وجهة نظر في أسباب تناقص أعداد المسيحيين في شرقنا العربي / حنا ميخائيل سلامة نُعمان

حنا ميخائيل سلامة نُعمان* ( الأردن ) السبت 7/12/2019 م …




   لا ننفكُ نقرأ مقالات يتمُّ الإشارة فيها إلى تناقص أعداد المسيحيين في شرقنا العربي، كما تُعقد الندوات فنجد فيها تشكِّياً، بل استبكاءً في حالاتٍ، لما آل إليه الحال! ويُصار إلى التركيز على أنَّ مَرَدّ ذلك وسببه يعود لهجرة المسيحيين من أوطانهم إلى بلاد الغُربة البعيدة، ويتم اعتبار أن جميع مَن هاجر كان محصلة للخوف والرَّهبة لِما وقع في دولٍ عربية من قلاقل ونزاعات أخذت مظهراً طائفياً مُتزمتاً أو دموياً في أماكنَ. على ما سبق أقولُ لقد آن الأوان أن يتمَّ تبيان وجلاء الأسباب الرئيسية الكامنة وراء إنخفاض أو تناقص أعداد المسيحيين في المشرق العربي بصراحة وشفافية؟ ذلك أن إطلاق الكلام على عواهنه أو بشمولية صار لدى فئة وكأنه يهدف لتسجيل مواقف، ولدى آخرين بهدف إستدرار العطف والشفقة والتَّحنان ربما لتحقيق مآرب معينة وهذا ما يجدر أن يتوقف إذ لم يَعُد مُستساغاً!

   أؤكِّد بدايةً أنّ مسألة تناقص أعداد المسيحيين مقابل نسبة أعداد إخوانهم المسلمين في الدول العربية ليست وليدة هذه السنوات فقط إنما هي مُمتدة لعقودٍ من الزمن.  وعليه فإن من الأهمية بمكانٍ كبيرٍ الإشارة بهذا الصدد إلى أنَّ مِن الثوابت الإيمانية المسيحية الراسخة التي لا نحيدُ عنها ولا نجادل فيها، بل ونسير بثباتٍ وقناعة بمقتضاها، أن تعاليم السيد المسيح تمنع تعدد الزوجات وقد جاء هذا صريحاً واضحاً بردِّ السيد المسيح على سؤال الفريسيين: “هل يحلّ للرَّجُل أن يُطلق امرأتَه لكل عِلةٍ؟” حيث جاء ردّه القاطع:” أمَا قرأتم أن الذي خلقَ الإنسانَ في البدءِ ذكراً وأنثى خلَقَهُم؟ وقال: “لذلك يترك الرَّجُل أباهُ وأمَّهُ ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً، فليسا هُما إثنينِ بعدُ ولكنهما جسدٌ واحدٌ وما جمعَه الله لا يفرِّقُه إنسانٌ”. وهنا ينبغي أن أوضِّح وأُؤكِّد إلى أننا نحترم ولا نجادل أو ننتقص من تعاليم أية ديانة أو شريعة تبيح تعدد الزوجات بشروطٍ معلومةٍ لديها، أو الطلاق والتحلل من قيد الزواج لإتمام غيره ضمن شروطٍ معلومة أيضاً. على ضَوءِ ما سبق فإن زواج الشخص المسيحي بامرأة واحدةٍ يترتب عليه إنجاباً منها فقط، يُضاف إلى هذا كما نلاحظ جميعاً أن الزوجين لم يعودا كسابق العهد يُنجبان نسلاً كثيراً فتراهما يكتفيان بطفلين أو ثلاثة وذلك لاختلاف نمط الحياة والمعيشة والمطالب المادية ولارتفاع جُملة المصاريف المطلوبة لتنشئة الأطفال مِن غذاء وتربية وعلاج وتعليم وغير ذلك، بينما في ماضي السنوات ولعدم وجود أية مصاريف تُذكَر تُثقل كاهل الزوجين كانت الأم تُنجب الطفل تِلوَ الآخر فيَصِلُ العدد لنحو ثمانية أطفال في المُعدَّل، وهذا بمجمله من البديهي أن تكون محصلته مع السنوات إنخفاضاً في النسبة السكانية للمواطنين المسيحيين أمام النسبة السكانية لإخوانهم المواطنين المسلمين. إن الحقيقة الساطعة أمام الجميع التي أوردتها بصراحةٍ هنا لا يتم ذكرها في حديث أحدٍ وكأن هناك حَرَجاً في الحديث عنها والإشارة إليها!

   كما أننا لا ننفك نتابع ما تصرح به فئة جعلت من نفسها دونَ تنسيبٍ مِن أحد ناطقة باسم المسيحيين العرب، أنَّ انخفاض أعدادهم في الدول العربية يعود للهجرات إلى بلاد الإغتراب بسبب الخوف والرَّهْبَة والارتعاد والوَهَن لِما وقع في السنوات القريبة في دولٍ عربية من قلاقل ونزاعات أخذت مظهراً طائفياً مُتزمتاً وسُفكت فيه دماء. على هذا أقول إن إظهار المسيحيين العرب بمظهرِ الخُـوَّفِ المُرتعِدين الضُّعفاء المُتزعزعين يُجانب الحقيقة ويُخالف شهادة التاريخ على مر العصور. ذلكَ انَّ المسيحيين قد تعرضوا منذ انطلاق ديانتهم في وسط المجتمع اليهودي والوثني وفي ظل الإمبراطورية الرومانية التي كانت تُحكِم قبضتها على المنطقة والعالم كله وغيرها من أنظمةٍ مُستبِدَّةٍ لأشد أنواع الإضطهادات والمجازر والقَهر والطغيان ومع هذا صمدوا ببسالةٍ على أرضهم وتمسكوا بإيمانهم وتشبثوا بتضحيات قدِّيسيهم الشهداء الذين رَوَّوا بدمائهم أماكنَ لا حصر لها وقد وضعوا نُصب أعينهم قول السيد المسيح ” في العَالم سيكون لكم ضيق، لكن ثقوا أنا قد غلبت العَالم”.  أجَل، لسنا ننكر حصول هجرات خلال السنوات المنصرمة لكنها ليست كلها وبمجملها بسبب الحوادث المؤلمة المؤسفة التي وقعت كما تُصرح الفئة الآنفة الذِّكر. ولنَكُن مُنصفين بالقول إنَّ نسبة غير ضئيلة من المهاجرين لدول أوروبية أو لأمريكا وغيرها آثرَت – ولها الحرية دون شكٍ ونحترم ما قرَّرت – تحقيق طموحاتٍ في معيشة أفضل ولإيجاد فرص عملٍ وما غير ذلك، إذ تناهى لمسامعها ما تقدمه تلك الدول من تسهيلات وحوافز فأقدمت على الهجرة، كما أن نسبة مِمن هاجر كان بهدف الالتحاق بأقرباء وبتحفيزٍ منهم، ومثلهم مَن سافرْنَ للإنضمام لشركاء حياتِهنَّ وعُمرهِنَّ ولا يدخل هذا تحت مسمى الخوف والإرتعاد! لا يصح التعميم إذن والقول إن تناقص أعداد المسيحيين العرب يعود للهجرات لدول العَالم فحسب.. آخذين بعين الإعتبار أن نسبة ساحقة تركت مدنها وقراها وآثرت الانتقال أو الرحيل لمُدنٍ آمنةٍ في داخل دولها نفسها بما لا يعني تناقصاً في العدد، والحال عينه لمن انتقلوا من بلادهم إلى دول عربية مجاورة في هجرةٍ مؤقتةٍ إلى أن تستقر أحوال دولهم، وهذا يعني البقاء في حِياض البلاد العربية عينها وبالأعداد نفسها بما لا يُعد سبباً لتناقص نسبة المسيحيين في شرقنا العربي.

* كاتب وباحث

[email protected]                                                                       

 

   

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.