واقع وآفاق اللغة العربية / الطاهر المعز

الطاهر المعز  ( تونس ) – الأربعاء 1/1/2020 م …

تقديم:




أطلقت حكومات بعض الدّول الإستعمارية، وفي مقدمتها فرنسا، حملةً مَدْرُوسة ومُغْرِضَة لبث الخوف والرّهبة من اللغة العربية، باعتبارها “لغة الإسلام”، والمُسلمين، ويُروج الإعلام والحكومات أن الإسلام والمسلمين المُفترضين (أي المهاجرين وأبنائهم من العرب والأفارقة) مُرادف للإرهاب، الذي خلقته الدول الإمبريالية، وخاصة منذ انهيار الإتحاد السوفييتي (العَدُوّ التّقليدي لفترة سبعة عُقُود)، ومنذ العدوان على شُعُوب العراق وأفغانستان، ولا تولي الجامعة العربية ولا حكومات الدول العربية أي اهتمام لمثل هذه القضايا التي تستهدف تُراثَنا وتاريخنا، وحاضرَنا وثقافتنا، لأن أنظمة الدّول العربية لا تُمثّل مصالح شعوبها، بل تُمثّل مصالح الإستعمار الجديد، والشركات العابرة للقارات، وهي فئات اجتماعية (طبقية) لقيطة، فاقدة للجُذُور، وأفرادها فاقدون للكرامة، ويجدر التنويه أن اللغة العربية سابقة للإسلام، فسوق عكاظ، والمُعَلّقات المكتوبة بماء الذهب، والمُعلّقَة في “الكعبة”، سابقة للإسلام، لكن للإسلام فَضْلُ نَشْرِ اللغة العربية لدى شعوب أخرى، في آسيا وإفريقيا، لأنها لُغة القرآن، ولغة العبادات…

تُعتَبَرُ اللغة العربية جُزْءًا من هوية وتاريخ وحضارة مئات الملايين من البشر، خلافًا لِلُغات أُخْرى سائدة، مثل الفرنسية، فالعربية من أَقْدَمِ لُغات العالم، وتتميز بخصائص تُساعد على تعلّمها، ومن بينها صلابة قواعد النّحو والصرف والرسم والتّركيب، بفضل المعاجم التي نُشِرت مُبكِّرًا، منذ القرن السابع (ميلادي)، ولقلة الحالات الشاذة، في الإعراب، والتناغم بين الكتابة والنّطق بالكلمات، وأصبحت اللغة العربية إحدى اللغات الأكثر انتشارًا في العالم، ولكنها لا تنال حظّها في وسائل الإعلام وفي أنظمة التعليم العربية، وكذلك في وسائل الإتصال (أو التّواصل) المُسمّى “اجتماعي”، حيث يستخدم العديد من العرب اللهجات المَحْكِيّة المَحلِّيّة (العامِّيّة)، ما يُضَيّق من أفق التعبير والإشعاع، لأن اللهجات تختلف داخل البلد الواحد، كما يمرّ “اليوم العالمي للُّغة العربية” (18 كانون الأول/ديسمبر من كل عام)، بدون ضوضاء، تجنُّبًا للخوض في واقع اللغة العربية والصّعوبات التي تُلاقيها، وتجنُّبًا للخوض في أُفُقِها ومُسْتَقْبَلِها، في ظل هيمنة اللغة الإنغليزية، لُغة الإمبريالية المُهَيْمِنَة على العالم، وفي ظل غزو البذاءة في شكل ومضمون “الإنتاج المَحَلِّي” العربي لوسائل الإعلام، وللتلفزيون، بشكل خاص، سواء عبر البرامج الإعلامية، أو المُسلسلات أو عبر البرامج التي تُوصف ب”الترفيهية”، وهي من أخطرها على اللغة العربية، إلى جانب الأخطاء اللغوية في الخطابات الرسمية وبيانات المؤتمرات والمُنظمات السياسية والنقابية التي تَنْتَهِكُ قواعد اللغة.

العربية، لُغة عالمية:

أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1973، خلال انعقاد دَوْرَتها الثامنة والعشرين، يوم 18 كانون الأول/ديسمبر من كل عام، يومًا عالميًّا للغة العربية، لِتُصْبِحَ لُغَتُنا لغة رسمية من لغات الأمم المتحدة، وكان الرئيس الجزائري الراحل “هواري بومدين” أوّل رئيس يُلقِي خطابًا باللغة العربية، خلال الدورة الطارئة للأمم المتحدة من أجل نظام اقتصادي عالمي جديد (أبريل/نيسان 1974)، وأصبحت منظمة الثقافة والعلم والتربية (يونسكو) التابعة للأمم المتحدة تحتفل، منذ العام 2012، بيوم اللغة العربية، وهي اللغة الرسمية لنحو 430 مليون نسمة في البلدان العربية، يؤدّون بها طقوسهم الدينية الإسلامية والمسيحية، وتنتشر أيضا في البلدان المجاورة، أو ذات الديانة الإسلامية، لأنها لغة القرآن، كتاب الإسلام، الذي يؤمن به نحو 1,2 مليار نسمة، وهي لغة ثَرِيّة جدًّا، وتتميز بالدقة، وهي قابلة لاشتقاق كلمات جديدة، بسهولة نادرة لا تتوفر في معظم لغات العالم، ويمكن لمستخدمي اللغة العربية إنتاج مفردات وتراكيب وصِيَغ جديدة (في المجال العلمي والتقني) انطلاقًا من “الجذر”، أو ما يُعرف ب”الإشتقاق”، الذي تسمح به اللغة العربية، التي تتميّزُ أيضًا بفرادة نطق الأصوات ومخارج الحروف، من الشفتين (الميم والباء) إلى أقصى الحلق (الخاء والقاف) وهي رابع لغة من حيث الإستخدام في شبكات التواصل المُسمّى “اجتماعي“…

تتألف الأبجدية العربية من 28 حرف، ويقدّر العدد الإجمالي لكلماتها بنحو 12 مليون كلمة، مقابل 150 ألف مفردة في اللغة الفرنسية و 130 ألف مفردة في اللغة الروسية ونحو 600 ألف مفردة في اللغة الإنغليزية، واحتوى معجم “لسان العرب”، لابن منظور ( 1232 – 1311 ) أكثر من ثمانين ألف مادّة، مقابل 42 ألف مادة في أهم قاموس إنغليزي، في القرن الثامن عشر، ما يجعل العربية إحدى أثْرَى لُغات العالم، واللغة العربية دقيقة جدًّا، حيث تتعدد الأوصاف والنُّعوت والأسماء، ليحمل كل وصف أو كل إسم، سِمَةً (ولو صغيرة) تُميّزُه عن البقية، وهي ليست مرادفات، رغم التّشابُه، والعربيةُ من إحدى اللغات القليلة التي تستخدم التّثْنِيَة، أو المُثَنّى، في الأسماء والأوصاف، وفي النّحو وتصريف الأفعال، ولهذه الأسباب، وبفضل هذه المزايا، حاز الشعر (والصّور الشعرية) مكانة استثنائية في اللغة والثقافة العربية، التي تطورت، بعد الإسلام، واستفادت من لُغات الجيران، أو من انتشار الإسلام، وتوسّع الدولة الإسلامية، فأدْمجت ألفظًا ومعاني جديدة، كما أَدْمَجت العُلوم “الصحيحة” والطب والكيمياء والرياضيات والفلك والفلسفة وغيرها، لتصبح اللغة العالمية الأولى، طيلة قُرون الظلمات الأوروبية، وبقيت عُلُوم العرب تُدرّس في جامعات أوروبا، حتى القرن التاسع عشر، أي حتى تحول أو تطور الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية، وما صاحبها من احتلال وعنصرية واستنقاص من ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى، لكن العربية حافظت على الصيغ الأساسية التي تتميز بها، كالصيغة والتركيب والنحو والصرف وموسيقى الكلمات…

مواجهة الإحتلال:

استهدف الإحتلال البريطاني لمصر (1882) اللغة العربية، وصدر تقرير اللُّورْد “دوفرين”، خلال نفس السنة، وتضمّن التقرير: “… إن أَمَلَ التّقدُّم ضعيف في مصر، مادامت اللغة العربية الفُصْحى سائدة…”، كما صرّح الإستعماري الإنغليزي “ويلكوكس”: “إن استخدام المصريين اللغة العربية الفصحى جعلهم يفقدون القدرة على الإختراع…”، وغيّرَ الإستعمار الإنغليزي المناهج الدراسية، ولُغة التدريس، إلى أن تولّى “سعد زغلول” وزارة المعارف، فغير المناهج ولغة التدريس، فأمر بتعميم اللغة العربية، أما الإحتلال الفرنسي للمغرب العربي وإفريقيا الغربية والوسطى، وللشام، فقد حاول اجتثاث اللغة العربية، ولا تزال الجزائر تُعاني حتى اليوم من هذا الشكل من الإستعمار (الإستعمار اللغوي والثقافي)، ويُدافع الباحثون الإستعماريون على إعادة إحياء العبرية التي كانت لغة عبادة، فقط، ليستخدمها المُسعتمريون الإستيطانيون في فلسطين، كلغة رسمية، كما يدافعون في نفس الوقت على عملية اغتيال اللغة العربية، التي قاومت الغزوات المختلفة طيلة عشرين قرن أو أكثر. أما في مرحلة الإستعمار الجديد فأصبح العرب الموالون للإستعمار يُحاولون قَتْل اللغة والحضارة والثقافة العربية، بواسطة وسائل عديدة، ومن بينها: استخدام مناهج تدريس اللغات اللاتينية وإسقاطُها على اللغة العربية، والتّخَلِّي عن تدريس النّحو والصّرف في المناهج التعليمية، وإهمال الإعراب، وعدم الإهتمام بأخطاء الرّسم (رسم الهمزة، على سبيل المثال)، سواء في النصوص المكتوبة، أو في التعبير الشّفَهِي، بالتوازي مع نشر اللهجات المحلية (أو العامِّيّة) في المسرح ووسائل الإعلام، ودعا بعضهم إلى استبدال الحروف العربية بحروف أعجمية (لاتينية)، والتّسامح في إدراج مجموعة من العبارات والألفاظ الأجنبية، في الخطاب أو النّص المكتوب باللغة العربية، وساعدَ بعض السياسيين المرموقين والشّعْبِيِّين، بشكل غير مُباشر، وبدون قَصْد، أعداءَ العربية، بخطاباتهم (الحماسية أحيانًا) التي لا تحترم قواعد اللغة، من خلال نَصْبِ الفاعل ورفع المفعول به، والإعتداء على وظيفة كان وأخواتها، فينصبون إسم كان، ويرفعون خَبَرَها، ويفعلون العكس مع إن وأخواتها، قبل ظُهُور شبكات التّواصل المُسمّى “اجتماعي”، حيث يكتب العديد من مستخدميها باللهجات المحلية والعامية، ما خلق شُرُوخًا جديدة، لا لُزُوم لها، لأن من ذهب إلى المدرسة وتعلّم القراءة والكتابة، يقرأ بالعربية الفُصْحى، بل ويُجيد استخدامها العديد منهم، ولا فائدة في إزعاج سيبويه في قبره، عبر الكتابة بلغة غريبة، فالعربية تُوحّدُنا واللهجات المحلية والعامّية تُفرِّقُنا، وعلى سبيل المثال، يعسر على مواطن مصري أو عراقي أن يفهم (في بداية الأمر) محتوى خطاب مواطن من ريف المغرب أو الجزائر، بلهجته العامّية، المُشتقة من العربية، ناهيك عن اللغات الأخرى مثل البربرية (الأمازيغية).

المخاطر التي تتهدد اللغة العربية:

يقُول جَدُّنا عبد الرحمان بن خلدون، وأيَّدَهُ “فرانتز فانون”، أن المَهْزومَ يتشبّهُ بالغالِب، إذ يعتقد أنه ما غَلبنا سوى لأنه مُتفوّق حضاريًّا، وبلغت محاولة “التّشَبُّه بالغالب” حد التّخلِّي عن اللغة العربية، والتخاطب أو الكتابة بلغة المُستعمر الأجنبي، طواعية وعن اختيار انتهازي، بغية “الخلاص الفَرْدِي”، والتّرقي، ونَيْل رِضا المُسْتَعْمِر، ويظهر التشبه بالمستعمر، ربما بدون قَصْد، في شكل ومحتوى ما ينشره شباب العرب في أدوات الشبكة الإلكترونية، فقد تُؤدّي متابعة منشورات منصات التواصل “الإجتماعي” إلى إحصاء عشرات الأخطاء (التركيب والنحو والصرف والرّسم) في نصوص قصيرة جدًّا، ما يُنْذِرُ بكارثة، بدأت قبل ظهور منصّات التواصل، فعندما يتجول أحدنا في المُدُن العربية، يرى لوحات الإعلانات الضّخمة، ولافتات المحلاّت التجارية، باللهجات المَحَلِّيّة أو بلغات أجنبية، مكتوبة بخط عربي رديء…

يُقدّر عدد اللغات التي كتبت بالحرف العربي، على مر التاريخ، بأكثر من مائة لُغَة، وأهمها الفارسية، والتركية، قبل انهيار الدولة العثمانية، وهي لغة الطقوس الدينية الإسلامية في العالم، والطقوس المسيحية في المشرق العربي، ويوجد في بعض المناطق داخل الوطن العربي، سكّان يتعاملون في حياتهم اليومية، بلغات أخرى، غير اللغة العربية، أهمها اللغة الكُرْدِيّة (الشام)، والأمازيغية في المغرب العربي، من ليبيا إلى المغرب، والنّوبية (في المناطق الحُدُودية، بين جنوب مصر، وشمال السودان)، ولغات أخرى أقل انتشارًا، فيما يتكلم العربية سكان بعض المناطق الإفريقية المتاخمة للبلدان العربية (مالي وتشاد والسينغال…)، وكذلك بعض مناطق آسيا، فبعض المجموعات السكانية من أصل عربي، والبعض الآخر يتعلم العربية لقراءة القُرآن وأداء الفُرُوض الدينية الإسلامية…

تَعتبر دساتير معظم البلدان العربية اللغة العربية لغة رسمية للدولة، ولغة التعليم، لكن بعض هذه الدّول تُشجع، بشكل مباشر أو غير مباشر، على تَهْمِيش اللغة العربية، التي تتهدّدُها عدة مَخاطر، حيث تُواجهه اللغة والثقافة والحضارة العربية، في بعض البلدان الأوروبية (أهمها فرنسا ) وبعض البلدان الآسيوية كالهند والصين، وغيرها، لكن انتشر، خلال العقود الأخيرة، خطر إهمال اللغة العربية، واستخدام اللغات الأجنبية، أو استخدام اللهجات المحلية، داخل الوطن العربي، من قِبَلِ الحكومات، أوّلاً، وبدعمٍ من مؤسسات امبريالية، ومنظمات “غير حكومية”، ومراكز ثقافية أجنبية، ويمكن تقسيم هذه الأخطار إلى قسمين، أَوَّلُهما استخدام اللَّهَجَات المحلية في وسائل الإعلام، وفي الإشهار وغير ذلك، وثانيهما، استخدام اللغات الأجنبية، في مجالات العلم والتكنولوجيا، وحتى في مجالات التواصل بين سكان نفس البلد، أو ما يُمكن إدراجه ضمن “الإزدواجية اللُّغَوِية”، كما الحال في المغرب العربي، وخاصة في الجزائر، حيث لا تزال لُغة المُسْتَعْمِر الفرنسي سائدة في عدة مجالات حيوية، ما يُثِير مسؤولية السلطة السياسية، في خلق مشاكل عديدة، تُؤثِّرُ على وحدة الشعوب، وعلى مستوى التعليم وعلى استيعاب الطلاب للدروس العلمية بصورة أساسية، فاللغة من مُقوّمات الهوية الجَمْعِيّة لشعب أو لشعوب (كالشعوب العربية) أو مجموعة من السّكّان، لأنها مُرتبطة بالتواصل اليومي، وبالتعليم وبالإعلام والإنتاج الثقافي، وغيرها، ولا يُمكن تطوير أي لُغة، خارج سياق استخدامها في الحياة اليومية وفي التعليم وإنتاج البحوث والدّراسات، ضمن متابعة التطورات العلمية والتقنية…

إلى جانب هذه المخاطر الخارجية، استعادت “جمعية الإنجيل العالمية”، والمنظمات التَّبْشِيرِيّة الإنجيلية اليمينية الأمريكية تراث “البعثات” التي أنشأت المدارس ودور العبادة والهيئات الثقافية في القرن التاسع عشر، واستغلت وضع الجزائر، أثناء عقد الحرب الأهلية (العقد الأخير من القرن العشرين)، فأنفقت مبالغ كبيرة، لنَشْرِ الإيديولوجيا المسيحية-الصهيونية، عبر ترجمة الإنجيل إلى اللغة الأمازيغية، وإلى اللهجات المَحلِّيّة، وإغراء الشباب بتأشيرات دخول إلى أوروبا وأمريكا، وبرحلات ومِنَح دراسية، وبعد تحول عدد هام من الجزائريين (في مختلف مناطق البلاد) إلى المسيحية، أصبحت الولايات المتحدة تُطالب (باسمهم) بالحريات الدّينية، وحُرِّيّة العبادة، وحققت بذلك الإمبريالية الأمريكية عدة أهداف، أهمها تعميق انقسام الشعب الواحد، وإضْعاف مكانة الجزائر في محيطها العربي والإفريقي…

استطاعت اللغة العربية الصّمود، لعدة قُرُون، وتمكّنت من خلق كلمات جديدة لاكتشافات الشعوب الناطقة بلغات أخرى (درّاجة وسيارة وحاسوب…)، حتى القرن العشرين، ولكن أصبحت اللغة والثقافة العربية تواجه العديد من التحديات، من بينها ازدواجية استخدام الفصحى والعامية، بالإضافة إلى اللغات الأجنبية (الإنغليزية، بشكل خاص، بحكم هيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم) وبسبب ظاهرة ضحالة الإنتاج العلمي، وقلة الإنفاق على البحث والتطوير والإختراع، ما يؤدّي إلى ضُعْف استنباط المصطلحات العلمية، وذلك بسبب ضُعْف، أو غياب، الإرادة السياسية، وبسبب عَمالة الحُكّام العرب للإمبريالية، فهم لا يُدافعون عن مصالح شعوبهم، وثقافة ولغة وحضارة البلاد، ولا يهتمون أصْلاً بتطور البلاد ورفاهية الشعوب، وإنما يشغلون منصب وُكلاء القوى والشركات الأجنبية…

هناك مجموعة من الأسئلة التي يتوجّبُ طَرْحُها، بشأن مكانة العربية (وخصوصًا مكانة العرب) في عصر هيمنة اللغة الإنغليزية، في مجالات الإقتصاد والإتصالات والتقنيات الحديثة، بسبب هيمنة “القُطْب الواحد”، وبسبب هجرة الباحثين والعُلماء العرب، من بلدانهم التي أنفقت على تعليمهم، نحو الدول الإمبريالية، حيث تتوفر ظروف العمل والبحث، وتطوير قُدُرات هؤلاء العُلماء في مجالات تخصصهم، لأن الهيمنة العسكرية والمالِيّة الأمريكية (بفضل هيمنة الدّولار)، أدّت إلى هيمنة اللغة الإنغليزية على لغة التخاطب والتواصل في العالم، وخاصة عبر الحاسوب، واللغة أداة تختزل التاريخ والحضارة ونمط التفكير وأسلوب العيش، للشعوب والدّول الناطقة بها (الإنغليزية في هذه الحالة)، ما يُساهم في تهميش اللغات التي لم تستطع شعوبها ودُوَلها مُواكبة العصر، بسبب غياب القرار السّياسي، لأن الدول العربية غنية بالنفط والموارد، لكنها لا تتحكم في مواردها، وفي قراراتها السياسية، وتحكمها طبقات أو فئات مُمثلة لمصالح الإستعمار والإمبريالية، ولا تهتم بمصالح شُعُوبها، فتُساهم الأنظمة العربية – باسم الإنفاتاح أو باسم “العَوْلَمَة” – في نَسْفِ أُسُس الهوية الثقافية العربية، عبر إحلال اللهجات المحلية واللغات الأجنبية (الإنغليزية والفرنسية) محل اللغة العربية الأم، بالتّوازي مع سياسات الإنفاق على السلاح، وعلى تخريب البلدان العربية، والترويج للتطبيع، بل وممارسته عَلَنًا.

لن تنال اللغة العربية حظّها، ما دام يحكمُنا عُملاء يرتبط نظام حُكْمِهِم بدعم الإمبريالية الأمريكية، أو البريطانية أو الفرنسية، وما لم يُدافع عنها أصحابها، عبر رَفْضِ تَسَلُّم أي وثيقة رسْمية بغير اللغة العربية، وعبر المُطالبة بتعريب تعليم المواد العلمية والدراسات والبُحوث في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي

تعتمد جميع دول الجامعة العربية العربية كلغة رسمية أولى، بالإضافة إلى دول أخرى، غير عربية، تعتمد العربية كلغة رسمية، بدرجة أولى أو ثانية، مثل باكستان وتشاد وإريتريا وجيبوتي وغامبيا ومالي والسنغال…

لذا فإن العربية عامل من عوامل توحيد الشعوب العربية، وعامل يُقرّبنا من شُعوب أخرى، أما اللهجات العامية فإنها تُقسّم سكان البلد الواحد، حيث لا ينطق الصعيدي الكلمات كما ينطقها سُكّان الإسكندرية أو الإسماعيلية، في مصر، ويختلف نطق أهل وهران عن أهل تبسّة في الجزائر، ناهيك عن الأمازيغ الناطقين بغير العربية، أو النّوبة (جنوب مصر وشمال السودان)، ولذلك فإن الإهتمام باللغة العربية وتعزيز دورها، يُعَدُّ من عوامل توحيد الشعوب، داخل حدود الدولة القُطْرِية، ومن عوامل التقارب بين الشعوب العربية، والتقارب مع شُعُوب أخرى…

إن اللغة (أي لغة) ليست مُجرّد وسيلة تخاطب أو تواصل، فحَسْبُ، بل هي مُقوّم من مقومات وحدة الأمة، والشعب، ومن أهم الروابط، بين الماضي والحاضر، واللغة وعاء حضاري، وتعبير عن تاريخ وعن ترابط بين الأجيال، وبين أفراد المجتمعات والشُّعوب، وهي تعبير عن إحساس ووُجْدان وشعور، وغير ذلك، ولذا فإن إهمال اللغة العربية، أو تفضيل لغة المُستعمر (بديلا عن اللغة العربية) جريمة في حق التاريخ والحضارة والشعوب العربية، وكل جريمة تقتضي رَدْعًا ومحاكمةً وعقابًا موجبًا للتنفيذ، لكي نُعيد الإعتبار إلى بعض أجدادنا، مثل سيبويه ( عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي، 765 – 816)، وهو من أصل غير عربي، وتتلمذ على الخليل ابن أحمد الفراهيدي (القرن الثاني للهجرة أو 718 – 786)، واضع أول قاموس للغة العربية

المُقترحات:

إن اللغة “كائن حَي”، ينتعش ويحيا أو يهزل ويموت، وفق اهتمام أهله به، فاللغة تنمو وتتطور، من خلال التعليم والممارسة اليومية والكتابة والنّشر، وغير ذلك من شروط إنعاش اللغة، وتتطلّب عملية إعادة الإعتبار للغة العربية إفساح المجال لها لتحتل مساحات الإعلانات والجدران وواجهات المحلات، والفواتير، ووسائل الإعلام، فضلا عن منظومة التعليم، بكل مراحلها، وكافة مواد التدريس، وهذا قرار سياسي وليس قرار تقني أو شَكْلِي، أما الهدف فهو جعل اللغة العربية ترتقي إلى مرتبة الوفاء بحاجيات سكان الوطن العربي، في كافة المجالات، ولا يمكن أن تكون عملية إعادة الإعتبار للغة العربية معزولة عن أهداف التحرر من الإستعمار والهيمنة، وفي نطاق أوْسَعَ، يَشْمل السيطرة على الثروات والموارد، وتلبية الحاجات الإقتصادية للمواطنين، ضمن عملية تحرر وطني من الإستعمار الجديد والإمبريالية، وانتهاج طريقة تنمية تخدم مصالح أغلبية المواطنين…

لدى العرب ما يكفي من المُقومات الأساسية التي تُيَسِّرُ عملية التوحيد، ومن ضمنها التواصل الجغرافي، من المغرب إلى العراق، ووحدة التاريخ واللغة، والطموح والمشاعر، وغير ذلك من العوامل المادّية والمعنوية، ويؤدّي إهمال تطوير اللغة العربية إلى مزيد من الإنقسام والتّجافِي، لذلك من الضروري، خلق هياكل ومؤسسات عربية مُشتركة، في مجالات الفنون والعلوم والآداب، بهدف البحث المُعَمّق في سُبُل التّحرّر من الإستعمار والهيمنة، السياسية والإقتصادية، وغيرها، فالوحدة اللغوية، خطوة نحو كسْر الحواجز وإلغاء التجزِئة، وتوحيد الجهود، وتقاسم الثروات أيضًا، بدل إنفاقها في العدوان على الشعوب الشقيقة…

لقد تمكّن العُلماءُ النّاطقون باللغة العربية من المُساهمة في نقل العُلوم والمعارف والتراث الإنساني الذي أنتجته اليونان والهند والصين، عندما اهتمّ حُكّام العرب آنذاك بالتّرجمة وبالبحث العلمي، الذي أصبح مُهملاً، حاليا، وتُعْتَبَرُ ميزانيات البحث العلمي في الدول العربية من أدنى ميزانيات العالم، ما لا يَسْمَحُ بتطوير العُلُوم من جهة، ولا يسمح بتطوير اللغة العربية، من جهة أخرى…     

يمكن اختزال الخطوات الأولى المطلوبة، كالتالي:

تعميم العربية الفصحى في كافة مراحل التعليم، وتدريس كافة المواد بالعربية، بما فيها الصَّيْدَلَة والطّب

فَرْض اللغة العربية في كافة برامج ووثائق وعُرُوض وسائل الإعلام

حظْر تحرير المُراسلات والوثائق الرسمية والخدمات والمعاملات اليومية والمعاملات المصرفية والوصفات الطّبّيّة، وغيرها، بغير اللغة العربية

تطوير مناهج التّعليم، وتشجيع البحث العلمي، ونشر الدّوْرِيّات المُختصّة باللغة العربية

إحياء مجاميع اللغة العربية وإعادة هيكَلَتِها، وتغيير طرق عملها، لدعم جهود التعريب، ولمتابعة تطورات ومصطلحات العلوم والتكنولوجيا، وتشجيع الشباب على استخدام اللغة العربية، لتعزيز مكانتها ولتطويرها، بهدف تَدَارُكِ تراجع استخدام اللغة العربية عامةً، والفصحى بشكل خاص، في وسائل الإعلام، وفي وسائل الإتصال بين العرب.

تنظيم دورات تأهيل داخلية (وطنية) وعربية لأصحاب الإختصاصات، كالمُدرّسِين والإعلاميين والباحثين وغيرهم، لتبادل الخبرات، ولتوحيد المُصطلحات والمناهج التربوية والتعليمية…  

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.