أفول المثقف العربي: حسين مروة أنموذجا / د.هشام غصيب

 

أ.د.هشام غصيب ( الأردن ) الثلاثاء 22/9/2015 م …

لماذا اغتيل حسين مروة؟ ومن اغتاله أو ما الجهة التي أمرت باغتياله؟ وما الذي دفعها إلى ذلك؟ أين تكمن أهمية حسين مروة؟ ما مغزاه الفكري؟ لماذا أحست هذه الجهة الآثمة بضرورة تصفية علم فكري وباحث رصين جدي في النقد الأدبي والثقافي وفي الفلسفة وتاريخها؟ لماذا عدته خطراً ماثلا عليها ينبغي تصفيته جسديا؟ لدينا هنا مفكر رصين محكم يكتب للخاصة في جل الأوقات ويلتزم تماما بالمعايير البحثية والأكاديمية ويحرص على أن تكون لغته لغة بحثية دقيقة لا تحمل أي تحريض مباشر أو تجريح . فلماذا إذاً تقدم هذه الجهة على تصفيته جسديا بهذه الصورة البشعة، حيث أقدم الجناة على تصفية شيخ جليل بلغ من العمر عتيا (77عاماً) في منزله وأمام أنظار أفراد أسرته وبدم بارد؟ ثم إنها أتبعته بعد مدة وجيزة باغتيال رفيقه وتلميذه النجيب المفكر الكبير مهدي عامل. أليس الأمر غريبا؟ لماذا خص هذان المفكران المحكمان الكبيران، اللذان كانا يكتبان للخاصة، تحديداً بهذه المعاملة العدوانية؟

وإذا عدنا إلى ما كتب عن حيثيات عمليتي الاغتيال، ما وجدنا ما يشفي الغليل وتركنا حيارى نتكهن ونستغرب ونتساءل. فلم يجرؤ أحد ممن كتب عن هذه الملابسات والحيثيات، حسب علمي، على تحديد الجهة التي وقفت وراء هاتين العمليتين المشينتين، سوى القول إنها جهة طائفية ظلامية. هناك من يوجه أصابع الاتهام إلى حركة أمل وحزب الله، ولكن من دون أن يسوقوا أي دليل مقنع ومن دون تقديم أي تفسير مقنع. وهناك من يتهامس على استحياء بصدد تورط جهاز مخابرات عربي في ذلك، ولكن من دون تفصيل ونقاش. إنه لأمر محير. ما الخطب؟

وعوضا عن البقاء تائها في هذه الحلقة المفرغة، ارتأيت أن أقارب الموضوع عبر البحث في المغزى الفكري التاريخي لحسين مروة ومغزى عمله في سياق تاريخ حركة التحرر الوطني العربية في القرن العشرين.

وأبدأ بالملاحظة الآتية . شهد العقدان الأخيران تراجعا ملحوظاً في قوة العلاقة بين الفكر والواقع في الوطن العربي، أي في تأثير المثقفين والمفكرين العرب في الشارع العربي. وسيطر عليه إعلاميو الفضائيات وسياسيوها ورجال الدين (الكهنوت)، وجميعهم يتسمون بالضحالة والثرثرة والإثارة واللاعقلانية. لم يهبط منسوب العقل والفكر العربي مرة واحدة إلى هذا المستوى منذ بدايات القرن التاسع عشر. فلدينا اليوم نخبة من المثقفين والمفكرين والأكاديميين ضيقي الأفق قابعين في أبراجهم العاجية الشاهقة ومعزولين فيها عن الحياة يقابلهم شارع مستلب يحركة اللاعقل والظلام من أجهزة أمنية وكهنوت وسياسيين وإعلاميين مأجورين يحترفون التزييف والثرثرة السياسية والدينية. فشارعنا العربي اليوم واقع بين مطرقة الكهنوت ولاعقل الثورة المضادة وبين سندان النيوليبرالية الأميركية المتهافتة. والنتيجة المرة هي شلل الشارع العربي الناجم عن تغييب العقل والواقع والتاريخ.

وبالطبع، فإن الأمر لم يكن دوما هكذا. إذ كان لدى المفكر العربي فيما مضى ميل واضح صوب السياسة والتأثير فيها والتأثير في الشارع عبرها. هذا ما نلحظه بجلاء في مفكري النهضة. لكن نفوذ المفكر العربي ظل محدوداً لأنه وجد في الحزب النمطي العربي عائقا أمامه، بدلا من أن يكون جسره للوصول إلى برّ الشارع العربي. فقد اتسمت الأحزاب العربية بميولها البراجماتية ونفورها من الفكر المعمق. وانحازت صوب العقيدة والفعل التقليدي على حساب العقل والفعل الاستراتيجي. وسعت إلى إقصاء المفكر وعزله وتحييده، ولكن ضمن حدود. إذ ظل للمفكر دوره المهم. وظهر على تخوم الأحزاب مفكرون كبار (منيف الرزاز، سمير أمين، إلياس مرقص)، لكن أثرهم ظل محدوداً. وبدأ بعضهم يشق طريقة إلى قلب الأحزاب. وأخص بالذكر محمود أمين العالم وياسين الحافظ. لكن أوج هذه الظاهرة الجديدة في الحياة السياسة العربية تمثل في عملا قين فكريين : حسين مروة ومهدي عامل. إذ أفلحا في شق طريقهما إلى حزب عربي طليعي مؤثر وفاعل، هو الحزب الشيوعي اللبناني. ووجد هذان المفكران في هذا الحزب الجسر الأمثل للوصول إلى الشارع والجماهير. لم تكن الأحزاب العربية قادرة في السابق على استيعاب المفكرين الكبار في قلبها. لكن الحزب الشيوعي اللبناني في سبعينيات القرن الماضي بدأ يتحول بنيويا صوب بناء تلك القدرة الاستيعابية. وبدأ التواصل الجدلي بين الحزب والمفكر يأخذ دوره على الساحة العربية وبدأ يأخذ طابعاً بلشفيا لينينيا ويتمثل اللحظة اللينينية العظيمة في منطقتنا المنكوبة. فكان لا بد من وأد هذه الطاهرة في مهدها بتصفية رمزيها العملاقين.

واستغنمت قوى الثورة المضادة فرصة تراجع الحركة الشيوعية إثر صعود غورباتشوف إلى قمة هرم السلطة في الاتحاد السوفييتي. إذ اشتمت هذه القوى رائحة انهيار الاتحاد السوفييتي ونزاعه الأخير ورأته يترنح تحت وطأة إرثه المعذب المثخن بالجراح العميقة الغور، فاستغنمت لحظة ضعف الحركة الشيوعية العالمية من أجل تصفية هذين المثقفين العضويين، فاصمة بذلك عرى الترابط والتواصل بين المفكر والشارع، ومهمشة الأحزاب ومجردة إياها من مضمونها النهضوي التاريخي. وبالفعل، فبعد اغتيال الشهيدين الكبيرين وما تلاه من أحداث جسام، خيم على الشارع العربي الظلامية الدينية والضحالة النيوليبرالية الأميركية، وتحول مرتعا للكهنوت والساسة الانتهازيين وإعلاميي الفضائيات المأجورين، وانزوى المفكرون في أبراجهم العاجية وجامعاتهم المعزولة عن مجتمعاتها بأسوار غليظة شاهقة.

ولكن، ما الذي كان يسعى إليه الشهيدان ومن ورائهما قوى مؤثرة في الحزب الشيوعي اللبناني؟

يبدو لي أن الشهيدين كانا يسعيان إلى بلشفة الحزب الشيوعي اللبناني، أي تحويله إلى حزب مفكر وجماهيري في آن. كانا يسعيان إلى تحويل الحركة الماركسية العربية إلى حركة تحرر وطني شاملة على غرار ما تم في روسيا والصين وكوريا وفييتنام وكوبا، أي تحويلها من مجرد ملاذ مطلبي لفئات وأقليات مهمشة إلى حركة نهوض جماهيرية شاملة تمثل الأمة برمتها. وبلغة غرامشي، فقد كانا يسعيان إلى خلق الشروط العلمية والثقافية لإحراز الحزب الشيوعي اللبناني الهيمنة في المجتمع اللبناني، تمهيداً لهيمنة الحركة الماركسية عربيا. لذلك فقد أرادا أن يستوعبا نظريا وماركسيا الوضع العربي برمته، ماضيا وحاضراً وآفاقاً مستقبلية. لقد أرادا أن يحولا الأحزاب الشيوعية العربية من أحزاب نخبوية مطلبية ملحقة بما يسمى البرجوازية الوطنية ومشروعها المزعوم إلى حركة حضارية تاريخية شاملة تقود الجماهير العربية صوب الوحدة والاستقلال والتقدم الحضاري. لذلك وضع الشهيد حسين مروة نصب عينيه تملك التاريخ الفكري العربي الإسلامي بوحدته الثقافية برمته، وهو مشروع تعجز مؤسسات بكاملها عن تحقيقه. أما مهدي عامل، فقد انبرى لتملك الواقع العربي الراهن بنيويا من جميع أوجهه، أنماط إنتاج وبنى سياسية وآيديولوجية. إنه بالفعل لمشروع مذهل من حيث طموحه واتساع نطاقه.

وفي هذا السياق نتساءل: لماذا شعر الحزب الشيوعي اللبناني عام 1968 بالحاجة إلى تكليف مفكره الكبير، حسين مروة، لكتابة دراسة عن التراث العربي الإسلامي؟ والعام 1968 بالطبع هو العام الذي انعقد فيه مؤتمر مفصلي للحزب الشيوعي اللبناني شكل انعطافة كبرى في تاريخه وصيرورته حركة تحرر وطني شاملة. كذلك، لماذا شعر حسين مروة بالحاجة إلى قضاء عشر سنوات كاملة من البحث المضني لكي يضع ما أسماه “تقريره” عن التراث العربي الإسلامي ويقدمه إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني عام 1978؟ عشر سنوات من العمل الذهني الشاق من أجل وضع تقرير فكري فلسفي تاريخي. هل شهد وطننا الحديث مثيلا لهذه الجدية الفكرية والآيديولوجية، التي أبداها كل من الحزب الشيوعي اللبناني وحسين مروة؟! لماذا شعر كلاهما بضرورة تملك التراث بالمنهجية الماركسية، التي تحمل في طياتها القدرة على النفاذ إلى قلب الواقع؟

وهنا نأتي إلى ما أسماه ياسين الحافظ الوعي المفوت. وهو الوعي الذي ما زال مهيمنا في الوطن العربي اليوم على صعيدي النخب والشارع . وهو وعي غير قادر على رؤية الطبيعة والتاريخ على حقيقتهما وفي حقيقتهما. فآيديولوجياته اللاهوتية تحجب عنه العقل والطبيعة والتاريخ . لذلك فهو لا يمارس فعله في الواقع الحقيقي، وإنما في عالم متخيل فقير وهزيل. وهو وعي ما قبل علمي في بنيته الداخلية. كما إنه ليس وعيا حرا، وإنما هو وعي مكبل يكبله ماضٍ وهمي متخيل (أي تراث وهمي له جذور في التراث الفعلي) وحاضر وهمي صنعته وسائل الإعلام والثقافة الغربية وامتداداتها العربية الحديثة. وتحيط بصورة هذا الماضي هالة من القدسية، فيما تحيط بصورة هذا الحاضر هالة من الهيبة الشيطانية. وكلتا الصورتين تحولان دون نفاذ الوعي إلى سرهما المتمثل بالواقع الفعلي. وبالطبع فإن هذا الوعي المفوت المكبل مشلول الفعل والإرادة، ومن ثم يحول الشارع والجماهير إلى مجرد موضوع سكوني مفعول فيه، ويحول دون تحوله إلى ذات متحركة فاعلة تصنع التاريخ. لذلك فإن المهمة الأولى الملقاة على عائق حزب التغيير هي فك إسار هذا الوعي وتحريره مما يكبله ومن ذاته، ومن ثم إدخاله في سيرورة ثورة ثقافية تفككه وتعيد تركيبه على أسس حداثوية تقدمية. لكن ذلك كله يستلزم تملك حزب التغيير منهجية النفاذ إلى قلب الواقع الفعلي، واقع الماضي الفعلي وواقع الحاضر الفعلي. وعملية التملك هذا ليست بالمسألة اليسيرة والسهلة، وإنما تستلزم معاناة ومكابدة فكريتين ووجدانيتين عميقتين. وهذا ما حققه حسين مروة ومهدي عامل بتملكهما المنهجية الماركسية بصفتها أداة النظر إلى قلب الواقع مقدمة لتغييره في اتجاه حل تناقضاته. لقد أفلح هذان المفكران الكبيران في تملك هذه المنهجية واستعمالها بطريقة مبدعة ومبتكرة لسبر أغوار الماضي والحاضر. وكان على حسين مروة تحديداً سير أغوار التراث العربي الإسلامي بهذه الأداة الماركسية المتميزة من أجل الكشف عن حقيقته وقيمته الحقيقية ومسوغاته وبوصفه تراثا فكريا إنسانيا عظيما ترك أثره العميق على مسيرة الحضارة البشرية. كان عليه أن يكشف الأساس الإنساني التاريخي لهذا التراث ويفهمه بوصفه نتاجا بشريا تاريخيا، ومن ثم يسلط الضوء على أبعاده العقلانية والمادية والعلمية المغيبة تماماً شرقا وغربا. كان عليه أن يفعل ذلك كله من أحل تفكيك الصورة الغيبية المثالية للتراث، تلك الصورة المتخيلة الوهمية التي تربض بثقلها على الوعي العربي فتخنقه وتكبله وتمنعه من رؤية الواقع والفعل فيه وتغييره. لقد خلقت الثورة المضادة العربية، التي سيطرت على وعينا تماماً منذ ستة قرون، هذه الصورة الوهمية لتراثنا وكبلت الوعي العربي السائد بها. ومالت هذه الصورة إلى تغييب الأساس الإنساني التاريخي لهذا التراث وطمس عناصر العقل والمادية والعلم فيه، مدعمة بذلك الصورة الاستشراقية النمطية التي غيبت العناصر ذاتها، ولكن من الزاوية المقابلة. فالصورتان تحاولان أن تؤكدا عجز الإنسان العربي، وبخاصة عجزه عن أنتاج علم وعقل متقدم. فالدين للشرق والعلم للغرب، وفق الصورتين كلتيهما. لكن حسين مروة يدحض الصورتين في آن بإظهار الأساس الإنساني التاريخي للتراث العربي الإسلامي ونزعاته العقلانية والمادية والجدلية والعلمية. كما إنه يدحض بمنهجه المادي التاريخي الجدلي مقولة أن العرب كانوا مجرد نقله وكلب حراسة ، وأن الفلسفة والعلم في حضارتنا كانا مجرد وافد مستورد من الحضارات الأخرى وأنهما لم يتوطنا بعمق في حضارتنا، ومن ثم أن العرب لم يحققوا أي جديد فيهما. إنه بالفعل يرد الاعتبار إلى علم الكلام والفلسفة والتصوف العربية الإسلامية بوضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي. إذ تبدو الفلسفات العربية متشابهة أحيانا إلى حد التماثل . بل وتبدو نسخة طبق الأصل عن أرسطو مطعمة بعناصر من أفلوطين. إنها لتبدو كذلك على السطح. ولكن ما إن يضعها المرء في سياقها الطبقي التاريخي حتى تتكشف للمرء أعماق وطبقات تميزها تماما عن بعضها بعضا وعن الفلسفة الإغريقية. ومن ذلك تنبع أهمية الماركسية في دراسة التراث الفكري. فهي تضيء الأعماق والعناصر المستترة المغيبة والتي تكسب الكل معنى ومغزى.

ويمكن أن نكمل مشوار حسين مروة الطويل بربط تراثنا العربي الإسلامي بتراث المنطقة القديم السابق عليه، تراث البابليين والكنعانيين والآراميين والمصريين والهلنستيين والفرس، واعتباره امتداداً واستمراراً لذلك التراث القديم. عند ذاك يتضح لدينا أن العلم الدقيق والعقلانية الفلسفية نشآ في منطقتنا وعالمنا العربي ونضجا فيه أيضا، وبخاصة في المرحلة العربية الإسلامية، التي انصهرت في بوتقتها وتوحدت سائر العناصر الحضارية القديمة. لكن هذا العقل النظري العربي ظل مقصوراً على جيوب متفرقة مكانيا وزمانيا ولم يتح له أن يطغى . وحوصر من جانب قوى الثورة المضادة ولاعقلها اللاهوتي. فكانت النتيجة أن أخفقت حضارتنا، التي تمتد إلى الوراء لعشرة آلاف عام، في تخطي العقلانية الفلسفية القديمة صوب العقلانية العلمية الحديثة والثورة العلمية الكبرى. كما إن الحصار على هذه الجيوب اشتد حتى أفلح في خنقها، فانطفأت في بلادنا وتلاشت تماماً ولم تترك أثراً في حضارتنا في الأعوام الأربعمائة الأخيرة. فكان أن انتقلت شعلة الحضارة من منطقتنا إلى أوروبا الشمالية لأول مرة في التاريخ، بعد أن ظلت منطقتنا مركز الحضارة العالمية لعشرة آلاف عام. ولئن انطفأت جيوب العلم الدقيق والعقلانية الفلسفية القديمة في منطقتنا من دون أن تترك أثراً على حاضرنا وماضينا القريب، فقد ترسخت في تربة أوروبا الرأسمالية الصاعدة ونمت بتسارع مذهل حتى قوضت أركان الإقطاع والحضارة التقليدية . لقد انهزمت العقلانية العربية في ديارها، لكنها انتصرت في أوروبا الرأسمالية الصاعدة. وكان هذا الانتصار مقدمة لتخطيها صوب عقلانية أكثر تطوراً وارتقاء، العقلانية العلمية. لقد كان حريا بكوبرنيكوس، مفجر الثورة العلمية الكبرى، أن يكون عربيا، لكن مكر التاريخ جعله بولنديا.

وهكذا، فإن مهمة كبيرة تنتظر من يحققها: تخطي الوعي المفوت وتملك ما فقدناه، أعني العقل، ولكن بصورته الحديثة العلمية. وهذا بالضبط ما بدأه الشهيدان الكبيران: حسين مروة ومهدي عامل . فلنسر على خطاهما ونستأنف مسيرتهما ونكمل مشوارهما رحمهما الله.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.