المجلس الوطني الفلسطيني أمام مساءلة التاريخ / عدنان كنفاني

 

عدنان كنفاني ( فلسطين ) الخميس 17/9/2015 م …

هل سيستطيع المجلس الوطني الفلسطيني باجتماعه المرتقب، وهو أعلى سلطة ضابطة للحراك الفلسطيني، إعادة ترتيب «البيت الفلسطيني» على أسس واضحة وأصيلة وبما يتماشى ويتفق مع رأي وطموح غالبية الشعب الفلسطيني؟ أم سيعمل على إشاعة فوضى أكثر إيلاماً في مسار القضية؟

مؤلمة هي الحقيقة عندما نسعى ونتمنى فتح ملفات طالها عفن الوقت، لكنها الحقيقة التي يفترض أن لا تغيب، بل تحضر في كلّ محفل، وفي كلّ حوار، نقولها بشجاعة من منطلق إيماننا بأنّ الخطأ عابر، والصحيح هو الذي يبقى ولو اعترضته عوائق إلى حين، وبخاصة في رؤى شعب قدّم تضحيات بلا حساب على مدى عقود من أجل كينونته، وأرضه وبقائه.

لا شك في أنّ أسوأ مرحلة مرّت بها القضية الفلسطينية، هي التي بدأت في «أوسلو» بخطوطها العريضة، أنتجت اتفاقيات تفصيلية أخرى أكثر تحديداً، ثم ولّدت، ما أعتبره من خلال رؤيتي الشخصية «المستقلة»، الكارثة الأكبر التي هزّت قواعد القضية، وغيرّت «على الورق»، وإعلامياً وسياسياً وأمنياً، ومن خلال التنفيذ والتطبيق معايير ومفاهيم كانت الأصل في إصرار الشعب الفلسطيني على حقه، ومن خلال الكفاح المسلّح تحديداً، والاتفاق على صياغة «الميثاق الوطني الفلسطيني» كدستور للشعب الفلسطيني، والمحدّد لتوجهه وموقفه، وقد تمثّلت الكارثة، في دخول «السلطة» بداية بشروط مهينة كانت في أوسلو، تحت عباءة الاحتلال، وإلى ما اتفق على تسميته «المقاطعة» في رام الله، وخرائط متشابكة قطّعت أوصال الضفة الغربية إلى ألف وباء وجيم، وإلى نسب مئوية غريبة عن مصطلحاتنا الأساسية وأهمّها إيماننا المطلق بأننا أصحاب الحق وأصحاب الأرض… دخلت السلطة تحت عباءة الاحتلال، أو بالأصحّ تحت مطرقة الاحتلال، وبشروط مذلّة بدأت بشطب موضوعة الكفاح المسلّح، وشطب بنود أساسية من الميثاق الوطني من خلال تصويت اعتمد «رفع الأيدي»، لتخرج كلّ الأوراق من أيدينا، ونضعها طواعية بين أيدي المحتلّ، وإلى ذروة المهانة من خلال اتفاقية «التنسيق الأمني» مع العدو، أو بمعنى أكثر وضوحاً، السيطرة الأمنية «الإسرائيلية» المطلقة، ولجم الحراك النضالي ومحاسبة المقاومين، والسيطرة المطلقة حتى على رموز السلطة، «رئيسها وأعضاءها» وتقييد تحرّكهم، وسلوكهم، وقراراتهم، حيث لا تخرج عن التوجّه الإسرائيلي الأمني والسياسي، وهم بالنسبة لـ«الإسرائيليين» ليسوا أكثر من «دمى»، أو بيادق على رقعة شطرنج يحركونهم وفق مصالحهم، وقد أنتجت، على مدى الوقت، سلطويين منتفعين فرّطوا بالحق الفلسطيني، وقيّدوا حركة المقاومة، بل وساهموا في التخلّص من المقاومين، سواء بالقتل، أو الأسر، أو النفي، وجاهروا بما هو أكثر خزيّاً ومذلة…

منهم من قال «الحياة مفاوضات» ونشر كتاباً كي يثبت «نظريته»، وكلنا يعرف إلى أين أوصلتنا المفاوضات العبثية تلك! ومنهم من أعلن أن لا انتفاضة للشعب الفلسطيني بعد اليوم! ومن تنازل عن مدينته، ومن أشهر رغبته في تقاسم الرغيف وفنجان القهوة مع المحتلّ، ونزع البندقية من يد الفلسطيني!

وماذا بعد؟!

لقد قتلوا «الختيار» أبو عمّار رحمه الله لأنه لم يتنازل عن حق العودة، ولا عن القدس، على الرغم مما قدّم لهم من تنازلات، رحل «الختيار»، فجاؤوا بمن أعلن أنه سيفعل… وكان ما كان.

أهل الضفة هم من يدافع عن الضفة، والمقدسيون هم من يدافعون عن القدس، وأهل غزّة صمدوا في الدفاع عن غزة، هذه هي الحقيقة، وليس للسلطة ولا «لحكومة» غزة أيّ فضل ّأو منّة.

يعلنون ويتحدّثون عن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني… كيف يستقيم ذلك والمنظمة لا تجمع في إطارها مجموع الطيف الفلسطيني، لا المستقلين، ولا بعض التنظيمات المؤثّرة حماس والجهاد ؟

 

السلطويون بغالبيتهم فتحاويون، والمنظمة «مستلبة» من المتنفّذين في تنظيم فتح، «ولا أتحدّث عن فتح كفصيل وطني مناضل له تاريخه وعطاؤه»، والمنظمة تمسك بورقة المال للضغط على التنظيمات الأخرى في أيّ قرار يستوجب موافقة أغلبية لتمريره، ولا يجرؤ أيّ فصيل أن يقول لا، كي لا يتعرّض لقطع التمويل عنه!

وسط هذا «الخراب» الذي عصف بالقضية الفلسطينية في الحقبة الممتدّة من اتفاق أوسلو وحتى الآن، وعلى إيقاع هذه النقاط السوداء التي مررت على ذكرها، وهي بالمناسبة ليست أكثر من مقتطفات من مشهد سوداوي اشتغل على تغييب، «أو لنقل تمييع» التوجّه الفاعل للقضية الفلسطينية لصالح «إسرائيل» أولاً وبامتياز، ثم لصالح بعض الأفراد في السلطة، وفي حكومة غزّة، وكله على حساب الشعب الفلسطيني…

وسط هذا المشهد تأتي الدعوة إلى عقد الدورة العادية للمجلس الوطني الفلسطيني، وهو، بما يستطيع أن يشكل مشاركة شاملة للفصائل الفلسطينية، والمستقلين، يفترض أن يكون أعلى سلطة ضابطة للحراك الفلسطيني على كلّ المستويات، والمشرف على الهيئات والمؤسسات المفترضة لتنفيذ ما يخرج به من توصيات وتوجيهات سياسية وميدانية ملزمة للحكومة «إذا صحّ التوصيف»، ومنظمة التحرير، والفصائل، وكلّ ذلك بما يتفق مع مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته، فهل كان التوجّه لتحديد موعد انعقاد المجلس، دون تحضير جيد ومدروس، يقع تحت مسمّى «حق يُراد به باطل»؟

وهل كانت «نوايا» السلطة بريئة من اللجوء للمجلس كأعلى سلطة وطنية فلسطينية «ليشرعن» ديمومة الوضع الحالي، السياسي والأمني، واحتفاظ «الأشخاص» والوجوه ذاتها في المسار الوطني «السلطوي» الفلسطيني ذاته لفترة مقبلة الله أعلم ماذا يمكن أن تفرز، وإلى أين سيصل الحال الفلسطيني؟

وهنا، لا بدّ أن نتوجه بكثير من التقدير لكلّ الجهات الفلسطينية «تنظيمات وأفراد» الذين وقفوا في وجه التسرّع «غير البريء» لعقد المجلس، ولتمرير ما يُراد تمريره، والذي فرض تأجيل انعقاد المجلس ثلاثة شهور أعتقد أنها أكثر من كافية لتفعيل حوار جادّ، واتفاق جادّ لوضع برنامج شفاف لعمل المجلس بما يخصّ الشأن الفلسطيني الوطني، وما يستدعي طرح المشاكل حزمة واحدة بشجاعة مسؤولة، واستخلاص العبر، والوقوف على السلبيات قبل الإيجابيات في المسيرة ومعالجة الوضع بشكل عام كي يستعيد الشارع الفلسطيني نبض الأمل من جديد.

الواجب الوطني يفرض فتح ملفات كبيرة بما يخصّ الوضع الفلسطيني، يبدأ بتقويم المرحلة السابقة بكلّ ما فيها، ما لها وما عليها، ولا أعتقد أنّ في هذا الأمر ما يبعث على الرضى، فالقضية، كما مصلحة الشعب، كانت في آخر اهتمام «السلطويين»، ولو راجعنا الوضع، على مدّ الفترة السابقة، لوجدنا أن لا شيء فعلياً حقق دفعة مهما كانت صغيرة إلى الأمام، بل العكس هو الذي حصل، وهذه المراجعة هي التوجّه الأهمّ المفترض أن يشتغل على تصويب المسار، وضخ دماء وطنية جديدة مخلصة وأمينة لحمل أمانة القيادة باتفاق كلّ الطيف الفلسطيني.

الانقسام الفلسطيني بين غزّة والضفة، ما بين حكومة حماس والسلطة، شكّل مفصلاً خطيراً يحزّ القضية الفلسطينية برمّتها، وبالتالي يعمل على تقطيع أوصال اللّحمة بين الفلسطينيين، وأهمّ أسباب ذلك هو تقديم ايديولوجية هذا وذاك على مصلحة فلسطين، فالسلطة، وحراكها في المكان يكرّس منظمة فتح، والسلطويين من فتح، وكأنّ هذا الأمر أهمّ من مسؤولية الانتماء لفلسطين، أما حماس فهي تقدّم انتماءها لتنظيم «الإخوان» كقدر يقود للاهتمام بالقضية الفلسطينية، أيّ تفعيل الانتماء الايديولوجي، ما سبّب ويسبّب هذا الخراب في نسيج العلاقة، سواء بين الفلسطينيين وطنياً أو من خلال التدخّل سلباً في شؤون الآخرين.

أما موضوعة الفساد فحدّث ولا حرج، فبعد أن كان فساداً موصوفاً لكنه في خانة المواربة والخجل، أصبح مكشوفاً وعلنياً من خلال التصريحات التي يدلي بها هذا أو ذاك، عندما تصاب مصالحهم، أو يخرج أحدهم من واجهة «التلميع» يفضح دون خجل، وهو يعلم أو لا يعلم أنه أيضاً يفضح نفسه، أو من مسؤولين ما زالوا على كراسيهم.

أما العنوان الأهمّ الذي يُفترض أن يكون على طاولة البحث والمناقشة والحوار في المجلس الوطني، هو في أيّ جانب ننتمي كفلسطينيين أصحاب قضية، ونعاني من شتات واستلاب، والاختيار في هذا الوقت والزمن أصبح محصوراً بين خيارين… إما مقاومة، أو استسلام مهما حاولنا «تجميل» توصيف هذا الخيار.

إنّ ما أنجزته السلطة خلال المرحلة التي «تسيّدت» فيها القرار الفلسطيني ليس أكثر من وهم لم يحقق شيئاً على الأرض، ولم يكن أكثر من فقاعات إعلامية سرعان ما تتلاشى، ولا يمكن أن نضعه بميزان مع التفريط ببعض بنود تمّ شطبها من الميثاق الوطني الفلسطيني، وهذه مسؤولية أخرى على المجلس الوطني وضع نقاط على الحروف تتماشى مع إرادة الشعب الفلسطيني، أو على الأقلّ بأكثريته ما دام المجلس فلسطيني ويملك الصلاحية الكاملة في اتخاذ القرار الحرّ، ويحقق مصداقيته كممثل للشعب الفلسطيني، وينجو من مساءلة تاريخية أقلّ ما يُقال فيها، إذا لم يسعً لتحقيق طموح الفلسطينيين، وحقهم المشروع، إنها عار…

لعلها تكون لحظة تاريخية، يسجل فيها «المجلس الوطني الفلسطيني» موقفاً مشرّفاً يعيد بعض ألق لمسيرة النضال الفلسطيني، وحجم التضحيات التي قدّمها شعب فلسطين على مذبح القضية… وتبقى فلسطين هي القضية.

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.