بشار الأسد في مواجهة التفتيت وإسقاط الدولة / عبد المنعم علي عيسى
عبد المنعم علي عيسى ( الثلاثاء ) 15/9/2015 م …
كثيراً ما يتردد على مدار الأزمة السورية تساؤل يطرح بطريقة تبين أن المراد منها إظهاره (إظهار السؤال) على أنه الأكثر إلحاحاً، وهو يختصر بالقول: ماذا عن مصير الرئيس الأسد؟
إن طرح المسألة بهذا الشكل يهدف (شكلياً) إلى المساس بهيبة الرئيس الأسد كما يهدف إلى تصويره على أنه العقبة الوحيدة التي تعترض جميع المبادرات المطروحة لحل الأزمة السورية، إلا أن هذا الطرح في عمقه يهدف إلى أبعد من ذلك بكثير ومراميه تذهب نحو تدمير النسيج الاجتماعي المكون للدولة السورية، وفي الأسطر التالية سنحاول أن نوضح ما ترمي إليه تلك «المرامي» ثم ماذا يعني ضرورة غياب الرئيس الأسد عن المشهد السوري في هذه المرحلة.
خلال لقاء الرئيس الراحل حافظ الأسد مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون في جنيف 26 آذار 2000، قدّم الأخير عرضاً وصفته الدوائر الغربية آنذاك بأنه «الأكثر إغراءً» وبأنه «الذي لا يمكن لأحد أن يرفضه» كان ذلك العرض باختصار يقوم على استعادة سورية لجولانها المحتل مع الإبقاء على شريط شاطئي على امتداد بحيرة طبريا لا يتجاوز عرضه 10كم2 بمساحة كلية لا تتجاوز 5% من مساحة الجولان الإجمالية البالغة 5000 كم2 أي إن ما سيبقى –حسب العرض الأميركي- تحت السيطرة الإسرائيلية هو 250كم2.
كان جواب الرئيس الأسد على ذلك العرض: «إن الذي يسقيني فنجان القهوة سوف يطلق عليّ الرصاصة إذا ما تنازلت عن ذرة واحدة من تراب الجولان».
كان ذلك الرد هو اللحظة التي تقرر فيها هذا المآل الذي نحن في غماره الآن، فأنّى لرئيس دولة صغيرة –كسورية- أن تقف –وتتحدى- الإملاءات الأميركية وخصوصاً عندما تكون تلك الإملاءات مصلحة أميركية عليا، صحيح أن دمشق كانت قد وقفت بوجه العديد من المحطات الأميركية التي كانت تهدف إلى «إعادة ترتيب الشرق الأوسط» و«إرساء السلام الأميركي فيها» بدءاً من كامب ديفيد (17 أيلول 1978) مروراً باتفاق (17 أيار 1983) واتفاق أوسلو (13 أيلول 1993) وصولاً إلى اتفاق وادي عربة (26 تشرين الأول 1994) إلا أن واشنطن كانت ترى أن هذا المسار برمته وما تحقق فيه حتى الآن مهدد بالفشل وانفراط عقده إذا لم يكن النجاح حليفه في محطته السورية، الأمر الذي دفع بتلك الدوائر (الغربية) إلى القول إن دمشق حصلت على 99% من مطالبها فماذا تريد؟ لقد بلغ السيل زباه. استهدف نظام الرئيس بشار الأسد الذي كان يعتبر امتداداً واستمراراً لجميع تلك الثوابت التي أرساها الرئيس الراحل حافظ الأسد، كانت تلك الثوابت تقوم على استقلالية البلاد وسيادتها فوق أرضها، نظام الحكم فيها علماني ويعمل على الوقوف بوجه الهجمة الغربية الشرسة على المنطقة، ولذلك نرى أثناء محاولات إسقاط هذا النظام استحضار نموذج معارض يكون في إطاره على النقيض تماماً من النموذج الحالي.
استنسخت المجموعات الإرهابية خصوصاً العقائدية منها كجبهة النصرة وداعش نموذج (الدين- الدولة) الذي يتناقض تماماً مع الواقع السوري القائم أصلاً على دولة علمانية ولأن المشروعية السابقة لم تكن كافية لقيام –وترسيخ- ذلك النموذج فقد تمّ تدعيمه بأيديولوجية مطاطة أطلق عليها «فلسفة الحرب» التي كانت –في الحالة السورية- فريدة من نوعها بين مختلف الحروب القديمة والمعاصرة والحديثة.
كان التعارض لاحقاً فيما بين النموذج وبين فلسفة الحرب بحكم الموروث الذي تركته الرسالات السماوية والذي يقوم على رمزية «الخير- المحبة- السلام» في حين أن المطلوب هو الأجندة النقيضة تماماً لما سبق، قد دفع نحو استدعاء «المبررات الأيديولوجية» والتي كانت أشبه بالتشوهات الأيديولوجية، استخدمت تلك المبررات كجسر عبور من ضفة إلى أخرى وقد أتاحت «أقله في الأوساط الإرهابية» شرعنة الوسائل اللاأخلاقية التي يطلق عليها عادة في العرف السياسي بالبراغماتية إلا أن هذه الأخيرة أيضاً كانت بلا حدود وبلا ضوابط لكي تستطيع أن تضمّ تحت جناحيها ممارسة الانتهازية واللصوصية والكذب والتآمر والذبح والاغتصاب وإباحة كل المحرمات.
قوبل هذا المشروع من القيادة السورية بإدراك عميق –منذ اللحظات الأولى- لمآربه التي يرمي إليها واعتماد الآليات المناسبة –واللازمة- للتصدي له، والأهم من ذلك كله هو أن تلك القيادة كانت مستعدة للذهاب بعيداً في دفع الأثمان الباهظة التي تترتب على تلك المواقف، شكّل تردد أصداء تلك المعركة في المحيط دلالة على محوريتها وأهميتها حيث ستكتب الصحفية الأردنية (شرمين نرواني) في عام 2013: «إن شرط نجاح الثورة العربية هو بالتأكيد فشل «الثورة السورية» لأن الأولى (الثورة العربية) مشروطة بنيوياً بثلاثة عناصر هي (المقاومة- التنمية والديمقراطية- الحريات العامة) وأي من هذه الشروط الثلاثة لا يتوافر في المعارضة السورية.
ونحن هنا نضيف –وندعم- إلى قول الكاتبة نرواني أن «الثورة» حين تنحصر في مطلب الحرية السياسية فهي لا تعدو أن تكون طلباً لإنشاء «هايد بارك» سياسي سوري، وحينما تتجاهل العدو الإسرائيلي بما يمثله من رأس حربة لهذا الهجوم الغربي المتكالب على المنطقة فإنها تصبح أقرب إلى تسويق أفكار «السوفخوزات والكولخوزات» التي يمكن أن ينسجم فيها كل من المحتلين مع المغتصَبين.
في آذار 2013 سقطت القذائف على مناطق «حساسة» في دمشق رغم ذلك أصر الرئيس الأسد على البقاء دونما تغيير وكأن شيئاً لم يحدث، وما أراد الرئيس الأسد قوله هو أنه يقف في قلب النار في مواجهة التفتيت وإسقاط الدولة، وأراد أن يقول إن مصيره مرتبط بمصير الوطن إلى حدّ التماهي.
صمود الرئيس الأسد الأسطوري جعل منه قائداً كبيراً تتلبسه روح سورية كلها، والحرب التي يخوضها هي الأشد ضراوة مما يمكن أن تتعرض له دولة بهذا الحجم وهذه الإمكانات، وفيها برز كزعيم يرمز إلى وجدان الوطن بأكمله، وكقائد كبير يملك إرادة النصر، وهذه الأخيرة كانت على الدوام في جميع الحروب هي نصف المعركة ونصف النصر.
بالتأكيد هناك من سيقول وقوله صحيح إن ثمن هذا النصر كان باهظاً إلا أننا نقول إن ذلك الثمن الباهظ هو ثمن زهيد إذا ما قيس بالمسار الآخر الذي كان من الممكن له أن يجنبنا كل هذا الدمار وكل هذا القتل بجعل سورية ولاية عثمانية وهذه المرة دونما حاجة إلى مرج دابق 1516.
الرئيس الأسد اليوم هو في قلب المعركة كما هو حال الجيش والشعب السوريين أيضاً، وانتصارهما (المتلازم) سيعني انتصاراً لوحدة وسيادة واستقلال البلاد، وكل ما يجري بين انطلاق الخيول نحو المعارك وبين انقشاع الغبار من ساحاتها كل ذلك تفاصيل يمكن الحديث عنها بعد زوال الخطر بينما الأهمية الكبرى ستكون موضع «الأمانات» التي أصبحت في عهدة الرئيس الأسد منذ 17 تموز 2000.
في جميع اللحظات المصيرية التي كان يتهدد فيها وجود أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، كانت هذه الأخيرة تتمثل روح قائد أو زعيم منقذ ترى فيه صورتها المنتصرة ورمزاً لعنفوانها وكبريائها كما فعلت فرنسا في تلك الأيام العصيبة من تموز 1940 بعد الهزيمة الساحقة التي منيت بها أمام الجيش الألماني، عندها قررت فرنسا أن تكون صورة شارل ديغول الرافض للهزيمة والاستسلام هي صورتها لا صورة الجنرال فيليب بيتان كما أريد لها أن تكون، فالرموز الوطنية تدخل في الذات الجماعية للأمم والشعوب لتصبح ثابتاً من ثوابتها، والتعاطي معها يجب أن يكون انطلاقاً من هذا الموقع، في حين أن الإجحاف بمكانتها يعتبر أمراً ذا مخاطر عديدة، ولهذا الأمر الأخير رأينا فرنسا تعيد محاكمة ابنتها البارة (جان دارك) التي أعدمها الإنكليز في 30 أيار 1431 بتهمة العصيان والزندقة والهرطقة.
بعد خمسة قرون على إعدام جان دارك أصدرت محكمة فرنسية في عام 1920 قراراً باعتبارها بطلة قومية ترقى إلى درجة القديسين.
فلولا تصحيح تلك الصورة لجان دارك في ذهنية الفرنسيين لما أمكن أن تلقى ظاهرة شارل ديغول ذلك الالتفاف وذلك الوزن والبريق الذي حظيت به.
التعليقات مغلقة.