حديث بمناسبة وفاة إيمانويل والرشتاين ( Immanuel Wallerstein ) 28/09/1930 – 31/08/2019 … الطاهر المعزّ
إيمانويل والرشتاين
الطاهر المعزّ ( تونس ) السبت 7/9/2019 م …
“من أقواله (سنة 1996): “لا يُمْكن أن يستمر الوضع الحالي، وهنالك شيءٌ مَا سوف يُبْنَى، وإذا لم نُشارِكْ في هذا البناء فإن الآخرين سيحدّدُون لنا طبيعته وشكله“ (ترجمة تقريبية من الإنغليزية)
بعد سنة واحدة من وفاة “سمير أمين” (03/09/1931 – 12/08/2018)، صاحب نظرية “التطور غير المتكافئ”، توفي “إيمانويل وارشتاين” (أو فالرشتاين، بحسب نُطْقِ البعض)، يوم 31/08/2019.
يُمكن تعريف، أو تقديم “إيمانويل والرشتاين”، بأنه باحث ومُؤرّخ وعالم اجتماع وأكاديمي أمريكي (باحث في جامعة “يال”). تأثر باعمال المُؤرّخ الفرنسي “فرناند برودال” (24/08/1902 – 27/11/1985)، وتكريمًا له، أسَّسَ “والرشتاين” وأشرف على إدارة “مركز فرنان برودال لدراسة الاقتصاديات والأنظمة التاريخية والحضارات”، بجامعة “بانغمتون” (نيويورك)، كما يُشارك في نشاط “دار علوم الإنسان” (باريس)، وكان رئيسًا للجمعية الدولية لعلم الاجتماع… اشتهر بنقده العِلْمِي والمُوَثّق للمركزانية أو ادّعاء كَوْنِيّة الحضارة الأُوروبية، وبِنَقْده للنظام الإقتصادي والإجتماعي والسّياسي السائد في العالم…
تأثّر “إيمانويل ولرشتاين” بأول منظّري التنمية والتخلف، الاقتصادي الماركسي الأمريكي (من أصل بولندي) “بول ألكسندر باران” الذي لم يُعَمِّر طويلاً ( 25/08/1909 – 26/03/1964 )، وهو مُدرّس جامعي، وباحث، ومن أوائل من طرحُوا مسؤوليةَ الرأسمالية، خلال مرحلة الإمبريالية، في الهيمنة الإقتصادية والسياسية على بلدان ما سُمِّيَ “الجنوب”، مما أنتج التخلف، وبالتالي يكون “التخلف الإقتصادي” نتيجة للهيمنة، وليس ناتجا عن أسباب داخلية لهذه البلدان الواقعة تحت الهيمنة، ونشر “بول ألكسندر باران” منذ سنة 1952 كتابًا بعنوان “الإقتصاد السياسي للتخلف” (The Political Economy of Underdevelopment )، ونَشَر حوالي عشرة كُتب في هذا الموضوع…
شكل ما عُرِفَ ب”مجموعة الأربعة”، مع “أندريه غونتر فرانك” و “جيوفاني أَرِّيغِي” و “سمير أمين”، أو ما سُمِّيت “مدرسة التّبَعِيّة”، التي ظَهَرت في أمريكا الجنوبية، ويُعرّف أحدهم، “دوس سانتوس”، أحد أهم ممثلي هذه المدرسة في أمريكا الجنوبية (إلى جانب “فرناندو كارْدُسُّو”)، حالة التبعية بأنها حالة يتجدد فيها مسار اقتصاد عدد من الدول، بتطور وتوسع اقتصاد آخر، بسبب تبعية اقتصاد المجموعة الأولى للمجموعة الثانية، مما يُعمّق طابع التّبعية التي تَسُود العلاقات المتبادلة بين المَرْكَز المُسَيْطِر والدول التابعة، الواقعة تحت الهيمَنَة، ولن تتحرر دول هذه المجموعة الواقعة تحت الهيمنة، سوى بتوفير ظروف التّطَوُّر، والتّنْمِيَة، بالإعتماد على الذّات، وعلى منظومة دولية مُختلفة عن النظام السّائد الذي فرضته “المَرْكزانية” الأوروبية، والعلاقات الإستعمارية، منذ قُرُون…
تعتمد نظريات “مدرسة التّبَعِيّة” على ما نشره “كارل ماركس” (05/05/1818 – 14/03/1883) ورفيق دربه “فردريك إنغلس” (28/11/1820 – 05/08/1895)، بشأن نشوء وتطور الرأسمالية، وما كتبه “فلاديمير لينين” (10/04/1870 – 21/01/1924) بشأن الإمبريالية، وبشأن أول نظام اشتراكي في العالم، ولذلك اعتبر العديد من الشيوعيين، وغير الشيوعيين، إن نظريات “مدرسة التبعية”، ذات جُذُور “ماركسية لينينية”، ويظهر تأثير لينين في تحليل ونقد الإمبريالية (كمرحلة من مراحل تطور الرأسمالية)، وأعلن “والرشتاين”، في عدة مناسبات، أن مجموعة ما سُمِّيَ “مدرسة التبعية” (وهو أحد ركائزها) انطلقت من بعض مقولات لينين عن الإمبريالية، وعن حتمية التّحوّل التّاريخي من الرأسمالية إلى الإشتراكية، لكن لم يستطع لا لينين ولا من لَحِقَهُ من تحديد أشكال هذا التحول، لأن تجربة المُسْتَغَلِّين والمُضْطَهَدِين، أي عشرات الملايين من الناس، هي التي تُحدّدُ أشكال وزمَن وآفاق التّحوّل، ولم يستطع أحدٌ تحديد قُدْرَة الرأسمالية على التّأقْلَم وعلى تطوير وتحديث أدواتها وخطابها “بما يُواكب التطورات الحاصلة في العالم، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين، لأن الرأسمالية تمكّنت بالفعل، من تطوير وتَجْدِيد أشكال هيمنتها…”، ويُورد “ليستر كارل ثورو”، بالحث وأكاديمي أمريكي ( 07/05/1938 – 27/03/2016 ) في كتابه “مستقبل الرأسمالية” (الطبعة الأولى 1996 – وتُرْجِمَ إلى العربية في مصر سنة 2005) بعض الأمثلة، المُتماهية مع نظريات “مدرسة التبعية”، ومن بينها: إن الرأسماليين الأثرياء كانوا أكثرَ ذكاءً ودهاءً مما تصور ماركس، ولينين، فقد أدركوا أن استمرار بقائهم مرهون بإزالة الأسباب والظروف التي من شأنها أن تفجر الثورات، فأزالوها أولا بأول، ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قام أوتو فون بسمارك (1815 – 1898)، وهو مستشار ألمانيا، الأرستقراطي المحافظ، سنة 1880، بإنشاء دور عامة للمسنين وللرعاية الصحية، وأنشأ “ونستون تشرشل” في بريطانيا، منذ سنة 1911، أول نظام عام للتأمين ضد البطالة، وأقرَّ الرئيس الأمريكي “فرنكلين روزفلت”، نظام التأمين الاجتماعي، الذي أنقذ الرأسمالية من أزمتها في الولايات المتحدة، في أمريكا، واتخذت الرأسمالية هذه الإجراءات، للمحافظة على وجودها وهيمنتها، ولإبْعاد شبح الثورات التي كانت تتهدد الدول الرأسمالية، خلال فترة ما بين الحربَيْن العالميتَيْن، وخصوصًا بعد نجاح الثورة الإشتراكية في روسيا (الإتحاد السوفييتي لاحقًا)، ووجود نظام مَبْنِي (على الأقل من الناحية النظرية، والخِطاب الرّسمي) على المُساواة، وعلى تلبية الحاجة المادية والثقافية والترفيهية لعموم المواطنين، وطورت الرأسمالية أساليبها للهيمنة، بالتوازي مع ارتفاع أرباحها، ومع تعميق الفَجْوة الطبقية بين الأثرياء والعمال والفُقراء، وبالتوازي مع ارتفاع معدلات البطالة وتزايد نسبة المفصولين من العمل والمُهمّشين من القوى العاملة…
تساءل “إيمانويل والرشتاين”، بنهاية عقد الستينات من القرن العشرين، وبمناسبة انتفاضات الطلاب في أوروبا والمكسيك، وحركات “الْهِبِّيز”، وحركات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، عن العلاقة بين الحركات القومية والحركات الإجتماعية، التي ظهرت منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وابتكر مُصْطلح “التّمرّد ضد النّظام”، للحديث عنهما معًا، كتفريعات تصب في هدف واحد، هي “الثورات” الجديدة ضد “النظام” واستخدم مصطلح ( New Revolts against the System )، منذ سنة 1970، ونَشَر دراسة تحمل نفس هذا العنوان في مجلة اليسار الجديد، الأمريكية (New Left Review )، سنة 2002، بعد انتشار مجموعات “مناهضة العَولمة” (بشكلها الحالي) ومختلف الحركات الإجتماعية، ثم المُعارضة القوية للعدوان الأمريكي ضد الشعوب (انتهت المُعارضة مع بداية العدوان على العراق)، ويعتقد “والرشتاين” إن هذه الحركات الإجتماعية تحمل في داخلها متناقضات، تجعلها تعمل من داخل النظام الرأسمالي العالمي، وتحمل بُذُورَ تعزيزِ وتقْوِيضِ البُنية السّائدة، في نفس الوقت، وهو ما يَصِفُهُ “والرشتاين” ب”الدَّوْر الإنفِصامي”، ولا يمكن فصل ما كتبه “والرشتاين” عَمَّا كتبه سمير أمين عن “إشكالية الاشتراكية وما بعد الرأسمالية، وماهية الاشتراكية وطبيعة أزمتها الراهنة (في الإتحاد السوفييتي) وطبيعة نظم الاشتراكية المحققة وما بعد الرأسمالية…” (مجلة “المستقبل العربي – شباط/فبراير 1987)، لأن نقد النظام العالمي، يرتبط بالبحث عن البدائل، ونقد التجارب السابقة، وتكمن إحدى إضافات “مدرسة التّبَعِيّة” في معاينة وتحليل التناقضات الإجتماعية والإقتصادية، في الدول الرأسمالية المتطورة (الإمبريالية)، ونشر بُحوث يمكن تصنيفها في باب “العلوم الإجتماعية”، وفي إدراك التفاعل بين ما يحدث في البلدان الرأسمالية المتقدمة (دول المركز) والبلدان الواقعة تحت الهيْمَنَة الإمبريالية، وإبْراز وُقُوع بلدان “الأطراف” (أو المُحيط) تحت قانون أو منطق التراكم الرأسمالي، الذي أخضَعَها لسيطرته، عبر المبادلات غير المُتكافِئَة، وعبر الهيمنة على الثروات، و”احتجاز التّطور” (العبارة للرفيق عادل سَمارَة)، مما جعل “سمير أمين” يستنتج مُبكِّرًا، خلال عقد الستينات من القرن العشرين، استحالة تطور هذه البلدان، عبر النظام الرأسمالي، ولا خيار يتبَقّى لها سوى القطيعة مع الرأسمالية، واختيار رُبّما “طريق ثالث”، كمرحلة نحو الإشتراكية، ويُعتبر تحليل هذه المدرسة (مدرسة التبعية) إضافة هامّة، لما أورده “فلاديمير لينين” في كراس “الإمبريالية أعلى مراحل الرّأسمالية” (1916 – 1917)، وأخذت هذه المجموعة بعيْن الإعتبار، ما طرأ من تغييرات، من ظهور حركات التّحرّر من الهيمنة الإستعمارية، ومحاولات تكتل الدول حديثة الإستقلال، بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف الدّفاع عن مصالحها، في مواجَهَة الدّول الإمبريالية، وشركاتها ومَصارِفِها، والأدوات التي أنْشَأتها قُبَيْل الإعلان الرسمي لنهاية الحرب العالمية الثانية، ومن بينها صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، وما أصبح يُعرَفُ ب”منظمة التجارة العالمية”، كما استخدمَتْ دراسات وبُحوث هذه المجموعة (مدرسة التبعية) الإقتصاد السياسي والعُلُوم الإجتماعية، للربط بين التحليل الإقتصادي، والتحليل الإجتماعي، والتاريخ والثقافة، بمفهومها الشامل والواسع (ثقافة الشّعوب الأصلية، والواقعة تحت الهيمنة)، وأعلن الكُتّاب المُنْتَمُون إلى هذه المدرسة، ومنهم “والرشتاين”، استحالة الفصل بين هذه العناصر، بل دَعَوْا إلى التّعامل معها كمجموعة متكاملة، وكانت مُساهمته هامة وثمينة في بناء إطار نَظَرِي، يدرس بُنية الرأسمالية العالمية، والعلاقات غير المُتكافئة بين الدول، اعتمادًا على المادّية الجَدَلِيّة، ونُشرَت مساهماته، ضمن كتابه “النظام العالمي الحديث” (أو الجديد)، منذ سنة 1974، وأصبح الكتاب (بمختلف أجزائه) مَرْجَعًا للإشتراكِيِّين (“الماركسيين”) ولغير الإشتراكيين، كذلك، ويتناول الكتاب العلاقة الجَدَلِيّة بين التنمية الإقتصادية والمُحيط العالمي (السياسي والإقتصادي)، ونُضِيفُ إن هذه العلاقات “غير المُتكافئة”، تُنتِجُ علاقات الهيمنة، وسوء توزيع الثروات، والفقر والبطالة، والحُروب العُدْوانية، أو الحروب الداخلية تُشعلها الشركات العابرة للقارَّات، والإرهاب – الذي أنشأتْهُ وسَلّحتهُ ودَرّبت عناصِرَهُ الإمبرياليةُ- وانتشار نظريات الممارسات اليمينية المتطرفة، سواء في بلدان “المركز” (أحزاب ومنظمات اليمين المتطرف)، وخصوصًا في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، أو في بلدان “المحيط” (مجموعات الدّين السياسي، والصراعات التي تتخذ شكلا “عرقِيًّا” أو “أثنيّا”)، وتمكّنت الإمبريالية من التّكَيُّف مع موجة حركات التّحرّر ومع موجات الإحتجاجات، بفضْل هيمنتها على الإقتصاد والنظام المالي العالمي، وعلى أدوات أنشأتها لهذا الغرض، كالأمم المتحدة، وصندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، ووكالات التصنيف الإئتماني، والشبكات المَصرفية، بالإضافة إلى امتلاك القُوّة العسكرية، وتهديد الأنظمة التي تختلف مع الولايات المتحدة، أو تُحاول منافَسَتها، وفَرْضِ عُقُوبات وحصار تجاري واقتصادي، وَيَدْعَم هذه الهيمنة إعلامٌ قَوِي ومهمين تُسيطر عليه وكالات الدول الإمبريالية، وشبكات الإعلام السمعي والبصري والمكتوب، التي تمتلكها الشركات العابرة للقارات، وفَرْض “قِيَم” و”ثقافة” وإيديولوجية الإمبريالية والهيمنة، التي تُروّج نظريات “الصراع الحضاري” و”نهاية التاريخ” وادّعاء “الإنتصار النّهائي” للرأسمالية الليبرالية المُعَوْلَمَة، بزعامة الإمبريالية الأمريكية…
يرى “بيل وارين”، إن الإمبريالية أسّسَت نظامًا استغلاليًّا، وغير عادل، على نطاق عالمي، وخلَقَت الظّروف المُلائمة لنَشْرِ أو فَرْضِ قواعد الرأسمالية في العالم أجمع، بما في ذلك، الدول ذات البُنْيَة التّحتية المُهْتَرئَة، والتصنيع الضّعيف، ولكن أراضيها وسواحلها تضم المواد الأولية، وخلقت الإمبريالية ظروفًا تُطيل أمَدَ التّبَعِيّة، بفَرْض حكومات لا تُمثل مصالح الشعوب، بل مصالح شركات دول “المركز”…
ترتكز “نظرية التّبَعِيّة” على متانة علاقات الهيمنة، و”احتجاز التطور”، والتي تُسَبِّبُها دول “المركز” الإمبريالي، في نطاق مسار تاريخي، ضمن تطور النظام الرأسمالي، من الهيمنة على السوق الداخلية، إلى التوسع نحو الأسواق الخارجية، واحتلال معظم بلدان ما يُسمّى حاليا “الجنوب”، احتلالاً عسكريًّا مُباشرًا، واستبدال هذا الإحتلال المُباشر، باستعمار جديد، يرتكز على الهيمنة الإقتصادية والسياسية، دون التّخلِّي عن التهديد العسكري، والحمَلات الإعلامية وتنصيب حُكّام مُوالين، عبر الإنقلابات العسكرية، أو “الدّستورية”، أو عبر الدعاية، باسم “حقوق الإنسان” أو “مكافحة الفساد” أو “مكافحة الإرهاب”، وغير ذلك، لإبقاء هذه البلدان في حالة تخلف اقتصادي، وفي حالة تَبَعِيّة، ضمن التقسيم العالمي للعمل، مما يجعل من النّمو والتطوير وفق القواعد الرأسمالية مُستحيلا، وبالتالي وجب انتهاج طريق أخرى مُغايرة، وتصليب الجبهة الدّاخلية لإفشال المخططات الإمبريالية، وبناء اقتصاد “وطني” بهدف تنمية موارد البلدان، والقضاء على الفقر والبطالة، وغير ذلك من الأهداف التي تبقى أهدافًا “وطنية” أو قَوْمِيّة، ولا تقضي على الإستغلال، ولا تُحقِّقُ المُساواة، وهي أهداف تتجاوز الإطار “القومي”، ويعمل الشيوعيون على تحقيقها، شَرْط خَلْق الظروف المَحلِّية التي تَدْعَمُ مشاريعهم وبرامجَهُم، ويعسُر إنجاز مثل هذه البرامج بواسطة مهادنة الإمبريالية، بل لا يمكن إنجازها سوى بمعارضة ومُقاوَمة الإمبريالية، التي لا يُؤمن قادتها ب”التعايش السلمي”، حتى بين المُتنافسين، ضمن النظام الرأسمالي نفسه…
التعليقات مغلقة.