صفات الدولة المعاصرة.. و مواكبة العالم / د. بهجت سليمان
د . بهجت سليمان* ( سورية ) الأربعاء 9/10/2019 م …
** سفير سورية السابق في الأردن
■ لا توجد في المصطلحات الفلسفيّة السّياسيّة ما تُسمّى ” الدّولة المدنيّة ” ، و إنّما هناك ” مجتمع مدنيّ ” في ” دولة علمانيّة ” ■
1▪ أوجد تطوّر الإمبرياليّة العالميّة المعاصر ، بجشعه الواقعيّ و أوهامه غير المعهودة ، شروخاً في العقل العالميّ المعاصر جعل من الكثير من ”المصطلحات” الفارغة ذات دلالات اصطلاحيّة عمليّة ، إلى الدّرجة التي جعلت من العالم غابة من الأفكار التي تتكاثر باستمرار و بوتيرة غير مسبوقة ، أصبح معها واقع الإلمام بها يحتاج إلى المزيد و المزيد من التّفرّغ الخالص للفكر السّياسيّ الذي أصبح ، من جهة ثانيةٍ ، أُلْهِيَةً للثّقافة و المثقّفين الذين انطلتْ عليهم هذه الملهاة التي جعلت المتحكّمين بمصائر البشريّة ، يتفرّغون للسّيطرة الفعليّة عليهم و على ”المفاهيم” و ”العقول” و ”المقدَّرات” و ”العلوم” .. ، إلخ ؛ و باختصار على حاضر و مستقبل الإنسانيّة .
2▪ منذ عصر النّهضة في ( إيطاليا ) ، ثمّ في سائر ( اوربّا ) ، و بغرض انتشار ”الكنيسة” و ”الكثلكة” ، جنباً إلى جنبٍ ، مع انتشار النّهضة الفنّيّة و الجماليّة ”الإيطاليّة” ، أوّلاً ، و التي بدأت أو عاصرت أجمل الّلوحات العالميّة على جدران و أسقف “الكاتدرائيّات” الإيطاليّة الشّهيرة في العالم لأباطرة في ”الرّسم” و ”النّحت” بروح جماليّة حرّة و متحرّرة كما كانت مع ( دافنشي ) ( 1452 – 1519 ) و ( مايكل أنجيلو )( 1475 – 1564 ) و ( تيتيان )( 1490 – 1576) ، و غيرهم في ( هولندا ) مثل ( رامبرانت ) ، و في ألمانيا و فرنسا ، حيث اجتاحت ( أوربّا ) روحٌ عملاقة أطلقت حضارتها في ”الأدب” ، في ”النّثر” و في ”الشّعر” ، و ليس آخرها في ”الفكر السّياسيّ” الذي بدأ مع ”الإيطاليّ” ( ماكيافيللي ) ؛ وصولاً إلى ”عصر الأنوار” مع ”البريطانيينّ” ( جون لوك ) و ( توماس هوبز ) ، و ”الفرنسيين” ( فولتير ) و ( مونتسكيو ) و ( جان جاك روسو ) ، و آخرين لسنا في مجال تعدادهم على الحصر ؛ حيث كان لهم السّبق في التّأسيس لأهمّيّة استخدام ”العقل” في أمور ”الدّنيا” و ”الدّين” ، و تجاوز ”الخرافات” الشّعبيّة التي كانت أن انتشرت في وقت سيطرت فيه ”الكنيسة الكاثوليكيّة” على الفكر و المجتمع و السّياسة و السّاسة و الأباطرة و الملوك .
3▪ قبل ذلك ببضع مئات من السّنين كان ”الإسلام” يمرّ في فجر عظمته مع فلاسفة عقلانيين سبقوا ( أوربّا ) في التّخلّص من التّفكير الخرافيّ الدّينيّ و الدّنيويّ ؛
و كان الفارق الأساس بين ”مفكّري الإسلام” و فلاسفته السّياسيين العقليين المبكّرين ، و بين مفكّري الغرب و فلاسفته السّياسيين ، هو أنّ ”سلطات الخلافة الإسلاميّة” حكمت بالموت الجسديّ و الفكريّ على ”العقلانيين” العرب و المسلمين ، فيما رفع ”الغرب” من مقام وقيمة ”أنبيائه” الفكريين ، و لو أنّ الأمور لم تجرِ بهذه السّلاسة كما يمكن للسّذاجة أن تحكم على التّاريخ .
4▪ في القرن السّادس عشر جرى في ( أوربّا ) حدث تاريخيّ فائق الأهمّيّة، و هو ”الإصلاح الدّينيّ” الذي قاده ( مارتن لوثر )و هو ما عرف بالإصلاح ”البروتستانتيّ” الذي بدأ في شمال ( ألمانيا ) قبل انتشاره ، و الذي انعكس على ”أوربيّة” الكنيسة الإيطاليّة الكاثوليكيّة بفعل عكسيّ ممّا كانت تعمل عليه ، و هو ”العالميّة” أو ”الّلائيكيّة” ( الشّعبيّة، أو العامّيّة ) ..
5▪ بحيث أدّى الأمر إلى ما عرف بحروب الدّين تحت شعار ”الحرّيّات الدّينيّة” و ترجمة ”الكتاب المقدّس” من ”الّلاتينيّة” إلى الّلغات ”القوميّة” ، ثمّ بحرب الثّلاثين عاماً ( 1618 – 1648 ) بين ”البروتستانت” و ”الكاثوليك” حيث حصدت ملايين الأرواح في ( ألمانيا ) ( الإمبراطوريّة الرّومانيّة المقدّسة ) و ( بولندا ) و ( إسبانيا ) ، فبرزت دول جديدة في ( أوربا ) ، و منها بشكل أساسيّ ( فرنسا ) ..
فيما تراجعت سلطة ”الكنيسة البابويّة” ، و تمّ الاعتراف بـ “البروتستانتيّة” و ”الكالفينيّة” إلى جانب ”الكنيسة الكاثوليكيّة” التّقليديّة ، و ظهرت ”الفكرة القوميّة” في ( أوربّا ) .
6▪ هكذا ، ما بين ”العالميّة” الكنسيّة و حروب الدّين و ”الإصلاح الدّينيّ” و ( صلح وستفاليا ) ( 1648 ) ، و الفترة الانتقاليّة ما بين ”عصر النّهضة” و ”عصر الأنوار” ، قطعت ( أوربّا ) مئات من السّنين الصّعبة الدّمويّة الحادّة ، فيما كانت تتبلور في أعماق هذا ”الواقع” آفكارٌ مختلفة تتمحور حول ”الحرّيّة” و ”العدالة الاجتماعيّة” و ”التّحرّر الدّينيّ” و ”حرّيّة المعتقد” و ”حرّيّة التّفكير” و ”الحقّ في استخدام العقل” و ”حقّ التّعلّم” ..
هذا ناهيك عن الحركات الاجتماعيّة و الأفكار الجديدة المطالبة بحقوق ”الإنسان” الأوّليّة من طعام و شراب و سكن و اختيار شكل العيش و حرّيّة الإنسان .
7▪ في إطار النّضالات الاجتماعيّة الجنينيّة الأولى ، و التي امتّدت على مئات السّنين ، ما بين ”عصر النّهضة” و ”عصر الأنوار” ، تكونت فكرة ”المجتمع المدنيّ” ، حيث كانت الفكرة الأولى حوله تتمحور ، حديثاً ، على ”المجموعات الاجتماعيّة – السّياسيّة” التي لا تدخل في الحكومة ( في الدّولة ) ، مشكّلة حالة من حالات ضغط الرّأي العام لتصحيح أو نقد انحرافات الحكومة عن أهدافها العامّة المتمتّلة في خدمة المجتمع الذي هو العنصر الأول من عناصر و مقوّمات الدّولة .
8▪ كانت من أساس مهامّ ما سمّي ”المجتمع المدنيّ” في تطوّر مفهومه في ( أوربّا ) أن يعمل على تكريس ”دولة علمانيّة” جوهرها ”حرّيّة الاعتقاد الدّينيّ” أو ”الإلحاد” ، وفق ما يراه المرء في إطار ضمان ”حرّيّات المعتقد” و ”حرّيّات التّفكير” ..
و على العموم في إطار ”الدّيموقراطيّة الفكريّة” التي تتيح للجميع حرّيات اختيار النّظرة إلى العالم ، بضمان عدم تعدّي الفرد على حقوق الآخرين في حرّيّة الاعتقاد ..
كما بضمان عدم تدخّل ”الدّولة” في هذه ”الحرّيّات” ، بل و في ضمانة ”الدّولة” لجميع مواطنيها ”المساواة” في حرّيّة ”التّديّن” و ”الإلحاد” و ”الاعتقاد” ، من دون تمييز في ”الحقوق” و ”الواجبات” ، في إطار واجبات الدّولة الحديثة ( الحامية ) في حماية حقّ ”الجميع” في ”الاختيار” ..
و هذا هو مضمون ”الدّولة العلمانيّة” الذي ترسّخ مع ما يُسمّى ”الحداثة” التي تقترن ، عادة ، بالثّورة البورجوازيّة الفرنسيّة ( 1789 ) .
9▪ من حيث المبدأ العام ، لا توجد في المصطلحات الفلسفيّة السّياسيّة ما تُسمّى ”الدّولة المدنيّة” ، و إنّما هناك ”مجتمع مدنيّ” في ”دولة علمانيّة” ..
لقد شقّ مصطلح ”الدّولة المدنيّة” طريقه إلى التّداول ”السّياسيّ” ، جرّاء النّزعات الحديثة التي عادت بالمجتمعات في بعض ”الدّول” إلى عصر ”ما قبل الحداثة” ، و التّمييز الدّينيّ و الطّائفيّ و المذهبيّ و المعتقديّ الذي اختفى تقريباً في “الغرب” ، و لو أنّه قد ظهرت هناك ( في الغرب ) تمايزات طبقيّة و سياسيّة ، إلّا أنّ هذا الأمر شيء يخرج عن نطاق هذا الحديث .
10▪ نحن ، إذاً ، أمام ضرورة عصريّة لمجتمع سياسيّ (مدنيّ) ، يكون عابراً للجماعات و الفئات و العصبيّات و التّمييزات الدّينيّة و المذهبيّة و الطّائفيّة ..
و من المفهوم أنّ مجتمعاً كهذا لا يمكن أن ينضجَ خارج ”الدّولة العلمانيّة” التي يتساوى فيها ”الإيمانُ” و ”الإلحاد” ، من دون تفوّق شخص على آخر بسبب معتقده أو دينه أو مذهبه أو طائفته .
11▪ لا يوجد صنف من المجتمعات السّياسيّة أو الدّول هو أقرب أو أبعد ”لطبيعة مجتمع هو بأكثريّته متديّن” ، ذلك لأنّ الواقع يُكذّب هذه الحقيقة ..
إذ أنّ ما يجعل مجتمعاً بعينه ”متديّناً” أكثر من ”مجتمع آخر” – كما يقال عندنا – ، إنّما هو أمر يعود إلى مجموعة من الأسباب التي إذا ما فحصناها لوجدناها ”أسباباً” كاذبة يغلب عليها النّفاق الاجتماعيّ أكثر ممّا يغلب عليها ”التّديّن” بإيمان .
12▪ و الأمثلة على ذلك كثيرة : فإمّا أن يكون الأمر يتعلّق بالشّعور السّاديّ بالتّفوّق العدديّ لدين على دين أو لطائفة على طائفة أو لمذهب على آخر ..
○ و إمّا أن يكون الأمر تحقيقاً لمصالح اجتماعيّة و سياسيّة تتعلّق بالحكم و السّيطرة ..
○ أو أن يتعلّق الأمر بالكراهيّة الدّينيّة التي تورّث تربويّاً و تعليميّاً و اجتماعيّاً ، حتّى أنّها تُمسي من صميم ”الدّين” الاجتماعيّ المزوّر و المزيّف و الكاذب .. إذ ما من ”دين” إلهيّ حقيقيّ يحضّ على كراهيّة ”الآخر” لمجرّد الاختلاف في ”الدّين” ..
○ و إمّا أن يكون الأمر لفهم أخرق و أحمق و جاهل للنّصوص الدّينيّة ، و هذا استثناءٌ يُعمّم بالتوريث . .
○ أو أن يكون السّبب ، و هذا هو الأعمّ و الأشمل ، هو احتكار الشّعور الدّينيّ الأكثريّ من قبل طبقة لاهوتيّة – سياسيّة تحرّض على الخلاف بسبب الاختلاف ، مستفيدة من واقع يؤهّلها للسّيادة و السّيطرة الاجتماعيّتين تحقيقاً لمكاسب سياسيّة و طبقيّة خالصة.
▪ و أمّا عن ”الشّعور” المزيّف الذي يقترن بأنّ ”العلمانيّ” يعمل على سلب ”المتديّن” هويّته ، فهذا ”الهُراء” هو بالضّبط من اختراع رجال الكهنوت الّلاهوتيّ السّياسيّ ، الذين يحتقرون عقول ”عبيدهم” من ”العامّة” ، فيغسلون لهم أدمغتهم بتحريضهم على ”العلمانيّ” و ”العلمانيّة” ، ضماناً لاستمرار تسلّطهم الاجتماعيّ على عبيدهم و محتزبيهم ، كما ضماناً لاستمرار مواقعهم الطّبقيّة الاجتماعيّة و السّياسيّة و نفوذهم ”المدنيّ” .. بالتّحديد !
14▪ إنه لمن الواضح و المفهوم أنّه لا تتحقق ”علمنة” الدولة – كما يظن الكثيرون – و السّير بمواطنيها نحو ”مجتمع سياسيّ” ( مدنيّ ) ، سواءٌ إذا كان مجتمعها متعدّد الأديان و المذاهب و الطّوائف ، أم لم يكن كذلك ..
بأن تنصّ في ”دستورها” أو في قوانينها أو في ”قراراتها الإداريّة” أو في أيّ نصّ سياديّ من نصوصها ، كدولة ، على ما يمكن أن يفسح مجالا لعدم تكريس وترسيخ المجتمع المدني والدولة العلمانية ..
لأن ذلك يعمل على بثّ روح الفرقة و التّخندق و التّتخيم ما بين أبناء المجتمع الواحد ، بدلا من أن تقطع الطريق ، بحسبان الفعل و ردّ الفعل ، على جماعات و عصابات و عصب جاهزة للقتال في ساحات النّار عند أيّة شرارة يتقصّدها ”البعض” ، من أيّ من تلك ”الانفراقات” ، تحقيقاً لمآرب أو أهداف أو سيطرة أو شموليّة سياسيّة ..
في الوقت التي ينازع العالم جميع ”الشّموليّات” السّياسيّة الحزبيّة في الدّول و الأمم و الشّعوب على واقعها ، هذا ، المتخلّف و الجاهل و الرّديء و العنيف !
15▪تبقى العلاقة الدّينيّة – الإيمانيّة شأناً شخصيّاً خالصاً ، بالمطلق ، بين ”العابد” و ”المعبود” ، هذا و لو كان المعبود حجراً أو صنماً أو وثناً أو كان إلهاً فوق الجميع !!
هذا و لا يفيد النّص ، من قريب أو من بعيد على تنظيم هذه العلاقة بين الله و الإنسان ، إذ أنّ هذه العلاقة هي من العلاقات الرّوحيّة و الوجدانيّة و الأخلاقيّة المطلقة .
16▪ لا يمُكننا الحكم على ”تاريخيّة” العلمانيّة الفكريّة في تاريخنا العربيّ – الإسلاميّ ، إذ أنّه لم يسمح ظرف واحد سياسيّ باختبار هذه العلاقة بما فيها من حرّيّات ”دينيّة” و ”مدنيّة” ؛ و تاريخنا – كما كنّا قد أشرنا أعلاه – حافل بالتّهم السّياسيّة الدّينيّة بالزّندقة و الكفر و المروق و تحليل الحرام و تحريم الحلال و التّجديف بحقّ الخالق و النّكران الدّينيّ و الإباحيّة الأخلاقيّة .. إلخ ، إلخ ؛ بحقّ كلّ مجتهد عقليّ تصدّى لمسألة فقهيّة أو تشريعيّة واقعيّة تُعنى بشؤون الدّنيا و الدّين ..
هذا على رغم ”الحضّ” القرآنيّ الإلهيّ الصّريح للمؤمنين على التّفكّر و التّعقّل و التّأمّل و إعمال أكرم ما منحه الله لبني آدم ، و أعني به العقل .
17▪ لا يحتمل أمر ”العقلانيّة” منطقة وسطى بقسمة رضائيّة بين ”المتزمّت” دينيّاً و بين ”العلمانيّ” ، ذلك أنّه تبيّن لنا ممّا قدّمناه ، حتّى الآن ، أنّه ما من تناقض بين ”التّديّن” و ”العلمانيّة” ، على اعتبار أن الدّولة العلمانيّة هي الدّولة الضّامنة لجميع مواطنيها ، بما في ذلك إيمانهم أو غير ذلك .
و أمّا أمر استثمار تهمة الدّولة العلمانيّة بالدّولة المارقة أو الملحدة ، فهذا هو بالضّبط الجهل بعينه و عدم الإلمام بأبسط مضامين المصطلحات السّياسيّة المستخدمة في الفكر اليوميّ و العامّيّ المعاصر ، الذي صار من ممتلكات ، حتّى ، الأمّيّين !
18▪ نخلص إلى نتيجة بسيطة بساطة هذه الطّروحات و شيوعها ، مفادها أنّ المجتمعات العربية ، إذا أردنا الحقيقة ، بل و الحقّ ، إنّما هي ، باغلبيتها ، لا زالت مجتمعات ”قبليّة” ثأريّة متناحرة و متعصّبة و متزمّتة ، تعيش في ما قبل ”النّهضة” العالميّة التي قاربت أن تُمضي ألف سنة من الزّمان . .
و ليس غريباً ، أبداً ، أن تبقى المجتمعات و الشعوب و الدول والأفراد ، محتّلّة الإرادة و العقل و القرار ، طالما أنّها لا تستطيع التّمييز بين الدّولة العلمانيّة و الدّولة الملحدة ..
فلا الدّولة لها دينٌ و ليس لها إيمان ، و ليست هي كافرة و ليست أيضاً مارقة ..
ومن لا يدركون هذا الأمر ، سيبقون محتلّين واقعين تحت الاحتلال و ليسوا أحراراً ، أيّاً كان واقعهم ”السّياسيّ” .
التعليقات مغلقة.