الإنسان التاريخي, واللاتاريخي / د.عدنان عويّد




د.عدنان عويّد ( سورية ) – الجمعة 20/12/2019 م …

     هناك فرق شاسع بين الإنسان التاريخي واللاتاريخي. فالأول, إنسان عقلاني, يؤمن بالعياني والملموس, والنسبي, والتاريخي الذي يعيش الحركة والتطور والتبدل. والعقل لديه هي معارفه التي اكتسبها من خلال نشاطه وكدحه عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع تاريخياً, وبالتالي راحت تشكل ذاكرته وتراثه وثقافته, ومقومات وجوده ومرتكز انطلاقته نحو المستقبل. والإنسان التاريخي, لا يتكئ كثيراً على الماضي إلا بما يخدم حاضره ومستقبله ومستقبل أجياله القادمة. وهو من يؤمن بأن سعادته في حريته وعتقه من كل ما يكبل عالمه الإنساني ويحول دون تحقيق ما يطمح إلى تحقيقه من قيم إيجابية. وفردوسه هو واقعه الذي يعشه فيه الآن, أو ما يحلم بإقامته مستقبلاً. ليس لديه رموز أو طقوس أسطورية ينتمي إليها, وبالتالي يؤديها كي تشعره بتمايزه واختلافه عن الآخر, وليس لديه انتماءات ضيقة يشعر أن خلاصه فيها. (عشيرة قبيلة مذهب طائفة). فرموزه هي ما يحققه من إبداع يفجر عبره كوامن عوالم إنسانيته وكشف أسرار مجاهيلها التي توصله إلى جوهر إنسانيته. أما انتماءاته الحقيقية فهي وطنه أولاَ, وعقله الحر ثانياً, وحرية إرادته في صنع مستقبله ثالثاً. وعالمه الذي يجد فيه ذاته أخيراً, وهو عالم الإنسان الرحب الذي ليس له حدود إلا حدود الابداع والمحبة والعدل والسعادة للجميع. الإنسان التاريخي هو من ينظر دائماً إلى الماضي من خلال ما يخدم الحاضر والمستقبل… وهو من يبحث عن  قوس قزح يجد في تعدد ألوانه سر جمالية حياته وحياة الآخرين.

     أما الإنسان اللاتاريخي أو الجمودي, فهو إنسان لاعقلاني, يرفض قبول العياني والملموس على أنه عالمه الحقيقي الذي ينتمي إليه, وهو سر وجوده, ليعيش عالمه الافتراضي, عالم الوهم والخيال. هو إنسان لا تاريخي, وبالتالي هو يؤمن بالمطلق المشبع بالسكون والجمود, الرافض بالضرورة للنسبي المشبع بقوانين الحركة والتطور والتبدل. والعقل لديه ظاهرة فيزيائية تتحرك بقدرة من خارج التاريخ, أو من داخل عقله المعزول عن محيطه, أي عقل يحمل معارفه المنجزة والعالمة بتابوت من خارج التاريخ أو من عالمه الذاتي, وبهذا العقل الفيزيائي اللاواقعي واللاجدلي, يمارس نشاطه لكسب الماضي والحوز على أسراره الأبدية, وكسب أوهام سعادته التي يجدها فقط في استعادة ماضيه  حيث يكمن فردوسه الذي لا يتوانى عن قتال وسفح دماء كل من يحول بينه وبين رغبته في هذه الاستعادة. وهو الذي تكثر لديه الرموز والطقوس في حديثه ولباسه وسلوكه كي يشعر الآخرين المختلفين عنه, بتمايزه عنهم, وتعاليه عليهم … الإنسان اللاتاريخي, لا يرى كل ما حوله إلا من خلال أيديولوجيته الماضوية الجمودية المفوّته تاريخياً, وأن هذه الرموز والطقوس والأيديولوجيا, هي التي  تشكل بالوقت ذاته انتماءاته, ,شارداً عن حياته الدنيوية ومندمجاً في عالم الروح والقداسة وكل ما هو متعال على الواقع. إنه ينظر إلى الأسفل من خلال الأعلى, وإلى الحاضر من خلال الماضي, ويقيس الشاهد على الغائب. وهو يبحث دائماً عن لون رمادي يعتقد أنه صالح لكل زمان ومكان.  

كاتب وباحث من ديرالزور – سورية

[email protected]

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.