من التاريخ الأردني الحديث … مظاهرات السلط ضد حلف بغداد أواسط القرن العشرين / المهندس حسين منصور الحياري

المهندس حسين منصور الحياري ( الأردن ) – الأربعاء 2011/2019 م …



في شهر شباط من عام 1954 وقّعت تركيا وباكستان وإيران معاهدة للتعاون المشترك بينهم، وكانت هذه البداية لإنشاء هذا الحلف ، وبعد عام وتحديدا في 24 شباط عام 1955 انضم العراق لهذه المعاهدة التي عرفت فيما بعد بحلف بغداد ، وفي شهر نيسان عام 1955 انضمت بريطانيا لهم ، فاصبح الحلف يتكون من تركيا وباكستان وابران والعراق وبريطانيا.

حلف بغداد بالأصل هو فكرة انجليزية ، كان الهدف الرئيسي المعلن له هو مقاومة المد الشيوعي والنفوذ السوفياتي الذي غزت افكاره منطقة الشرق الاوسط واخذت تتغلغل بين شعوب المنطقة ، أما الهدف المخفي للحلف فكان مقاومة الزحف الاستعماري الامريكي الذي بدأ ينافس بعد الحرب العالمية الثانية الاستعمار البريطاني في مناطق نفوذه في المنطقة ويحاول ان يحل محله في كثير من البلدان العربية والاسلامية.

كان الاردن هو البلد العربي الثاني بعد العراق المؤهل لدخول الحلف نظرا لنفوذ بريطانيا فيه ، لذلك عملت بريطانيا على تهيئة الاجواء في الأردن لإدخاله الحلف.

قامت الحكومة الاردنية في حينها برئاسة توفيق باشا ابو الهدى بإجراء انتخابات نيابية في شهر تشرين ثاني عام 1954 ، وسمح لافراد الجيش والقوى الامنية بالتصويت بهذه الانتخابات لاول مرة بتاريخ الاردن النيابي ( كان ذلك بضغط من كلوب باشا الانجليزي قائد الجيش في حينه ) ، وقامت الحكومة بتزوير الانتخابات لصالح انصارها وانصار كلوب باشا حيث تم تبديل كثير من الصناديق التي صوت بها افراد الجيش وكذلك صناديق المدنيين ، وكان الغرض الرئيس للتزوير هو ايجاد برلمان يوافق على الانضمام لحلف بغداد !.

على إثر ذلك انطلقت مظاهرات عديدة في كافة المدن الاردنية ومنها السلط ، تحتج على نتائج الانتخابات المزورة ونزلت قوات الجيش والامن للشوارع وتصدت للمتظاهرين واخمدت المظاهرات.

بعد عام كامل و في شهر تشرين ثاني عام 1955 زار الرئيس التركي جلال بيار الاردن والتقى بالملك حسين وبرئيس الوزراء سعيد المفتي وكان الغرض من الزيارة مرة اخرى هو اقناع الاردن بالدخول بحلف بغداد ،ولكنه لم ينجح في مسعاه.

ثم في 6/12/1955 جاء للاردن الجنرال تمبلر رئيس اركان حرب جيوش الامبرطورية البريطانية ، واجتمع مع المسؤولين وحاول اقناعهم بالانضمام للحلف وقام بتهديدهم بقطع المعونة البريطانية التي تقدم للاردن والتي كان اعتماد الموازنة الاردنية بشكل رئيسي عليها، فاستقالت حكومة المفتي.

وفي 15 /12 / 1955 شكل الوزارة المرحوم هزاع المجالي للمرة الاولى له , وكان هزاع يميل الى الدخول بالحلف.

خرجت مظاهرات عارمة في كل المدن الأردنية ضد زيارة تمبلر وضد حكومة هزاع ، وفي السلط خرجت مظاهرات كبيرة لم تشهد المدينة اضخم منها من قبل، وشاركت كل فئات الشعب بها، فالقوى السياسية كلها الاسلامية واليسارية والقومية والوطنية وكذلك العمال والطلاب والفلاحين والنساء شاركوا جميعا في المظاهرات، واتفقت كل القوى على رفع شعار موحد هو رفض حلف بغداد، وكان للمرأة السلطية دور نشيط وفعال حيث كان العديد من النساء يلقين الكلمات والخطب التى ترفض الانضمام للحلف وتندد بالحلف واعضاءه ، ولا شك أن الاعلام المصري الناصري الذي كان قويا وله تاثير على الشعوب العربية جميعها لعب دورا هام في تهييج المتظاهرين لان عبد الناصر كان ضد الحلف ودوله.

اجبر موقف الشعب الاردني مجلس النواب على رفض الانضمام للحلف واعلن الاردن رسميا عدم دخوله بالحلف فهدأت المظاهرات،وفي 20 /12/1955 استقالت حكومة هزاع الذي رفض استخدام القوة ضد المتظاهرين كما كان يريد كلوب واصر على عدم اهدار نقطة دم واحدة ،وقام قبل استقالته بالطلب من الملك حل مجلس النواب وفعلا تم حل المجلس،ولكن بعد عدة ايام قامت المحكمة المختصة برفض قرار الحل لعدم اكتمال شروط طلب الحل ( لم يكن هناك توقيع لوزير الداخلية ) فاعيد مجلس النواب الى الانعقاد.

وفي 6/1/1956 خرجت مظاهرات بالسلط وبقية المدن الاردنية احتجاجا على اعادة مجلس النواب الذي كان الشعب يعتبره مزورا،وكان ذلك في زمن حكومة ابراهيم هاشم،تدخلت قوات الجيش والامن وجابهت المتظاهرين بالسلط بالرصاص الحي مما أدى الى مقتل اثنين من المتظاهرين هما الطالب صبحي الحاج فاضل الفاعوري والعامل علي حمد الله العقلة النسور ، وجرح واصيب عدد كبير من الشباب بجروح مختلفة ،حدث كل هذا أمام مخفر البياضة في مدخل السلط ( مقابل مبنى البلدية الحالي ) . واثر ذلك قام بعض الشباب الغاضبيين بخطف سيارات عسكرية كانت متواجدة أمام المخفر وأدخلوها الى داخل المدينة ( الى وادي الاكراد والعيزرية ) ,وقاموا بحرقها انتقاما لمقتل الشباب.

في اليوم التالي شيعت جموع كبيرة من ابناء السلط والاردن جثامين الشهداء بعد ان صلي عليها بالمسجد الكبير وسط البلد،وحملوها على الاكتاف حتى المقابر في العيزرية والجادور ( علي النسور دفن بالعيزرية وصبحي الفاعوري بالجادور ). ولقد تحولت الجنائز الى مظاهرات وعرس وطني كبير القيت فيه القصائد والخطب النارية التى اشادت بالشهداء.

بعد مدة بسيطة من انتهاء المظاهرات أرسل قائد الجيش كلوب باشا لجنة برئاسة رائد انجليزي اسمه (بيتر ينغ ) واجتمعت ببعض شيوخ السلط بمكتب المتصرف ( كانت المتصرفية في دار البشير اول شارع الميدان على درج السينما ) ,وطلب رئيس اللجنة من اهالي السلط دفع ثمن السيارات التى احرقوها! فتكلم باسم الموجودين فلاح باشا الحمد الخريسات وكان أكبرهم سنا فقال ( نحن نعترف بان ابناءنا قد حرقوا سياراتكم ونحن على استعداد لدفع الثمن المطلوب لكن بشرط ان تقوموا أنتم باعادة الشباب الذين قتلتموهم الى أهاليهم أحياء ) فاسقط بيد اللجنة وغادرت السلط خائبة.

رحم الله الشهداء صبحي الفاعوري وعلي العقلة النسور الذين ضحوا بانفسهم وارواحهم الزاكية، ورووا بدمائهم المباركة الطاهرة تراب بلدهم السلط العزيزة الأبية. ورحم الله الرجال أصحاب المواقف العظيمة الخالدة في تاريخ السلط والأردن.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.