قراءة في مفهوم القومية / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الخميس 21/11/2019 م …




     تبقى القومية في واقع أمرها مفهوماً ذا دلات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية, ولطالما أن هذه الدلالات في حالات تطور وتبدل دائمين, لذلك يظل مفهوم القومية جوهرياً في حالة تبدل وتطور أيضا, وفقاً لتطور وتبدل المجتمع ذاته.

     إن المجتمعات الحية فعلاً, هي مجتمعات متغيرة ومتطورة, فالذي تحمله من علاقات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية اليوم مثلاً, هي ليست العلاقات الماضية كاملة, ولن تكون كاملة أيضاً بما ستحمله بعد سنوات. وعلى الرغم من أن “مفردة” القومية لا تتبدل أو تتغير من حيث الشكل, إلا أنها تتبدل من حيث المضمون. أي فيما تحمل من دلالات جوهرية بتبدل المجتمع الذي تتفاعل فيه. ولكي تكون الصورة هنا أكثر وضوحاً, علينا أن نميز بين معنيين مختلفين من معان القومية. فهي في المعنى الأول : مفهوم اجتماعي وثقافي واقتصادي يعبر عن هذه الرابطة الاجتماعية أو تلك التي تربط أفراد جماعة واحدة (قبيلة, عشيرة, طائفة, مذهب), أي هي أقرب لمفهوم الأمة. أما في معناها الثاني: فهي (قوة) سياسية دافعة خلاقة في جوهرها نحو تحقيق أهداف توحيدية. ففي المعنى الأول, هي مجرد رابط اجتماعي, وفي المعنى الثاني, هي قوة دافعة أو محرك لتحقيق هذا الرابط وتنميته أو الحفاظ عليه. وكلا المعنيين يرتبطان مع بعضهما بعلاقة جدلية ذات تأثير متبادل. أي هما وجهان لعملة واحدة هي القومية كمفهوم (حي). ومع ذلك يظل التساؤل  القائم هنا هو:

هل هناك مفهوم محدد للقومية بناءً على جملة المعطيات التي جئنا عليها؟.

     نقول على حد تعبير هيجل: ( التعريف يعني التحديد), ولطالما أن القومية كفكرة هي بناء فوقي, تُحدد طبيعته بوجود اجتماعي متغير ومتطور باستمرار, لذلك سيظل المفهوم في حالة حركة مستمرة أيضا, حيث نجده تارة يقوم هنا على البعد الاقتصادي, وتارة نجده يقوم هناك على البعد الاجتماعي, أو تارة أخرى على البعد الثقافي, بيد أنه يشمل كل هذه المقومات عند وصول الأمة إلى وعي الذات, أي إلى وعي نفسها بأن لها مقومات مشتركة ومصالح مشتركة وآمال مشتركة وتاريخ مشترك. وفي حالات كثيرة تتعطل حركة الوجود الاجتماعي في مراحل محددة من تاريخ الأمة بسبب ظروف سلبية داخلية أو خارجية, حيث يظهر مفهوم القومية في مثل هذه العطالة وكأنه في حالة ثبات. أي في حالة تطابق الوعي مع الواقع بمفهوم سلبي سكوني جامد وليس حركياً جدلياً. بيد أن حالة الثبات هذه ليست إلا تعبيراً عن حالة ثبات الوجود الاجتماعي لهذه الأمة, وهذا الثبات في الحقيقة ليس إلا نسبياً بسبب تخلف قوى وعلاقات الانتاج وما تفرضه من علاقات اجتماعية مطابقة لها,  لذلك ستظل هذه الأمة تُحضر نفسه دائماً لتغير جديد بالضرورة, وهذا ما يضفي صفة الصعوبة على تحديد مفهوم ثابت للقومية.

     جاء في المعجم الفلسفي ” الأمة” ترادف “القومية” أي قبيلة عشيرة, عرق .. شعب الخ. والقومية بشكل عام شكل تاريخي لوحدة “اجتماع” الناس. (1) أي هي كما يعرفه الفكر الحديث  التعبير عن حضارة معينة في لحظة تاريخية من تطورها. أي هي ليست حقيقة طبيعية تسعى بالضرورة عند ظهورها إلى تشكيل حالة أو جماعة سياسية.. إن مفهوم الأمة كفعل سياسي يدعو إلى الوحدة قد لا يجد تطبيقه الطبيعي في جميع الجماعات كما بينا قبل قليل, إنه حقيقة تاريخية أنطولوجية (وجودية) نعم, ولكنه لن يكون قوة فاعلة لتحقيق الوحدة عند هذه الجماعة التي لم تصل بعد إلى النضوج ووعي الذات. أي الخلاص من تخلفها البنيوي. أي وعي نفسها بأنه جماعة مورس عليها القهر والتجزئة والاستعمار والظلم والاستبداد, ولا بد لها ان توحيد مكوناتها حتى تحقق ذاتها بين الأمم.

      إذن مع تلك الصعوبة في تحديد مفهوم دقيق للقومية, تفرض علينا منهجية البحث أن لا نضع مفهوماً واحداً ومحدداً للقومية صالحاً لكل زمان ومكان.

     إذن, إن القومية في سياقها العام: هي الرابط أو مجموعة الروابط  التي تربط أفراد وجماعات الأمة الواحدة تاريخياً. وعلى أساس هذه الروابط تحدد طبيعة الحياة الروحية والمادية, بما تحمله من مكونات مثل الأرض والبنى النفسية والأخلاقية والثقافية والوعي والتقاليد وكل ما سياهم في مكونات هذه الأمة.

     ونظراً لتعدد الآراء في تحديد العامل الرئيس المؤثر في تكوين الأمة أو القومية, كاعتبار بعضهم عامل اللغة مثلاً, أو العامل الثقافي أو الاقتصادي أو التاريخي  وغير ذلك, هو العامل الوحيد أو الرئيس في بلورة وجود هذه الأمة أو القومية, تأتي الصعوبة في إعطاء مفهوم كامل وشامل للقومية.

     حقيقة إن ما يثبت كيان القومية هو العامل الملموس في الزمن الملموس. فالعامل الملموس هو الأقوى والأعمق في نفسية الشعب. والشعب هو نفسه الذي يقرر في النهاية مثل هذه الحقائق التاريخية, مدفوعا بعفويته لا بالعوامل التي يحددها الفلاسفة والمفكرون.. نعم إن الذي يحددها هي تلك الترسبات الاجتماعية الضخمة التي تصنع نفسية المجتمع., وتجعل هذه النفسية تُعبر عن نفسها بعفوية.

     إن الباحث الحقيقي هو الذي يستطيع أن يحلل مشاهد التاريخ. أي أن لا يتعامل معها بنظرة قبليّة أو سطحية أو ذاتية, بل بنظرة تحليلية عقلانية جدلية تتقصى الظاهرات أو المشاهدات في سياقها التاريخي في تقاليدها وتعدد ألوانها واتجاهاتها وتفاعلها.

     وبناءً على كل الذي جئنا عليه هنا, نقول: إن القومية موجودة وقائمة فينا مهما اختلفت أسباب قيامها, وهي قديمة ابتدأت مع بدء تكون المجتمعات المتحضرة, ومع بدء وعي الجماعة لذاتها كجماعة لها وجودها المادي والفكري الذي تعمل لتطويره والدفاع عنه. بها عرفنا الآشوريين والبابليين والفينيقيين والهنود واليونان والرومان والعرب. إنها قائمة فينا باستمرار, قد يشتد الشعور بها فتكتسب قوة تجعلها قوة فاعلة في التاريخ, فتصبح ظاهرة واضحة, حتى أنها لتطغى على بقية الظواهر والروابط الاجتماعية الأخرى دينية كانت أو عرقية أو قبلية. أو قد تضعف فتطغى عليها قوة أخرى تكون أكثر فاعلية وشدة, حيث تعمل على تذويبها وتنحيتها ومحاولة الحلول محلها مثل العشائرية والقبلية والمذهبية والطائفية والقطرية الخ.. ولكنها رغم ذلك  لن تنتهي أو تتلاشى كليا, بل هي تظل كامنة في اللاشعور, وقد تظهر إلى الواقع بقوة وتتحول إلى سيل جارف عندما تتوفر عوامل ظهورها الموضوعية والذاتية.

*كاتب وباحث من سورية.

[email protected]

1- المعجم الفلسفي – إصدار دار التقدم – موسكو.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.