ​الصندوق هو مؤسسة مستقلة تخضع لوصاية وزير العمل، ويتألف من ثلاثة صناديق: ضمان المرض والأمومة، والتقديمات العائلية، وتعويض نهاية الخدمة. وقد قضى القانون 128 الصادر في عام 2010، بإفادة الأجير الفلسطيني من صندوق فرع نهاية الخدمة فقط، بينما ظلَّ محرومًا من تعويضات المرض والأمومة والاستشفاء، لاعتبار المشرِّع، في حينه، أنَّ اللاجئ يستفيد من خدمات الأونروا على صعيدي الاستشفاء والمرض والأمومة.

2) تم الإعلان عن إطلاق ائتلاف حملة حق العمل للاجئين الفلسطينيين في لبنان في نيسان/أبريل 2005 من قبل إئتلاف لبناني فلسطيني ضم 45 جمعية أهلية عاملة في الوسطين اللبناني والفلسطيني. وقد اتسع الإئتلاف ليضم أكثر من 80 شبكة ومؤسسة وجمعية ومبادرة مجتمعية ونشطاء وممثلي نقابات.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.