دور الحزب الشيوعي في مدينة حيفا (الحلقة الأولى)

 

الأردن العربي ( السبت ) 19/9/2015 م …

** الصورة : السكة الحديدية في شارع فيصل بحيفا عام 1920 م.

** هذه الحلقة وما سيليها من حلقات منقولة عن موقع ” الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ” …

كتبت جريدة “الاتّحاد” في عددها الثّاني، 21 أيّار  1945: “مصلحة السّكان اليهود مرتبطة ارتباطًا وثيقًا مع مصلحة الأمة العربيّة (في فلسطين) في ايجاد نظام ديمقراطي توفّر فيه جميع متطلّبات التّطوّر والنّهوض… إنّ حل المشكلة اليهوديّة لا يكون بإنشاء الدّولة اليهوديّة في فلسطين، بل في اجتثاث الأنظمة النّازيّة من بين الشّعوب في أوروبا وغيرها وإقامة أنظمة دمقراطيّة للحكم على أنقاض تلك الأنظمة الاستبداديّة”. 

حيفا كانت منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين مدينة عمّالية، فقد كانت تزخر بورش العمل وصناعة النّفط، والسّكك الحديديّة، وصناعة السّجائر، ومعامل التّنك، وأعمال البحر، ودائرة الأشغال العامّة، وعمّال البلديّة، وشركة نور للكبريت. ولم يكن للعمّال العرب الّذين لم يحصلوا على حقوقهم النّقابيّة أيّ تنظيم نقابي يدافع عن حقوقهم الطّبقيّة والقوميّة، إذ كان العمّال اليهود منظّمين في الهستدروت. في هذه الظّروف بدأت تظهر نقابات عمّاليّة عربيّة ومؤتمرات للعمّال العرب في المهن المختلفة وكانت أولاها نقابة عمّال السّكك الحديدية عام 1923.  

الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة جعلت من نشوء حزب شيوعي أمرًا حتميًّا، لكن كانت هناك عوامل لنشوئه أهمها الهجرة اليهوديّة من روسيا وبعدها من الاتّحاد السّوفييتي، والّتي كانت شرائح منها تتبنّى الفكر الماركسي والصّراع الطّبقي، لذلك كانت الأكثريّة السّاحقة من أعضاء الحزب من اليهود. وهذا الأمر جعل الحزب في السّنوات الأولى يركز على القضايا الطّبقيّة ويتجاهل الحقوق القوميّة للعرب الفلسطينيّين، وفي هذا يقول نجاتي صدقي وهو أحد قادة الحزب الشّيوعي الفلسطيني في بداية الثّلاثينات” كانت القيادة اليهوديّة تتعثّر في قضيّة تعريب الحزب، تؤيّدها نظريًّا، وتعرقلها لدرجة ما عمليًّا، في حين أنّ تعليمات الكومنترن تنص على الإقدام في التّعريب.”(1)

لم يكن المقصود بالتّعريب، في الأساس، بانعكاس التّركيبة السكّانيّة في فلسطين، بل الأهم من ذلك كان في توجيه نشاط الحزب الأساسي نحو القضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة، أي تقديم الوطني على الطّبقي في الوضع الفلسطيني الملموس. ويؤكّد د. ماهر الشّريف في كتابه” الأمميّة الشّيوعيّة وفلسطين” أنّ هذا الصّراع داخل الحزب بين التيّارين بقي سائدًا طوال العشرينات.(2) 

في العام 1934 قرّر الكومنترن تعيين رضوان الحلو سكرتيرًا عامًّا للحزب الشّيوعي الفلسطيني، والّذي ميّز قيادة الحزب في هذه المرحلة أنّها استخفّت بالهويّة والموقف الطّبقيّين للحزب، وفقدت التّوازن باندفاعها للسّير في تبعيّة القيادة الوطنيّة الفلسطينيّة، خاصةً في ظروف النّهوض الثّوري في فلسطين والّذي تمثّل في حركة عزّ الدّين القسّام عام 1935 والإضراب السّياسي العام الّذي بدأ في نيسان 1936.(3)

لعبت الخلافات داخل الحزب الشّيوعي الفلسطيني على قضايا عامّة وقضايا نقابيّة وقوميّة دورًا لا مجال للخوض فيها في تفكّك هذا الحزب في أوائل العام 1943.

*عصبة التّحرّر الوطني*

في خريف 1943 بعد تفكّك الحزب الشّيوعي الفلسطيني تأسّست في مدينة حيفا “عصبة التّحرّر الوطني”، وقد ظهرت في البداية كتنظيم وطني يساري عريض، وإن كانت المبادرة لتأسيسها لعناصر كانت في الحزب الشّيوعي الفلسطيني لكنّها ضمّت عناصر لم تكن شيوعيّة مثل موسى الدّجاني الّذي كان أول رئيس للعصبة بعد قيامها، لكنّها اشترطت لعضويّتها أن تقتصر على المواطنين العرب الفلسطينيّين.

كانت الظّروف مؤاتية لقيام العصبة  لأن تغيّرات سريعة حدثت على بنية المجتمع العربي الفلسطيني، والّتي أدّت إلى تحويل عشرات آلاف من الفلّاحين إلى عمّال ومستخدمين قابلين للتّنظيم النّقابي والسّياسي، وذلك بعد احتياج الجيش البريطاني أثناء الحرب العالميّة الثّانية إلى خدمات مختلفة، كذلك بسبب تطوّر الصّناعة المحليّة لتعذّر وصول البضائع من الخارج نتيجة للحرب.(5). وقد أثّرت انتصارات الجيش الأحمر السّوفييتي على تراجع إرهاب سلطات الانتداب، مما خلق مناخًا من الحرّيّة أتاح تأسيس جمعيّات وتنظيمات نقابيّة وتوفّرت الأدبيّات التّقدّميّة والماركسيّة.

في 14 أيّار 1944 صدر العدد الأول من جريدة الاتحاد الأسبوعيّة في مدينة حيفا بعد صعوبات جمّة منها التّرخيص واختفاء الورق بسبب التّقنين وقت الحرب وكان صاحبها ومحرّرها المسؤول الرّفيق المؤرّخ طيّب الذّكر إميل توما. وتألّفت أوّل هيئة تحرير لجريدة الإتّحاد من إميل توما وإميل حبيبي وبولس فرح ومحمّد موسى وتوفيق طوبي، وكانت دار “اتّحاد نقابات وجمعيّات العمّال العرب” مقرّ تحرير الاتحاد وإدارتها وطُبعت في مطبعة منير حدّاد في حيفا والكائنة في وادي النّسناس.

في آب 1945 تأسّس “مؤتمر العمّال العرب” الّذي وحّد نقابات وجمعيّات العمّال العرب، وأصبحت جريدة الاتّحاد النّاطقة باسم مؤتمر العمّال العرب.(6) 

حاربت الاتّحاد حتّى في أعدادها الأولى الأيديولوجيّة الصّهيونيّة وممارساتها فكتبت في عددها الثّاني، 21 أيّار  1945 ” مصلحة السّكان اليهود مرتبطة ارتباطًا وثيقًا مع مصلحة الأمة العربيّة (في فلسطين إ.ت) في ايجاد نظام ديمقراطي توفّر فيه جميع متطلّبات التّطوّر والنّهوض.”(7)

شددت الاتّحاد على رفض إقامة دولة يهوديّة في فلسطين كحل للقضيّة اليهوديّة، فكتبت في عددها الصّادر في 4 حزيران 1944 “إنّ حل المشكلة اليهوديّة لا يكون بإنشاء الدّولة اليهوديّة في فلسطين، بل في اجتثاث الأنظمة النّازيّة من بين الشّعوب في أوروبا وغيرها وإقامة أنظمة دمقراطيّة للحكم على أنقاض تلك الأنظمة الاستبداديّة”. 

ثابرت الاتّحاد في السّنوات الأخيرة للانتداب على فضح دعم حكومة الانتداب المطلق للصّهيونيّة، وحذّرت من عمليّات التّرحيل المنظّم.

*احتلال حيفا*

في 22-24 نيسان 1948 تمّ احتلال مدينة حيفا حسب خطّة “المقص”، حيث قُسِّمت حيفا إلى ثلاث مناطق مختلفة ومهمّة استراتيجيًّا، لمنع التّواصل بين الأهل أو لمنع إيصال المواد التّموينيّة للأهالي،عمليّة تجويع جماعيّة من ناحية، ومنع المقاومين من الحركة بحُريّة في المدينة.

سبقت عمليّة الاحتلال مجازر اقترفتها عصابات الهجناة في قرى حيفا ومنطقتها كالطّنطورة والحوّاسة وبلد الشّيخ وإجزم وكفر لام وعين حوض وعين غزال وأم الزّينات، وعمدت هذه العصابات إلى إيصال أنباء هذه المجازر إلى اهالي حيفا. 

جرت المعارك على ثلاثة محاور، الأول وادي روشميا والحلّيصة، الفرقة الثاّنية نزلت من الهدار إلى الأحياء العربيّة المتاخمة، والفرقة الثّالثة تقتحم الحيّ التّجاري الملاصق للميناء والبلد التّحتى. وقد احكمت القوّات الصّهيونيّة طوقها على المدينة وأبقت منفذًا واحدًا فقط للميناء حيث انتظرتهم سفن أجنبيّة إلى عكّا ومن هناك إلى مخيّمات اللجوء في لبنان وسوريا والأردن.(8)

قام رفاق الحزب في حيفا في 2 أيّار 1948، توفيق طوبي وعصام العبّاسي ويوسف عبده بكتابة منشور باسم “عصبة التّحرّر الوطني” في مقر العصبة في درج الموارنة (نادي إميل توما اليوم)، يدعون فيه السّكّان على عدم ترك البلد مهما كانت الظّروف، ووزّعوا المنشور في كل مناطق حيفا العربيّة حتّى الميناء، وممّا جاء في المنشور “إنّ نزوح الشّعب العربي عن حيفا وقضائها، عن أرض آبائه وأجداده وتخلّيه عن أملاكه وأرزاقه  وأعماله ممّا يسهّل على الاستعمار تنفيذ مؤامراته ويساعد على ابتلاع مصالح العرب في هذا البلد. إنّ مصلحة عرب حيفا وعرب فلسطين تحتّم على سكّان حيفا العرب الرّجوع إلى مدينتهم إلى أعمالهم ومصالحهم… يجب أن لا ننخدع بتصريحات المأجورين الّذين يستفيدون من مآسي الشّعب العربي والأمّة لتثبيت أقدامهم وأقدام المستعمرين. لن ينقذ فلسطين خُدّام الاستعمار وعملاؤه بل نضال سكّانها المباشر في سبيل تحطيم قوى الاستعمار لأجل الحريّة والاستقلال والجلاء.”(9)

رفض رفاق الحزب دعوة الجيش للسّكّان العرب التّمركز في حيّي وادي النّسناس وعبّاس، ووصفه توفيق طوبي أنّه بمثابة غيتو للسّكّان العرب في المدينة. ولم يكتف الرّفاق العرب واليهود بذلك بل قاموا بأنفسهم بطرد اليهود الّذين استولوا على بيوت عربيّة وأعادوا أصحابها إليها.  

رغم كل ما بُذل من محاولات لإبقاء الأكثريّة في حيفا إلّا أنّ إرهاب العصابات الصّهيونيّة وتآمر الإنجليز كان الأقوى. يقول بولس فرح أحد مؤسّسي عصبة التّحرّر الوطني في كتابه”من العثمانيّة إلى الدّولة العبريّة”: كانت مكتبتي في منتصف المدينة على مشارف ساحة الخمرة، لقد شاهدتهم ينزحون بعشرات الشّاحنات المحمّلة بأثاثهم، يمرّون قهرًا عبر ساحة الخمرة، شاهدتهم ينزحون بعشرات الشّاحنات بل بمئاتها… كان عدد سكّان حيفا العرب 80 ألفًا فأصبح في صيف 1948 لا يزيد على 1950 ساكنًا موزّعين على مختلف أنحاء المدينة.”(10)

//الهوامش:

1. د. ماهر الشّريف، الشّيوعيّة والمسألة في فلسطين 1919- 1948، ص69.

2.د. ماهر الشّريف، الأمميّة الشّيوعيّة وفلسطين 1919  – 1928، ص139.

3.عودة الأشهب ونعيم الأشهب، اليسار العربي الفلسطيني 1943- 1948، ص34.

4.نفس المصدر، ص54.

5.نفس المصدر ص55 – ص57.

6. بولس فرح، من العثمانيّة إلى الدّول العبريّة، ص158 – 159.

7. إميل توما، المجموعة الكاملة، يوميّات شعب، المجلّد الخامس، ص124.

8. د. خالد تركي، يوميّات برهوم البلشفي، ص84.

9. د. خالد تركي، نفس المصدر، ص85. ة

10.بولس فرح، من العثمانيّة… ص194.

(يتبع)

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.