رحلتي من مصر إلى فلسطين .. و الكرامة / شذى اللحام

 

 

شذى اللحام ( فلسطين ) الإثنين 14/9/2015 م …

هنا القاهرة ، و الساعة الآن الخامسة و النصف فجر الثاني من آب اللهّاب ، صاحب السيّارة التي ستقلّني إلى المطار ينتظرني و قد تأخرتُ عليه لكثرة الأمور التي كان عليّ إنهاؤها قبل السفر . بعد تعب ، أخذتُ حقائبي و نزلتُ كي لا أتأخر أكثر على موعد الطائرة بعد ساعتين ، طريق المطار كان سهلاً كوننا سلكنا طريقنا فجراً ، لم يسكت سائق السيّارة لحظة ، ولم يوقف أسئلته المملّة المعتادة :

– بتدرسي هِنا ولا سياحة ؟

– لا بدرس طب

– ماشاء الله ، طب عام ولا أسنان ؟

– طب عام

– ماشاء الله ، جامعة إيه ؟

– القصر العيني

– ماشاء الله ، سنة كام ؟

– ساتة

– ماشاء الله ، اتخصصتي ولا لسا ؟

– لسا

– انتي من الضفة ولا غزة ؟ يعني مع حماس ولّا عباس ؟

– …..

كانت اجاباتي مختصرة جداً علّه يفهم بأني متعبة ولا أريد الحديث معه ، لكنه أبى أن يسكت لحظة وواصل كلامه عن مواضيع كثيرة دون تأثّر بلا مبالاتي ، فواصلتُ صمتي دون تأثّر . وصلنا صالة المطار فوجدتُ الكثير من المسافرين يحتشدون على البوابات ، دفعتُ الأجرة للسائق بعد خلاف معه ، فقد كنتُ قد اتفقتُ معه على مبلغ معيّن و لكنّه بعد أن وصلنا طلب مبلغاً أكبر ! كعادة سائقي التكاسي في هذه البلد .

داخل المطار لم يكن الأمر سهلاً أيضا ؛ انتظاري في صفوف طويلة لأختم جواز السفر كان كفيلاً بأن يوتّرني ، لأنّ الطائرة ستحلّق بعد ٢٠ دقيقة فقط و أنا ما زلت أنتظر دوري .

ما إن وصلتُ داخل الطائرة حتى اتكأتُ على النافذة لأسترق ساعة نوم علّها تمدّني بالطاقة اللازمة لمشوار رحلتي المتبقية . هبطت الطائرة بسلام في مطار الملكة علياء في عمّان في تمام العاشرة و النصف صباحا بتوقيت الأردن ، كان الجو حارّا جدّا حين خرجنا ، لكنني تجاهلتُ ذلك و حاولتُ الإسراع لأستلم حقائبي و أغادر إلى جسر الملك حسين ، الجسر الحدودي الفاصل بين الضفة الشرقية و الغربية لنهر الأردن ، أي الجسر الفاصل بين الأردن و فلسطين ، والمسمّى أيضا بمعبر ” الكرامة ” .. !

استلمتُ حقائبي و ركبتُ السيّارة مع أمّ و طفلتها الصغيرة و شابّين بعمري تقريباً ، كلٌّ منّا متّجهٌ إلى مدينة مختلفة من مدن الضفة ، كان الجوّ يزداد حرارةً كلما اقتربنا من النقطة الحدودية ، حاولنا الاستمتاع بتكييف السيّارة قدر الإمكان ، و أنا أدركُ جيداً أن ما ينتظرنا ليس بهيّن .

ساعة و نصف في الطريق ، كانت الطفلة الصغيرة بجانبي تحاولُ النوم كي تنسى حرارة الجو ، و حاول الشابّان تضييع الوقت في الحديث عن أسعار السجائر ، وأنا أحاولُ النوم تارّة و الاستماع لأحاديثهم تارّة أخرى . وصلنا الشونة الجنوبية الآن ، أنظر من النافذة فأرى بعض السكان يرشون الماء على الطرقات من سيّارت الإطفاء ، قلتُ لمن معي يبدو أن هناك حريق قريب ، ردّ الشاب : لا ؛ هم يُحاولون تبريد الجوّ ! فقلت : إذا يبدو أنّ الجو جميل جدّا في الخارج ! حاولوا الاستمتاع أعزائي !

الساعة الآن الثانية عشر و النصف ظهرا ، ما إن نزلنا من السيّارة على مدخل الجسر حتى أدركنا حجم المأساة ، حوالي خمسمائة شخص يصطفون تحت اشعة الشمس ينتظرون دورهم في مسرب لا يتجاوز طوله العشرة أمتار ، و ها نحن نصطف خلفهم ننتظر دورنا للدخول . كانت الحرارة قد تجاوزت الخمسين درجة مئوية ! فنحن الآن في غور الأردن أخفض بقاع الأرض وبالتالي أشدّها حرارة ، كانت الشمس تحرق وجهي حرقاً ، أثناء الانتظار رأيت المعاناة في وجوه من حولي ، كبار السن و الأطفال كانوا أشدّنا تعباً ، سيّدة كبيرة أنهكت و سقطت أرضاً ، و هناك أطفال يبكون و الحرارة تضرب بأجسادهم النحيلة ، وهنا أبٌ يحملُ طفلته التي لم يتجاوزعمرها الشهر وكان وجهها أحمراً قانياً وجسدها ينتفض ، قلتُ له : أرجوك اغسل جسدها بالماء كي لا تموت الطفلة بين يديك و حاول أن تطلبَ منهم أن يدخلوك قبل الجميع ؛ قل لهم معي طفلة مريضة .. استجاب الأب المسكين و قال لي بخوفٍ وارتباك ظهر على ملامح وجهه : نعم نعم سأحاول .

بعد حوالي ساعة و نصف من الانتظار في المسرب تحت الشمس الحارقة ، دخلنا الآن إلى الصالة لنختم جوازات السفر و البطاقة الخضراء التي من دونها لا نستطيع العبور من الأردن لفلسطين ، و العكس ايضاً ، نفس العدد من الأشخاص كانوا يصطفون على شبابيك الختم .

بعد ساعة تقريبا استطعت الخروج من الصالة لأستلم حقائبي مرة اخرى و أنتظر الحافلة اللتي ستقلّنا إلى جسر ” اسرائيل ” . لا أبالغ إن قلت بأنّي شعرتُ بالموت يقترب في هذه المرحلة تحديداً ، العشرات من المسافرين يحتشدون تحت أشعة الشمس الملتهبة بانتظار الحافلات ، لكنّ الحافلات هنا تأتي بالقطّارة ! كل خمسة عشر دقيقة تأتي حافلة تتسع لعدد قليل فقط ، و ما أن تصل حافلة حتى ترى العشرات يحتشدون على بابها يريد كل منهم النجاة بنفسه من هذا العذاب ، لا أدري لماذا في تلك اللحظات ، خطر في ذهني رواية غسان كنفاني رجال في الشمس ، قلت في نفسي ، أين أنتَ يا غسّان ! تعال وانظر إلينا واصرخ في وجوهنا : لماذا لم تطرقوا جدران الخزان ؟!

بدأت أشعر بالتعب و الارتباك ، فأنا غير قادرة على التغلّب على كل هذه الحشود ، كلّما اقتربت يدفعني الحشد إلى الخلف فلا أستطيع الصعود ؛ هنا أمّ تصرخ : معي أطفال صغار دعوني أصعد قبلكم ، وهناك شابٌّ يصرخ : أمّي عجوز كبيرة في السن دعونا نصعد قبلكم ، وهناك أيضاً شابُّ ثلاثينيّ صعد إلى الحافلة بعد جهد جهيد ، و سحب إليه ابنته الصغيرة ، لكنّها وقفت على باب الحافلة و بدأت تصرخ على الناس وهي تبكي بحرقة : طلعوولي إمّي بدّي إمّي ! كانت أمّها قد سحبتها الحشود إلى الخلف ، ازداد صراخ الفتاة بغضب و حزن معاً : طلعولي إمّي بدّي ايّاها ! استجاب الناس و سمحوا لأمّها بأخذ مكانهم والصعود لابنتها الغاضبة .

أمام صراخ الفتاة ، في تلك اللحظة بالتحديد ، بدأتُ أنا بالبكاء ، ربما قهراً ربما حزناً ربما تعباً ، لا أدري ، لكنّي كنتُ أحتاج لأن أبكي فعلاً .

بعد حوالي ساعة أخرى من الانتظار ، شعرت فيها بأن عبوة الماء البلاستيكية التي أمسكها بدأت تنصهر بسبب الحرارة الشديدة ، جاء دوري أخيرا لأركب الحافلة ، ما إن جلستُ حتى شعرتُ بالألم يتسلّل من جسدي المنهك كما يتسلل الدمع من عيني طفل حبس بكاه طويلا ..

الساعة الآن الرابعة و النصف عصراً ، وقد وصلنا جسر ” اسرائيل ” ، نفس الأعداد التي كانت أمامي في جسر الأردن ، كانت موجودة أيضا هنا في جسر ” اسرائيل ” لم ينقصوا شخصاً واحداً بل زادوا ! كانت مهمة تسليم جواز السفر للموظفة الاسرائيلة لتسلّمني لاصقات لحقائبي مهمة صعبة جداً في هذا الزحام ، بعد جهد و تعب سلّمت حقائبي ووقفتُ في المسرب بانتظار دوري في الدخول الى الصالة ، ثلاث ساعات متواصلة من الوقوف بدون راحة ، كانت الأرض تلتهب تحت قدميّ بالمعنى الحرفي للكلمة ، و الشمس تضربُ فوق رأسي كموعل صلب ، و الهواء الرطب الساخن يصفع وجهي دون رحمة ، شعرتُ وقتها بأنّي سأموتُ فعلاً ، فأنا الآن دون نوم أو طعام لمدة ٤٨ ساعة ، الحرارة لم تبق في جسدي أيّ طاقة لأقاوم وأتحمّل هذا التعب ، قلتُ يا رب .. لا تأخذ روحي وأنا وحيدة وسط هذه الحشود من الغرباء ، دعني أرى أهلي ولو لثانية على الأقل !

للحظة انتبهتُ لقدماي ، لقد تورّمتا بشكل كبير ، تورّمتا إلى درجة أنّي لم استطع ابقاءهما داخل حذائي ! أجل ، اضطررت لخلع حذائي كي أخفف من الضغط عليهما قليلاً لأنّه أصبح ضيّقاً جدّاً ! كنت أشعر بهما كالجمر تحترقان ، و مما يزيد الطين بلّة هو الوقوف المتواصل فوق هذه الأرض التي بدت لي كالصفيح الساخن ، كان قد تبقّى القليل من الماء معي ، سكبته على قدميّ محاوِلة تخفيف النار التي تحرق بهما ، باءت محاولتي بالفشل فحرارة الماء لم تختلف كثيراً عن حرارة قدميّ ! لا أدري ما الذي أبقاني حيّة ، لكنني استطعت أخيراً الدخول للصالة و استلام حقائبي و اللّحاق بالحافلة المتّجهة إلى استراحة أريحا ! المحطّة الأخيرة في هذه الرحلة الشاقة .

لن أقول دخلتُ أرض الوطن الآن ؛ فأنا فعليا في أرض الوطن منذ وصلت الحافلة جسر ” اسرائيل ” ، لكنني بوصولي أريحا ، دخلتُ أرض السلطة الوطنية الفلسطينية ، كانت شريحة هاتفي الفلسطينية معطّلة طوال الرحلة ، فلم أستطع الحديث مع أهلي ولا تطمينهم ولا إخبارهم عن أي شيء ، طلبتُ من أحد رجال الأمن الفلسطيني أن يسمح لي باستخدام هاتفه لأتحدّث مع والدي ، لم يصدّق أبي أنّه سمع صوتي أخيراً ، صرخ خائفاً مستغرباً :

– وينك يابا ؟!

– هيني وصلت أريحا أخيراً

– 14 ساعة مش عارفين نحكي معك ولا نتطمن عليكي ! استنيني هلا باجي أروّحك

– لا خليك ما تيجي مش قادرة استنى .. كتير تعبانة و الجو نار .. بركب مواصلات و بروّح أسرع

– متأكدة يابا ؟

– اه متأكدة .. هيك أحسن .

لم أصدّق أنّي الآن في السيّارة التي ستقلّني لبيت لحم ، ساعة و نصف تقريباً احتجتها للوصول لباب بيتي .

الساعة الان الحادية عشر والنصف ليلاً ، ما إن وصلتُ باب البيت حتى قفز أخي الصغير عليّ بكل فرح و هو يصرخ : شذاااا ..

– تعال يا روحي تعال !

بعد سنة كاملة من الغياب في الغربة ، و بعد هذه الرحلة المنهِكة جسديا و نفسيا ، كان حضنه كافياً لينسيني تعبي و وهني و معاناتي كلها ، حقاً كان كافياً ، لولا أن جسدي إلى الآن لم يتعافى من أثر السفر ، ولا زالت الآلام تضرب قدميّ و ظهري ، لكنني أدرك جيّداً ، أنّها ضريبةٌ صغيرة من الضرائب الكثيرة التي ندفعها كوننا فلسطينيين .

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.