الحركة الشعوبية والفكر القومي العربي / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الخميس 12/12/2019 م …
* مفكر وباحث وأكاديمي سوري
مع قيام الخليفة المتوكل عام (232 هـ) بوضع تاج الخلافة على رأس القائد العسكري التركي “إشناس”, فقد العرب سلطتهم السياسية في دولة الخلافة, وتراجع كل ما يتعلق أو يرتبط بحياة العرب في مضمار هذه الخلافة اقتصاديا, وثقافيا. بينما راح الأعاجم تاريخياً بكل أشكالهم وتلاوينهم وانتماءاتهم, من (فرس وديلم وبويهيين وأتراك وسلاجقة ومماليك وتتر ومغول وأغز وصفويين وعثمانيين), يتقدمون ويفرضون نمط حياتهم وحضارتهم على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية, وإلى حد ما الاجتماعية, في الدولة أو الخلافة التي يمكننا أن نسميها آنذاك العربية الإسلامية مجازاً.
هنا بدأت الشعوبية تمارس نشاطها الثقافي/ القومي بجدية وحيويّة على الدولة والمجتمع.
إن الشعوبية في أساسها حركة قومية اعتمدت خطابها السياسي والثقافي سلاحاُ لها ضد العرب. وأبرز ما يميز مرحلة الحراك الشعوبي, هو ردود الفعل العربية تجاهها, إذ راحت النخب المثقفة العربية ومن يوالي العرب ولأول مرة في التاريخ العربي تعمل على تأكيد ذات العرب (قومياُ) بشكل واعٍ عن طريق إظهار سمات وخائص العرب في مواجهة الحركة الشعوبية التي أرادت النيل من هذه السمات والخصائص. وعلى أساس هذه المواجهة, راحت النخب العربية المثقفة تؤلف الكتب حول أهمة اللغة العربية ودورها كلغة للقرآن والفقه. كما أخذت تركز على الشخصية العربية وإبراز تمايزها ونبالتها أمام غيرها من الشعوب, وخاصة شعوب تلك الشخصيات المعادية أو الممثلة لتيار الشعوبية, كما كانت العودة إلى التراث العربي مثل الشعر والحكم والأمثال العربية, والبحث فيها عن أصالة العربي وقيمه. فهذا الجاحظ يرد في كتابه “البيان التبيين” وهناك “الأصمعيات والمفضليات” للأصمعي وللضبي. أما في كتب التاريخ, فكان هناك كتاب “المعارف” لابن قتيبة. وكانت هناك كتب الأنساب مثل” أنساب الأشراف وفتوح البلدان” للبلاذري.(1)
لقد كان لردود الفعل العربية في مواجهة الشعوبية دور بارز وإيجابي على العرب, فالكتاب الذين تصدوا للشعوبية, استطاعوا لفت الانتباه إلى مقومات الأمة العربية ودورها التاريخي وثقافتها وقيمها كما أشرنا أعلاه. وبذلك وضعوا الارهاصات الأولية للوعي القومي العربي, وكرسوا مفاهيم وقيماً تؤكد دور هذه الأمة التاريخي, مثلما استطاعوا باشتغالهم هذا, وما تضمنه من محرضات تتعلق بمسألة العروبة, تأكيد مقدرة هذه الأمة على لعب أدوار في تاريخها اللاحق, ولا سيما الحديث والمعاصر في مواجهة الغزو العثماني والأوربي. فمواقف العرب اللاحقة استطاعت عمليا تأكيد أصالة هذه الأمة والقدرة على استمراريتها رغم كل التحديات التي تعرضت لها عبر تاريخها الطويل.
لا شك أن وضعية الصراع بين العرب والشعوبيين تحت مظلة الخلافة في العصور الوسطى, أدت إلى انتصار الشعوبية سياسياُ, أما ثقافياً فقد ظلت اللغة العربية هي اللغة السائدة وبها وبخطها كتبت الشعوب الغازية أو المنضوية تحت مظلة الخلافة العربية الإسلامية. أما جنسياُ فقد ظل العرب جنساً متفوقاً حتى في نظر قادة هذه الحركة من الشعوبيين الذين كانوا على هرم السلطة, بسبب انتساب الرسول للعرب. وهذا ما جعل “عضد الدولة” البويهي المسيطر سياسياُ على بغداد (367- 372) هـ , يفرض على “أبي اسحق الصابي” أن يضع له نسباُ عربياً, ففعل ذلك تحت التهديد(2).
ومن الطرافة القول هنا: إن مسألة الانتساب للعرب أو لبيت الرسول, لازالت قائمة وبحيوية في تاريخنا الحديث والمعاصر, لدى المجتمعات العربية ورجال سياساتها. فهذا ابراهيم باشا الألباني عندما احتل بلاد الشام وقف يخطب بجمهور من استقبله في أول منطقة احتلها قائلاً: (أنا عربي وشمس مصر صبغتني بالصبغة العربية.). ولا نستغرب أن صدام حسين وعبد الناصر أكدا نسبهما لبيت الرسول… بل إن السيد حسن نصر الله أعلن أن الامام الخميني وكذلك الخامئني يعودا بنسبهما إلى العرب وإلى آل البيت حصراُ!!. أما على مستوى العائلات العربية فما تزال تتفاخر بأنسابها, وغالباً ما تجد الكثير من هذه العائلات تحتفظ بشجرات أنسابها معتزة بها..
إن ضعف الدولة العربية الإسلامية وتمزيقها, وظهور الإمارات والدويلات شبه المستقلة, أو المستقلة كلياُ عن الخلافة في العصور الوسطى, ثم ما أفتى به بعض رجال الدين لسلطة الأعاجم من حيث قونونة أو شرعنة السيطرة على السلطة بـ “الغلبة” حتى ولو كان أعجميا, أو لو كانت البيعة بموافقة شخص واحد فقط, كما فعل الماوردي في “الأحكام السلطانية” وغيره من الفقهاء الذين اشتغلوا على هذه الأحكام, وذلك لخلق تسويات تجاري أمر الواقع العملي إقراراً لواقع الحال, الأمر الذي أدى إلى إضعاف الشعور العروبي, كما جرى مثلاً في القرنيين الهجريين الثالث والرابع. فمع قيام الامارة “الطاهريّة” و”الصفاريّة” و”السمانيّة”, بدأ النثر والشعر يكتب باللغة الفارسية الحديثة. (3). فكان ذلك بداية ضعف الثقافة العربية والحس القومي العربي, وبالتالي التشجيع على ظهور هويات شبه مندثرة راحت تشكك بالعرب والإسلام نفسه. (4).
حقيقة إن مفهوم العروبة, قد مر بحالة من التطور والتبدل, ففي إطار الدولة العربية الإسلامية, تطور مفهوم “الأعراب” من حالة اجتماعية, (قالت الأعراب آمنا), إلى حالة “لغوية” كما في حديث الرسول: (العربي هو من تكلم العربية), ثم إلى حالة “عقيدية” ” أمة الإسلام”, وخاصة مع تعمق الدعوة الإسلامية وانتشارها.
لقد ظل مفهوم القومية سائباً ومتوتراً حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر, وخاصة الربع الأخير منه. ولكن بسبب السياسية المليّة للدولة العثماني تجاه الأقليات الدينية وخاصة المسيحية, ثم موقف الدولة العثمانية ذاتها من العرب مع ظهور النزعة الطورنيّة لديهم. ساهم في دفع الأقليات الدينية ومعهم الكثير من المثقفين العرب التنويريين أن يتجهوا باتجاهين لتأكيد ذاتها هما:
الأول: توجه بعض الأقليات نحو الفكر اليساري وتشكيل الأحزاب الشيوعية.
الثاني: وفيه توجه الكثير من النخب العربية من المسيحيين والمسلمين العرب نحو تبني الفكر القومي في صيغته المعاصرة التي طرحها الغرب مع صعود الطبقة البرجوازية في أوربة.
وهذا التوجه يحتاج منا النظر في آلية تشكله وتطوره ودرجة فهم حوامله الاجتماعيين له, ما بين من حركته العاطفة لهذا الاتجاه, وبين من سار لخدمة الغرب لاضعاف الدولة العثمانية. وما بين من فهم السيرورة والصيرورة التاريخيتين العقلانيتين لهذا المشروع.
كاتب وباحث من سورية
كل المقالات التي نشرتها حول الفكر القومي. يمكن الاستزادة بالعودة إلى كتابنا (إشكالية النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط – ط1 دار المدى – دمشق – 1997.) وكذلك الطبعة الثانية – دار التكوين – دمشق – 2006.
الهوامش”
1- عبد العزيز الدوري – التكوين التاريخي للأمة العربية- دراسات الوحدة العربية – ط3- 1986 ص101 وما بعد.
2- المصدر نفسه.
3- المرجع نفسه ص99.
4- عبد الرحمن بدوي – تاريخ الحاد في الإسلام –مكتبة النهضة – 1945.
التعليقات مغلقة.