دراسة … في الذكرى التاسعة لانتفاضة تونس: الحَلَقَة المَفْقُودة في انتفاضات الشعوب / الطاهر المعز
الطاهر المعزّ ( تونس ) – الأحد 29/12/2019 م …
مقدمة:
بدأت سلسلة الإنتفاضات العربية، من تونس، يوم السابع عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 2010، بمنطقة “سيدي بوزيد” الفقيرة، بالوسط الغربي، وتواصلت الإنتفاضات لغاية اليوم في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، رغم الإختلافات بينها في الشكل، كما شهدت بلدان أمريكا الجنوبية، التي تختلف التجربة النضالية لشعوبها، عن شعوب الوطن العربي، حركة اجتماعية واسعة، في عدد من البلدان، ويُشكل رفض الوضع الإقتصادي، والتفاوت المجحف بين الطبقات، ومصاعب الحياة اليومية، قواسم مشتركة لجميع هذه الإنتفاضات، في الوطن العربي، كما في بلدان أمريكا الجنوبية…
سوف نُركّز في هذه الورقة على تطورات الوضع في تونس، من سنة 2011 إلى 2019، التي يحكمها ائتلافٌ يُشكّل الإخوان المسلمون عَمودَهُ الفقري، وهو وضع اقتصادي واجتماعي شَبيهٌ، في خطوطه العريضة، بوضع بلدان عربية أخرى، ومن بينها مصر (مع مراعاة بعض الفروقات)، حيث انتفض شعب مصر بداية من يوم 25 كانون الثاني/يناير 2011، وسوف نتطرق (دون الدخول في ذكر تفاصيل عديدة) لانتفاضة “تشيلي”، المتواصلة، عند تحرير هذه الورقة، كنموذج لانتفاضات أمريكا الجنوبية، لسنتيْ 2018 و 2019، بهدف مقارنة تجارب الشعوب، وإرْثِها السياسي والنضالي المُعاصر، مع محاولة التعريج على بعض أسباب إجْهاض الإنتفاضات العربية…
جُذُور تاريخية:
تُشكّل الإنتفاضات، عُمومًا، رُدُود فِعْلٍ عَفْوِيّة، ضد ارتفاع الأسعار، والوضع الإجتماعي والإقتصادي السّيِّء، وضد الإضطهاد والإستغلال والقمع والإعتقالات، أو غير ذلك، وهو ما يُميّز انتفاضات سَنَتَيْ 2018 و 2019، وكذلك الإنتفاضات السابقة في مُجْمل بلدان العالم، وفي الوطن العربي كذلك، حيث تعدّدت الإنتفاضات، خلال العقود الخمسة الأخيرة، وهي مرحلة سيطرة البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي على القرارات السيادية (الإقتصادية والسياسية)، خصوصًا منذ منتصف عقد سبعينات القرن العشرين، ويمكن ذكر بعضها مثل مظاهرات 23 آذار/مارس 1965 في المغرب، وكانون الثاني/يناير 1977 في مصر، وخلال عقد الثمانينات في المغرب والجزائر وتونس والسودان والأردن، وغيرها، من أجل مطالب مَعِيشِيّة آنِيّة، رَغْمَ اختلاف الأسباب المُباشرة، وجابهت أنظمة الحُكْم جميع هذه المظاهرات والإنتفاضات بالقمع والقتل والإعتقالات، مع التراجع المُؤقت للأنظمة، وتأجيلٍ ارتفاع أسعار المواد الأساسية، أحيانًا، لتهدئة الوَضْع…
ويمكن تلخيص الجذور التاريخية، للوضع الذي أدى إلى الغضب الشعبي والإحتجاجات العارمة، كالتالي: بعد اللقاء الذي أدّى إلى ما سُمِّي “وِفاق واشنطن” (حزيران/يونيو 1989)، وانهيار جدار برلين (تشرين الثاني/نوفمبر 1989) والإتحاد السوفييتي (1991، رسميًّا)، دخل العالم مرحلة جديدة، عُرفت باسم “العَوْلَمَة” (وإن كانت العَولمة، من طبيعة التوسّع الرأسمالي، وبدأت مع مرحلة الإمبريالية، في القرن التاسع عشر)، حيث أدّت هيمنة القُطْب الواحد، بقيادة الإمبريالية الأمريكية، على العالم إلى زيادة وتيرة الخصخصة وإلغاء الحواجز الجمركية على دخول السلع ورأس المال، من “الشمال” إلى “الجنوب”، وحرية تهريب الأموال، مع زيادة الحواجز أمام تنقّل البشر من “الجنوب” إلى “الشمال”، وتميزت هذه المرحلة بفَرْضِ شُرُوط قاسية على المُنتجين والعاملين والفُقراء، داخل كافة بلدان العالم، بالتزامن مع فرض صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي شُرُوط أشدّ قساوة من ذي قبل، على الدول التي تضطرُّ إلى الإقتراض، وقد حدّد “وفاق واشنطن” هذه الشروط، قبل ثلاثة عُقُود…
يُؤدِّي الإقتراض من صندوق النقد الدولي، دائمًا، إلى تدهْور وضع الفُقراء ليزدادوا فَقْرًا، وليرتَفِعَ عدد من يعيشون تحت خط الفَقْر، مقابل ارتفاع ثروات الأثرياء، الذين يستفيدون، مع الشركات الأجنبية والمَصارف، من عمليات خصخصة القطاعات الإستراتيجية (الطاقة والكهرباء والمياه والإتصالات والنقل والتعليم والصّحّة…)، ومن المُضاربة، وتؤدِّي القُرُوض إلى توجيه نسبة هامة من إيرادات الدولة إلى تسديد الدُّيُون وفوائدها، ما يُعَرْقِلُ عملية الإستثمار الحكومي، وزيادة الإنتاج المَحلِّي، عبر إقرار برامج التنمية (تنمية المناطق المحرومة وقطاعات استراتيجية كالزراعة والطاقة وتصنيع الغذاء…)، كما يَفْرِضُ البنك العالمي على الحكومات المُقْتَرِضَة توجيه جُزْءٍ من هذه القروض لدعم الشركات الخاصة، وخفض الضّريبة على أرباح الشركات، والمهن الحرة (الأطباء والمُهندسين والمحامين ومراقبي الحسابات…)، بعنوان “تحْسين مناخ الأعمال” أو “مُقاومة البطالة”…
يُؤدِّي تطبيق هذه الشروط إلى خصخصة القطاع العام والخدمات الأساسية وخفض الإنفاق الإجتماعي، وإلغاء دعم قطاع الفلاحة، والمواد الغذائية والطاقة والنقل والتعليم والرعاية الصحية، وفَرْضِ خفض عدد الموظفين، عبر تَسْرِيح عشرات الآلاف سنويا، وعدم تعيين موظفين جدد، مكان المُحالِين على التّقاعُد، وغير ذلك من الإجراءات التي أدّت إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل، وإلى زيادة عدد الفُقراء، وارتفاع الأسعار، خصوصًا السلع المُستورَدَة، بعد خفْضِ قيمة العُملة المَحَلِّيّة، وإلى حرمان الفُقراء، وحتى أبناء الفئات متوسطة الدّخل، من معظم الخدمات التي كانت مجانية أو كانت تَدْعَمُها الدّولة…
من جهة أخرى، لم تنخفض قيمة (أو حَجْم) الدّيون، ولم تنخفض نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، بعد تطبيق شُرُوط صندوق النقد الدّولي، بل زادت في معظم الدول المُستَدِينة (المُقْتَرِضَة)، لأن هندسة نظام الإقراض مُصَمَّمَة بشكل يُؤَبِّدُ التّبعية، ويُؤَبِّدُ رقابة صندوق النقد الدّولي (أي الدول التي تمتلك حق التصويت في مجلس الإدارة) على اقتصاد وسياسة الدول المُقْتَرِضَة، وعلى سبيل المثال فقد ارتفعت الديون، وتضاعفت قيمتها أحيانًا، في الوطن العربي، في المغرب وتونس ومصر والأردن ولبنان، وهي دول غير نَفْطِيّة، تتأثّر ميزانيتها واحتياطيها من النقد الأجنبي، بارتفاع أسعار المحروقات، أو بانخفاض أسعار المواد الأولية الأخرى في السوق العالمية (كالفوسفات الذي تُصدِّرُهُ المغرب وتونس والأردن)، وهي دول أصبحت، في ظل التقسيم العالمي للعمل، ورشة للصناعات ذات القيمة الزائدة المُنخفضة (كالملابس والنسيج والجلد، وتركيب قطع الغيار، والإلكترونيك)، ملجَأً رخيصًا للسائحين من الفئات الدّنيا والمُتوسّطة الأوروبية، الراغبين في قضاء عطلة قصيرة أو متوسطة، بأرخص الأسعار، دون اهتمام بثقافة وحضارة وتاريخ البلد، وعندما ترتفع قيمة الدُّيُون، تُخصِّصُ الدولة جُزْءًا هاما من إيراداتها (أي من إنتاج العاملين ومن الضرائب) لتسديد الدُّيُون وفوائضِها، بالعُملة الأجنبية…
تسببت هذه العوامل مجتمعة في انتفاضات الدول العربية، قبل حوالي ثماني سنوات، كما في أمريكا الجنوبية، وفي عدد من مناطق العالم، ونورد تونس كنموذج للإنتفاضة المُجْهَضَة…
بعض ملامح الوضع الإقتصادي في تونس:
تأثّر اقتصاد البلاد بأزمة 2008، سنة انتفاضة مواطني الحوض المنجمي، ثم بالوضع في ليبيا، لكن طبيعة السياسة الإقتصادية التي تَلَت الإنتفاضة، كانت مناقضة لمطالب جُمْهُور المُنْتَفِضِين، وخاصة سُكّان النّصف الغربي من البلاد – بعيدًا عن سواحل البحر الأبيض المتوسط- حيث يعيش حوالي 65% من فُقراء البلاد في هذا النصف الغربي، خصوصًا في مناطق انطلاق الإنتفاضة، أواخر سنة 2010، في محافظات الشمال الغربي وسيدي بوزيد وقفصة والقصرين، وهي المناطق التي يعيش ثُلُثُ سكانها من الفلاحة، والتي لم تُولِها حكومات ما بعد الإنتفاضة أي أهمية، بل أقرّت بيع الأراضي الصالحة للزراعة للشركات الأجنبية، وهو ما لم تتجرّأ أي حكومة على إقراره، منذ 1956 وحتى سنة 2018، وقَدّر “مؤشّر جيني” (جيني كُوفِسْيَانْتْ) اللامساواة والتفاوت في الدّخل ومستوى العيش ووجود البنية التحتية والمرافق، بنحو 40% بين المناطق الساحلية والمناطق الدّاخلية (11 محافظة في النّصف الغربي للبلاد)، بنهاية سنة 2017…
أَجَّلَ صندوق النقد الدّولي، بنهاية سنة 2019، تسديد مبلغ بقيمة 1,2 مليار دولار، من القرض المُتَّفق عليه مع حكومة تونس، سنة 2016، بقيمة حوالي 2,9 مليار دولارا، لأن خُبراء الصندوق يعتبرون الحكومة سَخِيّة جدا مع الشعب، وأنها لم تُنفذ كافة شروط الصندوق، فيما لخّص المعهد الوطني للإحصاء (15/11/2019) وضع البلاد في بضعة بيانات وأرقام ونِسَب، ومنها تَراجُعُ نمو الناتج المحلي الإجمالي من 2,7% خلال الربع الثالث من سنة 2018 إلى 1% خلال الربع الثالث من سنة 2019، ولن يتجاوز 1,5% في أحسن الحالات بنهاية سنة 2019، وهي نِسب نمو منخفضة في اقتصاد لا يعتمد على التقنيات أو الصناعات ذات القيمة الزائدة المرتفعة، ويجب أن تتجاوز نسبة النمو 6% سنويا تقريبًا، ولعدة سنوات، لاستيعاب الداخلين الجدد إلى “سوق العمل”، وليس جميع العاطلين الحاليين الذين بلغت نسبتهم 15,1%، بحسب المعدل الرسمي للبطالة، أما نسبة التضخم الرسمية (وهي دون الواقع بكثير) فقدّرها المعهد بنحو 6,5% خلال الربع الثالث من سنة 2019، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بمعدل 6,5%، خلال نفس الفترة، وتُشير البيانات الواردة في مُسودة ميزانية 2020 أن الدولة تعتزم اقتراض أكثر من أربعة مليارات دولارا، سنة 2020، ليس بهدف استثمارها في قطاعات منتجة، تخفف من حدة التبعية للخارج، أو للتخفيف من البطالة، بل لسدّ عجز الميزانية، ولتسديد القروض الواجب سدادها سنة 2020 التي تبلغ قيمتها 2,8 مليار دولارا، بالإضافة إلى فوائدها المُرْتَفِعَة المُقدَّرَة بقيمة 1,3 مليار دولارا…
شكّلت الحكومات المتعاقبة منذ 2012، انعكاسًا لتحالف طَبَقِي يُشكّل الإخوان المسلمون عموده الفقري، مع الدّساترة ورجال الأعمال، وهو التّحالف الذي واصَلَ انتهاج نفس السياسات السابقة، ما جعل اقتصاد تونس يتميز، خلال ثماني سنوات، من 2011 إلى 2018، بانخفاض قيمة الإستثمارات، فالشركات الخاصة لم تستثمر سوى في مجالات المضاربة أو الرّيع (كالإنشاء والتجارة…) التي تحقق أرباحًا سريعة، ولو بنسبة ضعيفة نسبيا، وتميز الإقتصاد بارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وعدم تلبية المطالب الإجتماعية، مقابل تحميل الأُجَراء نحو 80% من عبء الضرائب، في حين لا تتجاوز حصة الأُجراء (بمن فيهم ذوي الرواتب المرتفعة) نحو 25% من “الثروة”، وتميَّز الإقتصاد كذلك بانتشار الفساد والإستيلاء على المال العام وعلى الممتلكات العامة، وبالرشوة والزبائنية، وعمد الإخوان المسلمون إلى تشغيل نحو 75 ألف من الأقارب ومُنْتَسِبِي “النهضة”، دون احترام شروط التوظيف في القطاع العام، لأنهم يعتبرون السُّلْطَة “غنيمة” يتقاسمونها فيما بينهم، وارتفعت، خلال سنوات حُكْمِهم، قيمة الدّيون الخارجية، ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفع عجز الميزان التجاري (أي انخفاض قيمة الصادرات وارتفاع قيمة الواردات)، فيما ارتفعت حصة الإقتصاد الموازي، من نحو 30% من الناتج المحلي، سنة 2010، إلى نحو 40% من إجمالي النشاط الإقتصادي في البلاد، سنة 2018، بحسب منظمة “الشفافية الدولية”، ويتميز الإقتصاد التونسي بالتبعية المُفْرِطة للإقتصاد الأوروبي، وأدت اتفاقيات الشراكة التي لا تخدم سوى مصالح الشركات الأوروبية، عبر فَرْضِ معاييرها، إلى تهديد نحو 80% من المؤسسات الصناعية التونسية بالإغلاق، بحسب منظمة أرباب العمل في تونس، وإلى تسريح عشرات الآلاف من العمال، وعلى سبيل المثال، أدّى تطبيق هذه المعايير، في قطاع الملابس والنسيج والأحذية، إلى إغلاق ثلاثمائة مصنع، بين 2012 و 2018، وتسريح أكثر من أربعين ألف عامل، وتَسْتورد دول الإتحاد الأوروبي هذه المصنوعات من جنوب آسيا، من فيتنام وبنغلادش…
ارتفعت قيمة الدّيُون الخارجية من نسبة 40% من الناتج الإجمالي المحلي، سنة 2010 إلى حوالي 85,5% سنة 2018، بحسب صندوق النقد الدولي، وتراجَعَ إنتاج الفوسفات (أهم الصادرات) بنسبة 50% بين 2010 و2016، وتراجَعَ إنتاج النفط والغاز بنسبة 47% خلال نفس الفترة، وتراجع إنتاج شركات القطاع العام للكيماويات بنسبة 30%، وأدّى لجوء الدّولة للدّيون الخارجية، إلى تطبيق شروط مُجحفة، خسر من جرائها الدينار التونسي أكثر من 107% من قيمته بين 2011 و 2018، وارتفعت نسبة البطالة من حوالي 12% بنهاية 2010، لتستقر عند 15,1% من القادرين على العمل، بنهاية 2018، بحسب البيانات الرسمية، ويشترط الإتحاد الأوروبي، وكذلك صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، إلغاء كافة أشكال الدّعم للقطاع الفلاحي، الذي يُشغّل نحو 26% من قوة العمل ويُساهم بحوالي 13% في إجمالي الناتج المحلي، وكلما توطّدت علاقات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي (وهي في الواقع علاقات هيمنة)، تدهْوَر وضع اقتصاد البلاد، وتَدَهْوَرَ وَضْعُ معظمِ المواطنين، ويُفْتَرَضُ أن تفتح أسواق أوروبا أبوابها لإنتاج تونس، لكن حصل العكس تمامًا فالمعايير المُشطّة تجعل من بضائع تونس أو المغرب أو مصر وغيرها، غير مستجيبة لشروط الأسواق الأوروبية، وساهمت هذه التّبَعِيّة وهذه الشّروط في تراجع قُدرة قيمة الصادرات على تغطية قيمة الواردات، من أكثر من 80%، إلى أقل من 70%، ما زاد من عجز الميزان التجاري، من 8165 مليون دينار، خلال النصف الأول من سنة 2018، إلى أكثر من 9780 مليون دينار، خلال النصف الأول من سنة 2019، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء…
أدّت السياسات التي طبقتها حكومات ما بعد 2011 إلى تقهقر وضع كافة القطاعات الإقتصادية، كالفلاحة والصناعة وقطاع استخراج المعادن والمحروقات، وتدهور وضع الأُجَراء الذين يتراوح متوسط رواتبهم بين ما يُعادل 280 و 400 دولارا، ووَضْعُ أغلبية المواطنين، وأشار أحد تقارير منظمة الدفاع عن المستهلك إلى تدهور قُدْرة الفرد على الإنفاق بنحو 40% سنة 2015 وإلى نحو 50% سنة 2017، وأصبح الدّخل الشهري للأُسَر لا يُغطِّي نفقاتها الضرورية طيلة الشهر، وخلال سنة 2018، أصبح حوالي 75% من الأُجراء التونسيين ينفقون رواتبهم الشهرية خلال النصف الأول من الشهر، نتيجة ارتفاع الأسعار (وهي نسبة مُستقرة، منذ حوالي عشر سنوات بحسب البنك العالمي)، فيما يكتفي أقل من 25% منهم بما هو ضروري جدًّا ليتمكنوا من “تقسيط” الرواتب على امتداد الشهر، مع تأجيل بعض المصاريف، وتأجيل تلبية حاجات الأبناء، وإلغاء الإنفاق على الثقافة والتّرفيه، وأعلنت منظمة الدفاع عن المستهلك أن أسعار غالبية المواد الغذائية المحلية، ارتفعت بنسبة قاربت 200% خلال سنوات حكم الإخوان المسلمين، التي تمتد منذ 2012، وخاصة بين سنوات 2014 و 2018، ما جعل الإنفاق على المواد الغذائية يستنزف أكثر من 60% من دخل الأُسر في الأحياء الشعبية والمناطق الفقيرة، واضطر معظم الأجراء من الفئات متوسطة الدّخل إلى شطب “الترفيه” من أبواب إنفاق الميزانية، بعد اضطرارهم للتداين، كل شهر، لمجابهة ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم (بنسبة 6,7% وفق المؤشر الحكومي في آب/أغسطس 2019)، وأظهرت بيانات حكومية لجوء أكثر من مليون أُسرة إلى التداين شهريًّا من المصارف، لمجابهة الإنفاق الإعتيادي الشهري، ناهيك عن الطوارئ والإنفاق الإستثنائي، كالأعياد وبداية السنة الدراسية وحالات المرض وغيرها…
احتجاجات أمريكا الجنوبية:
نورد هذه الفقرات الخاصة باحتجاجات سنَتَيْ 2018 و 2019 في بعض بلدان أمريكا الجنوبية، على سبيل المُقارنة، وعلى أمل استخلاص الدّرُوس…
تميزت بلدان أمريكا الجنوبية بظهور ثورات مُبكّرة، من أجل الإستقلال، في بداية القرن الثامن عشر، بعد ثلاثة قُرُون من الإستعمار الأوروبي، وخصوصًا الإستعمار الإسباني، والفرنسي والبريطاني، في بعض المناطق، والإستعمار البرتغالي في البرازيل، واحتفظت الذاكرة اللشعبية للأجيال بتراث هذا النضال الثوري، وخلَّدَتْ أسماء بعض الثوريين، مثل القائد الرّمْز “سيمون بوليفار” قبل تشي غيفارا، وتميّزت أمريكا الجنوبية أيضًا بمَزْج النضال الوطني، للتّحَرُّر من الإستعمار والإمبريالية، بالنضال الطبقي، ضد الإستغلال، في هذه المنطقة المُتاخمة للولايات المتحدة، حيث نظّمت الإمبريالية الأمريكية ودعمت الانقلابات العسكرية، وسلّحت ودرّبت المليشيات الرجعية، وأشرفت على الإغتيالات في العديد من البُلْدان، لاحتواء انتشار البرامج والخطط الإشتراكية، أو المناهضة للإمبريالية…
تَكْمنُ أسباب الإحتجاجات التي انطلقت سَنتَيْ 2018 و 2019، في خطط “الإصلاح الهيكلي” التي يفرضها صندوق النقد الدولي، وتتضمن، كما في جميع البلدان، التقشف وارتفاع قيمة الضرائب (خصوصًا غير المُباشرة) وارتفاع أسعار المحروقات، وما ينجر عنها من ارتفاع أسعار النّقل والكهرباء والمواد الغذائية، وكافة السّلع، لتُصْبِح قيمة الرواتب هزيلة جدّا، لا تفي بحاجة الأُسَر (إيجار المسكن وشراء السلع وتعليم الأبناء والعلاج…)، بينما تستحوذ الشركات الأجنبية (وعلى رأسها الشركات الأمريكية) على القطاعات الحيوية التي تبيعها الدّولة، في إطار الخصْخَصَة، ونظمت الولايات المتحدة الإنقلابات في عدد من الدول، نجحت في بعضها وفشلت في أخرى، بهدف السيطرة على النفط في فنزويلا وفي البرازيل (بالإضافة إلى المعادن والغابات والأراضي)، وبهدف السيطرة على مادة “الليثيوم”، في بوليفيا، حيث توجد نسبة 60% من الاحتياطات العالمية، وعلى النّحاس في تشيلي، وأدّى تطبيق برنامج “الإصلاح الهيْكلي” إلى ارتفاع الدَّين العمومي (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) في 12 دولةً من دول أمريكا الجنوبية، من 48,1% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2013، إلى 78,1% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2019، في حين زادت سيطرة الشركات العابرة للقارات، على اقتصاد هذه البلدان التي ارتفعت فيها نِسَب الفقر، مع تَراجُعِ مستوى المعيشة، فشكّلت الإحتجاجات في تشيلي وكولومبيا والبرازيل والأرجنتين وإكوادور وهايتي، وغيرها، ردّ فعل طبيعي على تزايد الضّغط الذِي وَلَّدَ انفجارًا، لم يكن مُؤَطَّرًا بشكل يُحوله إلى ثورات، ولكنه تمكّن من فَرْضِ بعض التراجع، في البرازيل وتشيلي والأرجنتين، ويكمن الفارق الهام بين انتفاضات أمريكا الجنوبية وانتفاضات الوطن العربي، من انتفاضة تونس (2010/2011) إلى انتفاضتَيْ لبنان والعراق، سنة 2019، مرورًا بانتفاضات الأردن والجزائر والسّودان، في عجز الإمبريالية الأمريكية عن احتواء انتفاضات أمريكا الجنوبية، رغم الأدوات الإعلامية الضّخْمَة التي تُحاول اتّهام حُكُومَتَيْ كوبا وفنزويلا بدعم هذه الإحتجاجات، وهما بَلدان يتعرّضان، لحصار أمريكي مُطْبَق، منذ عُقُود…
ذَكَّرْنا في فقرة سابقة بنتائج الإقتراض من صندوق النقد الدولي، وهي نفس النتائج السّلْبِيّة، سواء كان البلد المُقترض يَقَعُ في آسيا أو إفريقيا أو أمريكا الجنوبية، ويفرض الصندوق والبنك العالمي، وبقية الدّائنين، نفس الشروط، ما يُؤدّي، في كل الحالات إلى نفس النتائج، التي يتحمل عِبْئَها الفُقراء والأُجراء والكادحون وفاقدو الأرض والعمل…
انتفاضة تشيلي كنموذج:
شهدت سنة 2018 و 2019، انتفاضات عديدة في بلدان أمريكا الجنوبية، وأهمها في تشيلي التي عرفت خلال العقود الماضية انتخاب رئيس يصف نفسه بالإشتراكي (سلفادور أليندي) أطاح به انقلاب دموي، بدعم من الإمبريالية الأمريكية، وعودة إلى “الديمقراطية”، دون محاسبة المسؤولين عن القمع الوحشي…
قبل اغتياله بوقت قصير، ألقى الرئيس التشيلي المُنتخب (04/11/1970) “سلفادور أليندي” (26/06/1908 – 11/09/1973) خطابًا بثّتْهُ إذاعة “ماغالانيس”، حين كان الجيش يقصف القصر الرئاسي، يوم 11 أيلول/سبتمبر 1973، وقال: “… أنا مُتيقّنٌ أننا تمكّنّا من زرع بذور الكرامة في ضمير الآلاف من التشيليين، ولن تَضَلَّ هذه البذور مدفونة إلى الأبد… إنهم (ضباط الجيش) يمتلكون القوة ويمكن أن يستعبدونا بالقوة، لفترةٍ مَا، ولكنهم لا يستطيعون وقْفَ سَيْل التطور الإجتماعي بالقوة وبالجريمة… فالمسار التاريخي يَدْعَمُنا، والشعب هو صانع هذا التاريخ…”
مرّت أكثر من ستٍّ وأربعين سنة على الإنقلاب العسكري الدّمَوي، وعلى اغتيال “سلفادور أليندي”، بإشراف ودعم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وذَكَر النّاس (في تشيلي، وفي أرجاء العالم) هذا الرجلَ بالخَيْر، وذَكَرَ العديد ممن عاصَرَهُ أو مِمّن وُلدَ في عهد الدكتاتورية العسكرية (1973 – 1990)، أو بعد ذلك، شجاعة الرئيس “أليندي” ودفاعَهُ عن آرائه وقناعاته، حتى آخر رمق…
تُعتبر تشيلي نموذجًا صارخًا لإفلات الحُكّام المجرمين والمسؤولين عن التعذيب والإغتيالات، من العقاب والمُحاسَبَة، ولكن ما كان ذلك ليحصُل لولا دعم الولايات المتحدة وصندوق النقد الدّولي لمنفذي الإنقلاب والجرائم ولمن تمكنوا، في ظل الدكتاتورية العسكرية، من مراكمة الثروات، ومن بينهم الملياردير والرئيس الحالي لتشيلي (سيباستيان بينييرا) وأُسْرَتِهِ التي دعمت حكم الجنرال “أوغوستو بينوشيه”، أو مِمّنْ تَسلّقُوا دَرَجات السُّلّم الإجتماعي، أو امتلكوا سُلْطَةً مَا، عبر الوشاية بمواطنين آخرين ودعم الدّكتاتورية…
هناك تعتيم إعلامي بشأن الإحتجاجات الشعبية التي تتواصل منذ ثلاثة أشهر في تشيلي، ولا تزال متواصلة عند تحرير هذه الفقرات، ضد النظام اليميني المتحالف مع الإمبريالية الأمريكية ضد الأنظمة التقدّمية في أمريكا الجنوبية، يرأسه “سبستيان بنييرا”، وهو رجل أعمال ثَرِي، عميل الولايات المتحدة وصديق الصهاينة (زار أصدقاءه في فلسطين المحتلة في حزيران 2019)، ويتكفل الجيش الصهيوني بالإشراف على بعض تدريبات جيش تشيلي، وعلى تدريب قُوى القَمْع، ويتضمّن برنامج “بنييرا” الإقتصادي توصيات صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، من خصخصة وإلغاء الدعم، وانسحاب الدولة، لصالح رأس المال الخاص، في قطاعات حيوية مثل النقل والسكن والصحة والتعليم وخدمات الكهرباء والمياه وغيرها، ما أدّى إلى انتفاضة الفُقراء، الذين أرهقتهم مصاريف الحياة اليومية، كالنقل وإيجارات المسكن وتعليم الأبناء والرعاية الصحية، بالإضافة إلى المواد الإستهلاكية، فما كان من الرئيس سوى إعلان حالة الطوارئ، ونَشْر الجيش في الساحات والشوارع، بشكل أعاد إلى الأذهان فترة الدكتاتورية العسكرية، إثر انقلاب 11 أيلول/سبتمبر 1973، وأدّى القمع، خلال خمسة أيام من شهر تشرين الأول/اكتوبر 2019، إلى قَتْل عشرين متظاهر وإصابة نحو 2500، بأسلحة، بعضها صهيوني الصنع، واعتقال ما لا يقل عن ثلاثة آلاف… يُمثل الرئيس “سبستيان بنييرا” مصالح شريحة لا تتجاوز نسبتها 1% من سكان البلاد، الذي يسيطرون على نحو 26,5% من ثروات البلاد، بينما لا تزيد حصة نصف السكان على 2,1% من الثروة، ما جعل البلاد مُصنّفَة ضمن أكثر دول أمريكا الجنوبية تفاوتًا طبقيا، وفي مستوى المعيشة، وفي مقدمة الدول التي ترتفع بها تكاليف التعليم والصحة…
لم يقتصر الأمر على تشيلي، ولكن وضع البلد يختزل وضع العديد من البُلْدان الأخرى، في جميع أنحاء العالم، حيث انتفض المواطنون، خلال سنَتَيْ 2018 و 2019، للمُطالبة بالحقوق الإجتماعية والإقتصادية والسياسية…
الإنتفاضات، بين العفوية والإحتواء:
وجب التّمييز بين الأسباب الموضوعية للنضال الشعبي، وللإنتفاضات (البطالة والفقر والقمع والإضطهاد…) وبين توظيف القوى الإمبريالية الخارجية، أو الإنتهازية الدّاخلية لها، في إطار الحرب بأدوات أخرى، غير العسكرية، أو “الحرب الناعمة”…
تستثمر الإمبريالية (وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية) في برامج وخطط قريبة ومتوسّطة وبعيدة المَدَى، لتدعيم ولاستدامة هيمنتها على العالم، كما استغلّت غيابَ أو ضُعْفَ المنظمات والبرامج والبدائل الثورية، لتكتسح الساحة التونسية والمصرية وغيرها، عبر توظيف إمكانياتها الإعلامية الضّخمة، وسفاراتها والمنظمات المُسمّاة “غير حُكومية”، لتخريب الإنتفاضات والإستيلاء على نتائجها، ولبث مَشاعر الإحباط والإستِياء، لدى الفُقراء والشباب المُعَطّل عن العمل، والأُجَرَاء، والفئات الوُسْطى، وتُوظّف الإمبريالية الأمريكية (إلى جانب القوة العسكرية والدبلوماسية) ميزانيات هامة، وخُبراء وباحثين، وإعلاميِّين، وكَهَنَة، وجواسيس، بهدف الهيمنة على العالم، وتُشكل المنظمات الموصوفة ب”الحقوقية” أو “غير الحكومية” جزءًا أساسيا من وسائل الهيمنة الأمريكية، ومن بينها: “هيومن رايتس ووتش” التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وتمولها الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي (يو إس آيد”، منذ 1999) وصندوق “نيد”، أو الصندوق القومي للديمقراطية، الذي يُمول بدوره منظمة يُدِيرُها الحزب الجمهوري وأخرى يُديرُها الحزب الديمقراطي، وخلقت أمريكا أيضًا منظمة “فريدوم هاوس”، ومنظمة “كانفاس” التي ساهمت في تأسيس منظمات تكفلت بتخريب يوغسلافيا من الداخل (مثل منظمة “أوتبور”)، كما ساهم مؤسس “فريدوم هاوس” في تأسيس منظمة “أكاديمية التغيير”، المختصة في تمويل الإسلام السياسي “المعتدل” (الإخوان المسلمون) والدعاية له، ولها مكتب في دُوَيْلَة “قَطَر”، إلى جانب “أكاديمية التّغْيِير” أيضًا، ومنظمة “المجتمع المفتوح” (أسَّسها الملياردير جورج سوروس)، وتدعم هي الأخرى الإسلام السياسي الموصوف ب”المعتدل”، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من المنظمات التي تمولها الحكومة الأمريكية، أو أثرياء أو شركات، وتخدم جميعها استراتيجية وخطط وبرامج الإمبريالية الأمريكية، ومن بينها “كارنغي” و”الأزمات الدّولية”، و”الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان”، وحركة 6 أبريل (مصر)، و”شباب الربيع الإسلامي”، والأخيران تنتميان إلى منظمة “تحالف حركات الشباب”، الذي تأسّس سنة 2008، مع انطلاق الأزمة المالية العالمية، بحسب الموقع الكندي “غلوبل ريزيرش” (شباط/فبراير 2011)، وفي تونس يوجد منذ 2002، المكتب الرئيسي لمنظمة “ميبي” (ميدل إيست بارتنرشيب)، وهي منظمة أمريكية رسمية، تُمولها وزارة الخارجية الأمريكية، وتستهدف تدريب شُبّان (طلبة وصحافيين وموظفين…) بهدف تأهيلهم ليُصبحوا “قادة المُسْتَقْبل”، ليدافعوا عن الإمبريالية، بشكل “حضاري” و”مُهذّب”، مثلما فعل البعض في العراق أو لبنان أو يوغسلافيا وأوكرانيا وجورجيا…
شكّلت الإنتفاضات تعبيرًا عن الغضب الشعبي المُتراكم على مدى عُقُود، ويمكن وصفها ب”التمرد المشروع” على الوضع، لكن من غير الصائب إطلاق إسم “الثورة” على تلك الإحتجاجات التي انطلقت من تونس يوم السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010، ثم في مصر بعد حوالي ثلاثة أسابيع، والبحرَيْن، واليمن، والأردن، كما في المغرب والجزائر (شباط 2011)، وصولاً إلى انتفاضات سنة 2019، في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، وشكّلت هذه الإحتجاجات نُقْلَةً نوعية، من التّذمّر الشخصي أو الفَرْدِي، إلى احتجاج جمْعي (أو “جَماعي”) ضد الوضع المادي والسياسي السائد في هذه البُلْدان، كما في غيرها (في بعض بلدان أمريكا الجنوبية كتشيلي وبيرو وكولومبيا والأرجنتين…)، وهي بذلك تُشكل مرحلة وَعْي متطورة، رغم عَفْوِيّتها (فهي رَدّة فعل، وليست فعلا إرادِيًّا مَدْرُوسًا)، مقارنة بالتّذَمّر أو العمل الفردي، ولكنها اتسمت بالإنشغال بالتنظيم اليَوْمِي ل”الحراك”، و”الفعل”، مع غياب (أو ضُعْف) الرؤية المستقبلية، أو البديل، أو الغاية من “الحركة” أو “الحراك”، مما يُيَسِّرُ السيطرة على “الحراك”، وتوجيه نتائجه التي اقتصرت على رحيل رأس أو رمز النظام في تونس ومصر، أي إزاحة شخص الرئيس، واستبداله بأشخاص آخرين، من نفس النظام، ومن نفس الطبقة، المُوالية للإمبريالية الأمريكية والأوروبية، كرئيس حكومة بن علي، في تونس، وضُبّاط، من زُملاء الرئيس حسني مبارك، في مصر، قبل أن يزداد تحكم صندوق النقد الدّولي في القرار الإقتصادي (وبالتالي في القرار السياسي السيادي)، فارتفعت قيمة الدّيون الخارجية، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، وبحصة الفرد الواحد من هذه الدّيون التي لم يستفد منها المواطنون، ولا القطاعات الإقتصادية المُنْتِجَة، ولا الخدمات الأساسية…
افتقدت هذه الإحتجاجات إلى خطط وإلى برامج، وإلى قيادات تمزج بين متطلبات العمل المَطْلَبِي اليومي (صياغة المطالب الحياتية)، والأهداف التي يجب تحقيقها من خلال الإنتفاضة، والتي تتجاوز الحُريات الفردية والجماعية، والمُسكّنات الإقتصادية والإجتماعية، إلى القضاء على أسباب الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي، أي بناء نظام جديد، بدَل ترميم النظام الذي انتفضت ضده الشّعوب، ولم تحصل القطيعة، بل تمكن النظام (بدعم امبريالي قوي) من إعادة إنتاج نفسه، ليجد الفُقراء والمُهمَّشُون أنفسهم، في المربع الأول، بل في وضع أسْوأ ممّا قبل الإنتفاضة، في تونس ومصر، حيث احتكر الجيش في مصر السلطة، وتقاسم العوائد الإقتصادية مع فئة من البرجوازية، كانت مستفيدة من فترة حكم حسني مبارك، وقضى الجيش والأجهزة الأمنية على هامش الحركة الذي كان مُتاحًا قبل الإنتفاضة، فيما تقاسمت حركة الإخوان المسلمين (النهضة) السلطة في تونس مع البرجوازية “الرّثّة” (غير الصناعية والزراعية، وغير المستثمرة في قطاعات الإنتاج) ومع الفئات التي استفادت من فترة حكم زين العابدين بن علي، وهي نفس الفئات التي أثارت غضب التونسيين والتونسيات، سنة 2008 (الحوض المنجمي) وسنة 2010…
تسارعت وتيرة التحولات التي عرفتها تونس، منذ سنة 2011، سنة الإنتفاضة، وهي تحولات سلبية، من وجهة نَظَر أغلبية المواطنين، حيث عاد اللصوص إلى الحُكم، مع شُيُوخ الدّين السياسي المُتَأَمْرِك والمُتَصَهْيِن، من زُعماء الإسلام السياسي “المُعتدل” (الإخوان المسلمين)، الذين انسجموا بسرعة في منظومة الفساد، وأَثْرَوْا فِقْهَ تبرير الإستغلال والإستعمار والهيمنة والتّبَعِيّة للخارج (أوروبا وأمريكا وتركيا الأطلسية)، فتعمّقت الفَجْوَة الطّبَقِيّة، وارتفعت نسبة وحجم الفقر والبطالة والفساد، وأدّى اتساع حَيّز التفاوت الطبقي إلى تأجيج مَشاعر الإحباط، والخوف من المستقبل، ممزوجة بمشاعر الغضب، وهي ليست مشاعر تأسست على وَهْمٍ، بل بُنِيت على حقائق تُؤَكِّدُها الأرقام والإحصائيات، فارتفعت محاولات الشباب مغادرة البلاد، بحثًا عن فُرص عيش حقيقية أو مُتَخَيَّلَة في أوروبا أو في أي مكان آخر، غير تونس، مخاطِرِين بحيواتهم التي انخفضت قيمتُها عندهم، فباتُوا لا يجدون في هذه الدّنيا، وفي هذه البلاد، ما يستحق الحياة، لأن معظم قيادات اليسار، التي يُفْترَضُ أن تُدافع على مصالح الكادحين والفُقراء، تشكلت من فئات برجوازية صغيرة وانتهازية، بعيدة عن واقع الفُقراء والمُنْتِجِين وصغار المُزارعين، والعاطلين عن العمل، وخاصة من خريجي الجامعة التي (الجامعة) لم تَعُد تُمَكِّنُ من الإرتقاء في درجات السُّلَّم الإجتماعي، وتتشكل قيادات اليسار من فئة يُمكن شِراؤها بمنصب أو بحوافز مالية، أو بمقعد في البرلمان، أو بمنصب يُيَسِّرُ عملية الإندماج في البيروقراطية النقابية، أو بسمح بإدارة منظمة “غير حكومية” مُمَوّلة من أوروبا أو اليابان أو كندا أو الولايات المتحدة، لأن معظم هذه القيادات تبحث عن حُلُول فَرْدِية، وما الخطاب عن التفاوت الطبقي وعن الإمبريالية سوى غلاف أو قِشْرَة رقيقة، سرعان ما تزول، عند أول امتحان، فانخرطت معظم قوى هذا الرّهْط من اليسار، في منظومة الديمقراطية على الطريقة الغربية، والتي تقتصر على البحث عن موقع، عبر المُشاركة في انتخابات دَوْرِيّة، لا يمكن أن يفوز بها سوى من يمتلك المال ووسائل الإعلام وشبكات الفساد والرشوة، وبذلك غابت هذه القوى عن ساحة النضال الطبقي والإجتماعي اليَوْمِي، ولم تَعُدْ مهتمّة بالبحث عن إرساء نظام بَدِيل، وعن حُلُول لمسائل هامة مثل التنمية والإكتفاء الذاتي الغذائي ووضع حد لتهرّب الأثرياء من الضرائب، وللإحتكار وللتبعية وهيمنة الشركات الأجنبية على ثروات البلاد، وإلغاء الدّيون الخارجية المُتراكمة، والقضاء على الإستغلال واضطهاد العديد من الفئات الإجتماعية، وغير ذلك من المسائل التي لن تَبْحَثَ البرجوازية واليمين (“الحداثي” أو الدّيني) عن حُلول لها، لأن مصالح هذه البرجوازية انتعشت من خلال الفساد والسرقة واستغلال موارد الدّولة (أي مال وعرق الشعب الكادح)، والسّهَر على مصالح الإمبريالية وشركاتها، مقابل حمايتها من ثورات داخلية مُحْتَمَلَة…
على مستوى السياسة الخارجية، كان نظام حكم “الترويكا” في تونس، بقيادة الإخوان المسلمين، ورئاسة المنصف المرزوقي (أجير لدى قَطَر) يُسَهِّلُ إرسال الإرهابيين والإرهابيات إلى سوريا، وإلى ليبيا، وكان من الأنظمة العربية التي قطعت علاقاتها مع سوريا، منذ بداية الحرب، بل استضاف الإخوان المسلمون والمنصف المرزوقي مؤتمرًا ضم الفصائل الإرهابية في سوريا، والدول الإمبريالية والرجعية الدّاعمة لها… أما بشأن القضية الفلسطينية، فقد أعلن راشد الغنوشي، في مؤتمر واشنطن إنستتيوت (وهي منظمة صهيونية أمريكية) أنه غير معني بالشأن الفلسطيني، وأدلى بحديث لإذاعة الجيش الصهيوني، فيما اعتبر “محمد مرسي”، عندما كان رئيسًا منتخبًا لمصر، شمعون بيريس “صديقه العزيز”، وبشكل عام، لم تتغير طبيعة النظام في تونس وفي مصر، بعد الإنتفاضَتَيْن…
بعض الأُسُس النظرية لحكم الإخوان المسلمين:
لم تُشارك حركة النهضة (الإخوان المسلمون) في الحركات الإحتجاجية بتونس، ولكنها تُمثل قوة مُنظّمة، وذات قاعدة شعبية مُنضبطة، انضباطًا عسكريّا “أعْمَى” (عكس الإنضباط الواعي)، وتحظى بدعم قوي من الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، بالإضافة إلى صهاينة النفط في الخليج، ومكّنتها مجمل هذه العوامل من الإنقضاض على السلطة، بالتحالف مع قوى أخرى، من النظام الذي قاده الحزب الدستوري (بورقيبة وبن علي )، ومن رجال الأعمال، لأن برنامج الإخوان المسلمين لا يطمح إلى تغيير قواعد الإقتصاد وتوزيع الثروات، بل يمثل مجموعة من الخطط الرأسمالية الليبرالية، التي تندرج ضمن منظومة “التّبَعِيّة”، أي مجموعة دول “الجنوب” الخاضعة للهيمنة الإمبريالية، والتي لا تسعى للخروج من وضع خادم رأس المال الإحتكاري الأجنبي…
تأرجحت تصورات حركة “النهضة” (“الإتجاه الإسلامي”، سابقًا) بين مفهوم “الحاكِمِيّة” (أبو الأعلى المودودي) و”ولاية الفقيه” (شيعة إيران)، وبرز ذلك من خلال ملف نشرته مجلة “الإتجاه الإسلامي” (المعرفة)، وزَيّنت الغلاف صور حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب والخُمَيْنِي، وتطورت تصريحات راشد الغنوشي من معارضة الديمقراطية الإنتخابية “لأن أغلبية جاهلة، لن تنتخبَ سوى حاكم جاهل”، وهو ما قاله أيضًا “علي بالحاج”، في الجزائر، سنة 1991، إلى اعتبار “أنّ الدّولة ليست أكثر من مجرد أداة من أدوات الجماعة (الإسلامية) في تحقيق أهدافها”، وعندما تتعرض “النهضة” للقمع، يبحث زعماؤها عن سند لدى اليسار ومنظمات حقوق الإنسان، فتتغير تصريحات الغنوشي وزعماء “النهضة”، ليكتب الغنوشي، أثناء وبعد مرحلة إقامته في بريطانيا: “إنّ المفهوم الحديث للشّورى التي زكاها الإسلام، هو الدّيمقراطية البرلمانية”، فيما بقي الخطاب أو الإعلام الدّاخلي يؤكّد: “تبقى الجماعة (الإسلامية) متحكمة في الدّولة، ولها اليد العُليا، لكي تتماشى القوانين مع الشريعة الإسلامية…”، وتَتَجَنّبُ قيادات حركات الإسلام السياسي الخوض العلني في وظائف الدولة (ضمن السّياق التّاريخي)، ومفهومها، المُرْتَبِط بالأرض (الوطن) والشعب وطبيعة السلطة، وعلاقتها بالشعب، كأفراد أو مجموعات، في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها… كما لا يتعرض نقاش الحركات الإسلامية، المنبثقة عن الإخوان المسلمين، للعلاقة غير المتكافئة مع الإستعمار الجديد (الإمبريالية) ولذلك تواصلت الهيمنة، بل تعزّزت، تحت حكم الإخوان المسلمين في تونس وفي مصر، وتواصلت عمليات النهب والسيطرة على الثراوت، كما لم يتردّد راشد الغنوشي ومحمد مرسي في خطب ودّ الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، وأظهرت تجربة حكم الإخوان المسلمين في المغرب وتونس ومصر واليمن والسودان، أن “الحركة الإسلامية”، بكافة فُروعها وأصنافها، وتلْويناتها، منخرطة في المشروع الراسمالي الليبرالي المُعَوْلَم، بقيادة الإمبريالية الأمريكية وأدواتها، مثل صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، ولم تطرح أي من هذه الحركات مواجهة الهيمنة “الغربية” (أو “النّصرانية”)، سواء على الصعيد السياسي أو الإقتصادي، أو التصدّي للمشروع الصهيوني في فلسطين، وفي الوطن العربي، رغم إجماع (أو شبه إجْماع) شعوب العرب والمُسْلمين حول هذه القضايا، وتَوَسّعَ وتعمّقَ مشروع “التغريب”، وانتشَرَ الإبتذالُ في ظل حكم الإخوان المسلمين…
أما أدبيات “حزب العدالة والتنمية”، الحاكم في تركيا الأطلسية، وقُدوة الأحزاب الإخوانجية العربية، فتُعلن (الأدَبِيّات) أن الحزب يستهدف (خلال مرحلة “صفر مشاكل مع الجيران”، قبل الإنقلاب المشبوه وقبل انقضاض الإخوان المسلمين على كافة مؤسسات وأجهزة الدولة) “تقليص وظيفة الدّولة، وحصر نشاطها في الأمن والخدمات الأساسية…”، أي تطبيق حَرْفِي لمفاهيم الإقتصاد النيوليبرالي، واقتصاد السوق، كما يُحدّده صندوق النقد الدّولي، مع طموح قوي لتكون تركيا “قوة إقليمية، في منطقة واسعة، تمتد من منطقة البلقان إلى القوقاز، ومن وسط آسيا إلى الشرق الأوسط”، بحسب وثائق برنامج الحزب… (المرجع: كتاب “إشكالية الدولة الإسلامية… تصور الحركات الإسلامية المعاصرة” معين محمد الرفاعي، نشر دار “بيسان” – بيروت، الطبعة الأولى، سنة 2017- 709 صفحة)…
اليسار، قوة احتجاج، في خدمة أهداف الغَيْر:
لم يُنظّم اليسار انتفاضة 2010/2011، ولم يُشرف عليها، بل كان أفراد من اليسار السياسي والنقابي في مقدمة مسيرات الإحتجاج، لكن لم يكن الإخوان المسلمون ضمن أي احتجاج، وليس من عاداتهم مُساندَة أو دَعْمَ أي كان، باستثناء أعضاء حزبهم، وطلبت قيادات “النهضة” من عناصرها عدم المُشاركة في انتفاضة تونس، لأن القيادة كانت تُفاوض النظام (في جنيف، وفي بروكسل، وغيرها) لإطلاق سراح مساجين الإخوان (وليس العفو التشريعي العام، أو إطلاق سراح كافة مساجين الرأي) وعودة المنفيين من أوروبا، ورغم مُشاركة مُناضِلِي اليسار، كأفراد، كانت الإنتفاضة عَفْوِيّة وبدون قيادة وبدون أهداف مُحدّدة، وبدون بديل للنظام المَرْفُوض، رغم الشعارات التي كانت ذات طابع طَبَقِي ووطني…
لم يبدأ الإخوان الملسمون بالظهور، سوى بعد ثلاثة أيام من فرار زين العابدين بن علي (يوم 14/01/2011)، وكانت تسمح لهم المساجد بالتلاقي، خلال سنوات الحَظْر، فأعادوا تنظيم حزبهم بسُرْعَة، بفضل المال والإعلام الخليجيّيْن، وكذلك بفضل القاعدة الشعبية التي كانت تدعمهم كمُضْطَهَدِين، وفَسّرَ العديد ممن منحوهم أصواتهم، بأنهم اختاروا الإخوان المسلمين، لأنهم صَدّقوا زعماء “النهضة” عندما ادّعَوْا أنهم “يخافون الله” فلا يستولون على المال العام، وجَرّبُوا السّجون، فلا يَضْطَهِدُون أبناء الشعب، وأظهرت التّجربة سريعًا، أن الإخوان المُسلمين في تونس وفي مصر وفي المغرب واليمن وتركيا، وغيرها، يتشبّثُون بالحُكْم، ويتحالفون مع الشيطان، من أجل المُحافظة على المناصب والمال والحوافز المادية، ويتحالفون مع رجال الأعمال اللصوص والفاسدين، ومع زُعماء ورُموز نظام حزب “الدستور” في تونس (حزب بورقيبة وبن علي) ومع حزب حسني مبارك، في مصر، وأقر الإخوان المسلمون في تونس وفي مصر قوانين تُعفِي لصوص الأنظمة السابقة من المحاسبة ومن العقاب، بعنوان “المُصالحة”، وأصبح الإخوان المسلمون أداة غسيل أو “تَدْوِير” الأنظمة السابقة، بدعم من الإتحاد الأوروبي والإمبريالية الأمريكية (التي تُطلق عليهم صفة الإسلام السياسي “المُعتدل” ) وصندوق النقد الدولي، وأَعاد الإخوان المسلمون في تونس كما في مصر إحياءَ المُمارسات الزّبائنية للأنظمة التي انتفضت ضدها الشُّعُوب، وبدل اهتمام الدّولة بالفُقراء، عبر توفير العمل والمسكن والرعاية الصحية والتعليم، أصبح الإخوان المسلمون يُوَفِّرُون بعض الخدمات الإجتماعية والمساعدات، عبر آلية تَربُطُ الفقراء بالحزب الحاكم، واستخدموا المساجد، ليس “لِذِكْر الله”، وإنما لإعادة إنتاج العلاقات الزّبائنية، ورَبْط الفقراء والعاطلين عن العمل والمُهمّشين بجهاز الحكم، عبر الحزب الذي تمكّن، بفضل هذه الأساليب، من السيطرة على الأحياء الشعبية، وعلى سكان المناطق الفقيرة، الذين انتفضوا ضد الدّساترة، ليجدوا أنفسهم تحت رحمة الإخوان المسلمين، وكانت النتيجة، حصول “النهضة” (الإخوان المسلمين) على أغلبية مُطْلَقَة، أو نِسْبِيّة، في كافة الإنتخابات التي جرت في تونس، منذ انتخابات المجلس التأسيسي (تشرين الأول/اكتوبر 2011) إلى الإنتخابات التشريعية سنة 2019…
يُفْتَرَضُ توجيه كافة السّهام نحو النظام والأحزاب الحاكمة، واليسار ليس جزءًا من منظومة الحُكم (في تونس أو في مصر)، لكن يتعين تحليل أسباب وهَن اليسار، وأسباب فَشَلِهِ في صياغة البدائل، وفَشَلِهِ في قيادة النضالات، والإستيلاء على السّلطة، عندما كان ذلك مُمْكِنًا، ليس عبر الإنقلابات، بل عبر “الشرعية الثّوْرِيّة”، وعبر الدفاع عن مصالح جمهور العُمال وصغار المزارعين والكادحين والمُنْتِجِين والفُقراء…
كان اليسار (دون الخَوْض في التفاصيل) متواجدا بقوة نسبية في نقابات الأُجَراء (الإتحاد العام التونسي للشغل)، وفي منظمات ما سُمِّيَ “المجتمع المدني” (حقوق الإنسان والحقوق الإقتصادية والإجتماعية) ومجالات الثقافة وغيرها، لكن مكونات اليسار، والتيارات القومية، لم تكن تمتلك برنامجًا أو بديلاً للنظام القائم، ولم تَدْرُسْ أو تَطْرَحْ بدائل ممكنة وقابلة للتطبيق، لنمط الإنتاج السائد، ولنمط التنمية ولم تكن هذه الفصائل تمتلك رُؤْيَة أو برنامجًا يهدف تدبير الموارد الكفيلة بالإستثمار في القطاعات المُنْتِجَة، واستيعاب البطالة والقضاء على الفقر، والإهتمام بالزراعة، لتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، وقطع الصلة مع مؤسسات “بريتن وودز” (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي…)، وغير ذلك من الحلول للإقتصاد التابع، وعمومًا لم يُنتج اليسار بحوثًا ودراسات وبرامج تُؤَهّله لقيادة حركات التّغْيِير الجذري، ناهيك عن حُكْم البلاد، كما لم يُنتج قيادات ورموز شعبية، مثلما الحال في أمريكا الجنوبية، بل ساهم يسار تونس في إجهاض تجمعات “القَصَبَة” وفي تحويل إطار، “لحماية الثورة”، إلى إطار إصلاحي قانوني، سنة 2011، وطالب اليسار بمجلس تأسيسي، دون أن ينتج دراسات أو مُقترحات، حول محتوى الدستور الجديد، ولا عن موازين القوى، فكان الدستور الجديد صورة لميزان القوى بين فئات من البرجوازية المرتبطة مصالحها بالإمبريالية، وزادت القوانين التي فَصّلت هذا الدّستور من تَقْنِين أو شَرْعَنَة التركيبة الطّبقية للدولة وتقنين وشَرْعَنَة الإستغلال، وغير ذلك من النتائج السلبية العديدة التي جناها التقدميون والكادحون والفُقراء من مرحلة ما بعد 2010، وعلى أي حال فإن النضال ضمن مؤسسات النظام القائم، لا يمكنها أن تتجاوز بعض الإصلاحات الشكلية أو الطفيفة، ولذلك يناضل اليسار والشيوعيون من أجل نظام آخر، لكن ذلك يتطلب يسارًا جِدِّيًّا، يُناضل في أماكن العمل وفي الأحياء والمناطق الشعبية، عبر توحيد حركات الإحتجاج المختلفة، ومن أجل بعض الإصلاحات، على مدى قصير، ومن أجل تغيير جذري، على مدى متوسط أو طويل، وتحويل الغضب الذي يتسم برد الفعل، إلى ثورة تتسم ببناء بديل “مُسْتَدام”، مع فئات المُنْتِجِين والكادحين والفُقراء، وكل المُتَضَرِّرِين من النظام القائم…
لم تتمكّن قُوى “الجبهة الشعبية” (ائتلاف حركات قَومية واشتراكية) من الإستفادة من نضالات عديدة حصلت بعد 2011، وأهمها نضالات شباب المناطق المحرومة في سليانة والقصرين وسيدي بوزيد، ونضالات مُزارعي “جمنة” الذين فَرَضُوا تسييرًا ذاتيا لأراضيهم التي استعادوها، بعدما استولى عليها الإستعمار الفرنسي، ثم الدولة التونسية، ونضالات سُكّان جُزُر “قرقنة” ضد نَهب الشركات الأجنبية للطاقة، ونضالات شباب منطقة حقول النفط في جنوب البلاد (تطاوين – البُرْمَة – الكامور)، والإحتجاجات ضد إفلات الفاسدين من العقاب، والإحتجاجات ضد قانون المالية الذي يفرض ضرائب و”تضحيات” جديدة، يتحملها الفُقراء والأُجراء، بينما يستفيد الأثرياء من امتيازات إضافية (ميزانية 2018)، وغيرها من النضالات، التي أظْهَرت تَوفُّرَ الأرضية الخصبة للتغيير الجذري، فكانت فُرَصًا مهدورة، للإرتقاء بالنضالات المطلبية، وتحويلها إلى نضالات طبقية، ضد التحالف الطبقي الحاكم، الذي دعم منظومة الحُكْم المبنية على السرقة والفساد وإهدار المال العام والثّروات الطبيعية…
إن ما ذُكِرَ عن تونس، يمكن سَحْبُه على مصر، في خُطُوطِهِ العامة، وليس في التفاصيل، فلكل من الحالتين خصُوصِيّتها…
نواقص الإنتفاضات، أو الحلقة المفقودة:
انطلقت معظم الإحتجاجات من الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وظهر ذلك في المطالب المعيشية التي كانت أساس كل حركات الإحتجاج، لكن الإنتفاضة تميزت بغياب القوة المنظمة لها، والتي كان يمكن أن تَقُودَها، وتُصَوِّبَ الأخطاء، باتجاه تحقيق الأهداف المَرْسُومة، وتميزت كذلك بغياب البرنامج وعدم وضوح الأهداف، وغياب خطط لتحقيق المطالب والشعارات المرفوعة، التي أطلقت شرارة الإنتفاضة، في ظل وضع سياسي كان مُغْلَقًا (سنة 2010 و 2011)، يمنع العمل السياسي، خارج حزب السلطة، ويقمع الحريات الأساسية، ولذلك لم تتمكن الإحتجاجات من تأسيس آلية للتغيير الاجتماعي، مما يَسَّرَ على الأنظمة الحاكمة، ومن وراءها (الإمبريالية الأمريكية والأوروبية) تغيير رأس النظام في تونس ثم في مصر (بإشراف مباشر من ممثل الإمبريالية الأمريكية “جيفري فلتمان”، السفير السابق في لبنان) وبقي النظام قائمًا، بل وقع تعزيزه بإدماج بعض القوى الرجعية التي كانت خارجه، مع بقاء السلطة ضمن دائرة الهيمنة الرأسمالية الإمبريالية، وبذلك وقع احتواء الإنتفاضة من قِبَل دوائر السلطة، مع تغيير شكل الهيمنة، فأصبح الشعب (أو من يُشارك في عملية الإنتخابات) يُساهم، بشكل غير مباشر، في عملية النّهب وارتفاع الأسعار والدّيون، لأن أجهزة السّلطة أصبحت تحت إشراف هيئات مُنْتَخَبَة، وليست مَفْرُوضة بالقُوّة، أو بتزييف نتائج الإنتخابات…
ترك انهيار اليسار فراغًا كبيرًا في الساحة، وبرز ذلك في انتفاضات 2010/2011، كما في احتجاجات لبنان والعراق والجزائر، حيث يبدو واضحًا افتقار القوى المشاركة في الإحتجاجات ضدّ السياسات الاقتصادية، للأدوات الضرورية لإنجاح وتطوير هذه الإحتجاجات، كالقيادة القادرة على تنظيم الصّفُوف، وتغيير التكتيكات، بحسب رُدود النظام، ولبناء تحالف القُوى المتضررة من السياسات النيوليبرالية، ما جعل المنظمات المَوْصُوفة “غير حكومية”، أو ما سُميت منظمات “المجتمع المدني” (التي انخرط بها عدد هام من مناضلي اليسار) تملأ الفراغ، في مُحاولة لقيادة الإحتجاجات، وإعادة توجيه بوصلتها نحو المُطالبة (أو الإكتفاء) بإصلاحات طفيفة، لا تعرقل مسار الهيمنة الإمبريالية المباشرة، أو الهيمنة بواسطة الشركات العابرة للقارات وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ولكي لا تُطالبَ جماهير المُنتفضين بإلغاء الدّيون، وتأميم الثروات، وبدل ذلك ارتفعت الديون الخارجية وزادت وتيرة الخصخصة، وتفكيك القطاع العام، في مجالات النقل والسكن والصحة والتعليم والكهرباء والمياه وغير ذلك من القطاعات الحيوية…
أظهرت احتجاجات الشُّعوب العربية، من المغرب إلى العراق، افتقاد القوى التقدمية إلى برامج وسياسات وخطط وتحالفات ذات صبغة طبقية، للدّفاعِ عن مصالح العُمّال والكادحين والأُجراء والفُقراء، ضد سلطة رأس المال، ووكلائِه (البرجوازية الكُمبرادورية)، ومنظماتِه، ولِخَلْقِ أو تعزيزِ موازين القوى لمصلحة الفئات المتضررة من السياسات النيوليبرالية، واستغلال الفراغ أو انهيار السّلطة الذي حصل (لفترة وجيزة) في تونس وفي مصر، لافتكاك السلطة، وتجسيد التّغيير الذي تُطالب به حُشُود المُتظاهرين والمُعتصِمين في ساحات “القصبة” (تونس) و”ميدان التحرير” (القاهرة)…
كانت الإنتفاضات عَفْوِيّة، فَجّرَها الضّغْط الإقتصادي والإجتماعي، ولم تَكُنْ مُؤامرة كما يُشير البعض، وإنما استغلّت القوى الإمبريالية والمنظمات غير الحكومية، وقوى الدّين السياسي، وغيرها، وضع الإنفجار، والفراغ واستغلّتْ غياب قيادات تُعبِّر عن إرادة المُنْتَفِضِين، لتستوْلِي قوى رجعية (مثل الإخوان المسلمين، أو من النظام السابق)، على السلطة، بدعم من الإتحاد الأوروبي ومن الولايات المتحدة، وما وراءهما من شركات عابرة للقارات، ومن منظمات “غير حكومية”، فيما يُراقب الأُسْطُول السادس (الأسطول الأمريكي في البحر الأبيض المتوسّط)، والسفارة الأمريكية، وسفارات الإتحاد الأوروبي، الوضع عن كَثَب…
لا يَبْدُو أن القوى التقدمية واليسار استفادت من هذه التّجارب (وهي ليست الأولى)، بل تدهوَرَ وضعها، ولم تطرحْ (أو لم تَنْشُرْ) أحزاب اليسار في تونس أو في مصر أو في غيرها تقييمات واستخلاصات، من هذه التجارب (التي كلفت الفُقراء غاليا)، وبالأخص لم تطرح آفاقًا مستقبلية، لتجاوُزِ هذا الوضع…
لم تهتم الإنتفاضات العربية بشكل، وطريقة إدارة الثروات، أو بفك الإرتباط مع الإمبريالية، ورغم مُشاركة العديد من الشبان المُتخرجين من الجامعات، لم يقع تطوير خطط لمشاركة ذوي المواهب والكفاءات في برامج تنمية اقتصادية وتكنولوجية، وغيرها من الخطط التي تُمكّن من توظيف هذه القدرات، ضمن برنامج تنمية شاملة، بل لاحظنا ارتفاع عدد الباحثين وذوي المؤهلات العلمية، الذين هاجروا، أو وقع تهجيرهم، إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، فيما اشترت مَشْيَخَة “قطر”، بعض الباحثين والمُدرّسين الجامعيين اللاهثين وراء المال…
لن يمكن للإنتفاضات العفوية أن تتحول إلى ثورة واعية، في غياب أداة ثورية، وبرنامج ثوري، وأهداف ثورية، تعمل على “فك الإرتباط” مع أسباب الغضب، أي القطع مع استنزاف الموارد، ومع احتكارها والإستحواذ عليها من قِبَل الشركات العابرة للقارات، وتعمل على الإعتماد على الذات، بدل الإقتراض ومراكمة الدُّيُون، ووجب العمل على إلغاء الدّيُون، وتوجيه الموارد نحو الإستثمار في الزراعة، وفي تصنيع فائض الإنتاج الزراعي، الذي يضطر الفلاحون إلى إتلافه، والإستثمار في الطاقات المتجددة التي يمكن تطويرها عبر استغلال الشمس والرياح، وفي تحويل المواد الأولية، الزراعية أو المعدنية، بدَل تصديرها خامّة، ويُؤدّي تطبيق مثل هذا البرنامج البسيط إلى تشغيل فائض العَمالة، وإلى استغلال قُدُرات عشرات الآلاف من الشباب المُعطّلِين، من ذوي المُؤهّلات العلمية، ولكنه يتطلب الإستعداد لمواجهة الإمبريالية وأدواتها من شركات احتكارية ومؤسسات مالية، خصوصًا صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، ولنا في الإنقلابات التي تنظمها الولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية دليل على ما ينتظر أي نظام وطني أو تقدّمي أو اشتراكي، في الوطن العربي…
يُشكّل غياب هذه الأداة الثّورية، الحلقة المفقودة في الإنتفاضات العفوية، سواء في بلاد العرب، من تونس 2010 إلى لبنان والعراق 2019، أو في غيرها من بلاد العالم.
التعليقات مغلقة.