الحريري يلغي زيارته لموسكو بعد أن رفض بوتين استقباله
الأردن العربي – الإثنين 16/12/2019 م …
كتب عبدالله قمح …
يتعامَل رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري مع روسيا كما وأنّها “بقرة حَلوب” مطلوبٌ منها أن تعطيه لبنًا في المقابل لا يفترض عليه أن يمنحها أيّ شيء.
“فعل المنح” موضع الاشارة هنا ليس من قبيل التخلي عن مكتسباتٍ أو أوراقٍ سياديّةٍ “رنّانةٍ” كتلك التي يُجيز منحها مثلاً إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، إن على صعيدِ موقفه الشخصي أو ذاك الرسمي، بل نشير إلى قضايا ذات إهتمام مشترك بين البلدَيْن ما تزال مُحتَجَزة في “جوارير السراي” منذ أعوامٍ بقرارٍ ذاتيٍّ منه.
منذ مدّة، يُحاول سعد الحريري أخذ روسيا شريكًا سياسيًّا إلى جانبهِ، وهو لم يبخل في إستغلال حضورِ ونفوذِ أي مؤسسة أو علاقة شخصية يحتفظ بها في موسكو ويتودَّدَ إليها لنيل هذا المكسب، لكنه دائمًا ما يصطدم بحقائقٍ روسيّةٍ واضحة المعالم لا تُجيز لهذه الدولة بناء شركاتٍ وفقَ حساباتٍ شخصيّةٍ بل تميل أكثر صوب تأمين علاقاتٍ من دولةٍ إلى دولة.
خلال الأعوام الماضية، قامَ الرئيس الحريري بأكثر من زيارة إلى روسيا التي كرَّمَته وأعطته المواعيد مع كبارِ أركان السلطة هناك، حتى أنّها تصرَّفَت معه في كثيرٍ من اللقاءاتِ وفق بروتوكولات التعامل مع رؤساءِ الدول لا رؤساء الحكومات. في المقابل، كان الحريري يقدِّم إليها عسل الوعود التي تتبخَّر حالما تهبط طائرته على مدرجِ مطار بيروت.
والمشكلة تكمن، في أنّ الحريري الذي يُبرِّر تصرّفاته على أنّها تأتي من وراءِ ضغوطاتٍ، لا يكتَرث لاحتمالاتِ تخريب العلاقة بين لبنان وروسيا بفعل تصرفاته وتردّده الدائم ونكثه العهود، إن على صعيدِ تطبيق المعاهدات أو تنفيذِ الاتفاقات، بل على العكسِ، يمضي قدمًا في سياسة التجاهل ومن ثم يعيد التعاطي مع روسيا وكأنّ شيئًا لم يكن!
التجربة الروسية مع سعد الحريري “مُرَّة”. أكثرُ من مصدرٍ خبيرٍ في الشؤون الروسيّة ببيروت، يلهج بذكر هذه العبارة، لكن ومع ذلك لا تقتطع موسكو شعرة معاوية مع رئيس حكومة لبنان، ليس لأنه سعد الحريري أو لأنها تخشى على العلاقة معه! بل لكونه يمثل دولة ترى موسكو فيها شريكًا استراتيجيًّا مستقبليًّا في المنطقة.
لكن روسيا، ليست تلك الدولة الطوباوية التي تسكت عن ممارسةِ خداعٍ سياسيٍّ أو ألاعيبٍ معها. هي تملكُ ترف اختيار طريقة الردِّ على أيّ جهةٍ لا تُقيم وزنًا لقيمةِ العلاقات معها، ولو أنّها لا تمارس عملية الثأر والانتقام والابتزاز كما تفعل الولايات المتحدة، لكنها تعلم جيدًا متى يجب عليها بعث الرسائل.
قبل أيّامٍ، أصدَرَ الحريري اعلانًا، بإلغاءِ زيارته التي كان مُقرَّرَة إلى روسيا بين 16 و17 كانون الأول الجاري. رئيس حكومة تصريف الأعمال وجدَ في الظروفِ السياسيّة الراهنة سببًا مُقنِعًا يقنّص به البعض كتخريجةٍ تُبرِّر واقعة الإلغاء.
كثيرون، لم يقتنعوا بحججِ الحريري، خاصةً، اولئك المتابعون جيّدًا للشأن الروسي في بيروت الذين يتحدَّثون دومًا عن “جفاءٍ” واضحٍ يطبع العلاقة بين رئيس مجلس الوزراء المستقيل والقيادة الروسية. وإلّا، لماذا يلغي الحريري زيارة يعمل على ظروف إنجاحها منذ شهر أيلول الماضي، واستنفرَ من أجل ذلك علاقاته في موسكو وادوار مستشاره للشؤون الروسية جورج شعبان؟
في اعتقادهم، أنّ الجفاءَ هو السببُ الواقعي والفعلي في إتخاذِ قرارٍ مماثلٍ ولو أنّ الحريري حاولَ إشاحة النظر عن الأسباب الحقيقيّة عبر تسريبِ أجواءٍ إيجابيّةٍ توحي بمتانةِ العلاقات بين الجانبَيْن.
في الغالبِ، جذورٌ عميقةٌ وراء هذا الجفاء رسَّخَت التباعد كنتيجةٍ طبيعيّةٍ لسياسةِ الإنكار التي يعتمدها الحريري مع روسيا ونكثه المستمرّ بالعهودِ المقطوعة معها على الصعدِ كافة، ليس آخرها إتفاقية التعاون العسكري التقني بين البلدَيْن، لا بل ثمّة من يعتبر أنها النقطة التي فاضت بها الكأس.
أضف إلى ذلك، أنّ طبيعة العلاقة بين الجانبَيْن لم تبرح خانة إمتحان النوايا، المضمر منها والمُعلَن. وروسيا، كما يقال في بيروت، لم تلتمس يومًا جدية لدى الحريري في بناءِ علاقةٍ متوازنةٍ من دولة إلى أخرى بل كانت تستشعر وجود استثمارات ذات منفعة شخصية.
أكثر من مرّة، سمع الحريري عبارات من هذا الوزن خلال زياراته إلى موسكو. مستشاره جورج شعبان يسمع أمورًا مشابهة في كلّ مرة يجري لقاء مع أي مسؤول روسي، وهو بدوره ينقل إلى الحريري أنّ روسيا ليست دولة تتمسَّك بالاشخاص، لكن الحريري يصرّ على تجاهل ذلك كلّه والايعاز بتسريب إهتمامٍ روسيٍّ بإعادة تكليفه لتشكيل حكومة جديدة!!!
في الحقيقة، ثمة من يقول في بيروت، أنّه لم يكن هناك داعٍ لزيارة مماثلة إلى موسكو ما دامت الأخيرة تتعامل بحذر مع رئيس حكومة تصريف الأعمال. الحريري يعلم ذلك، مع المحيطين به، لكنّه إستمرّ بإستخدام سياسة الانكار نفسها، محاولاً تأمين مواعيدِ لقاءاتٍ مع القيادة الروسية متجاهلًا الظروف السلبيّة كلّها.
أكثرُ من مصدرٍ متابعٍ للشأن الروسي، يتحدَّث عن “برنامجِ عمل فارغ” أتاحَ نسف الزيارة من أساسها، فلا شيء كان مميزًا أو مُلفِتًا يستجلب إنتباه القيادة الروسية كي تعطي المواعيد على أساسه، والحريري لا يحمل أيّة مشاريع جديدة، وجلّ ما يريده، هو زيارةٌ من أجل الزيارة.
ربما تعتبر موسكو، أنّ الغاية من الزيارة، منح الحريري جرعة دعمٍ نفسي. لذا، فهي “ليست كاريتاس أو مؤسسة إجتماعية”، بل إنّ موقفها في الحقيقة حيال لبنان، لا يختلف عن دعوات بعض الأوروبيين حول تشكيل حكومةٍ وتأمين إصلاحاتٍ عميقةٍ.
وفي تقدير المتابعين، أنّ الحريري لم ينجح في تأمين مواعيد دسمة كإجراء لقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو رئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف. وعلى الأرجح بوتين لم يمنح موعداً على هذا الوزن. لذا حكمَ الحريري على الزيارة بالفشل، وإلّا لماذا يتخذه قراراً بالإلغاء وهو في أمسِّ الحاجة اليوم إلى رافعةٍ سياسيّةٍ دوليّةٍ؟
على الأرجح أن الحريري فهِمَ الرسالة الروسيّة جيّداً، ولو أنّه أمِلَ بوجودِ احتمالٍ ضئيلٍ بتغيير وجهة النظر الروسية تجاهه، لكان ربما اتخذ القرار بالتأجيل وليس الإلغاء. وبين الإلغاء أو التأجيل.. هناك فرقٌ كبيرٌ.
التعليقات مغلقة.