جماليّات الصّورة الحسيّة والأيروسيّة في قصّة “الضّياع في عيني رجل الجبل”(1) للدّكتورة سناء الشّعلإنّ / الأديب الناقد: عباس داخل حسن

 

عباس داخل حسن ( العراق ) الثلاثاء 29/9/2015 م …

إضاءة:

    إنّ قصص الحبّ تبقى قصص خالدة مادام الإنسان هو صاحب المركز الأسمى في الكون،وقصص الحبّ قصص تفاعليّة؛لأنّ البشر لديهم ذات المشاعر والغرائز والأحاسيس،فهذا النّوع من السّرد القصصيّ يلهب مشاعر القارئ في تجاربه،ويخرجها إلى فضاء الحريّة “التّخيلة” الطّاهرة بدلاً من الحجر المدنّس ” الكبت” .لا سيما أنّ الكبت أصبح من سمات الشّرق المقموع بتابوات سلطويّة متعدّدة،وهذا المنع يصبح مرغوباً فيه ومثيراً للذّة،إضافة للذّّة النّص نفسه وفضاء لكسر التابو والتّوق للتّعبير عن حقّ خصّ الرّجال دون النّساء بسبب رغبة التملّك العارمة والسّلطة الذّكوريّة ” السّلطة بديل الحبّ” .ويقول الرّوائي وكاتب السيّرة والمؤرّخ إندريه مورو (1885-1967) :”إنّ الأعمال التي يلهمها الحبّ لابد إنّ تبقى مازال هناك في هذه الحياة متسع للحنان والجمال” .

    ما لا يستطيع العلم تفسيره هو كيف ومتى يبدأ الحبّ،لكنه يبقى من أسمى المشاعر الإنسانيّة وأرقى الحالات الوجدانيّة على وجه الأرض،ومن دونه لا تستمر الحياة إنّ الحبّ أساس الانسجام واللّذة،ويرتبط بالرّغبة وأساس العلاقات الإنسانيّة.

    الحبّ والعشق ثيمتان رئيسيتان وحجر الارتكاز في أغلب أعمال الأديبة سناء الشّعلان،ممّا يزيد من متعة  السّرد القصصيّ التي تستخدم فيه طاقة تخيلية نافذة،وتفتح أبواباً متعددة حول موضوع الحبّ  ومزج الواقع بالخيال بميكانيزم السّرد بعيداً عن الاختلاق الفنتازيذ.ويقول الرّوائيّ غابرييل غارسيا ماركيز “إنّ أجمل ما يحبّه الأطفال هو الخيال في القصص،وليس الاختلاق الفنتازي،إنّ الفرق بين الأسلوبين مثل الفارق بين الكائن البشريّ والدّمية التي تتكلم من بطنها” .

 السّبب الوحيد الذي يجعل القارئ يعيد قراءة أيّ نصّ أدبيّ لمرات عديدة هو الأسلوب الذي يتطابق مع الأنسنة على الرّغم  من إنّه مكتوب بخيال الكاتب  وتكنيكه الخاص.وهذا ما تجسّده قصة “ضياع في عيني رجل الجبل”.وجعلت شخصيّة بطلة القصّة هي شخصيّّة الكاتبة  لخدمة الخيال السّرديّ في جعل بطلة الحكاية أكثر حيوية ومقنعة بقوة،كلّ ذلك يحدث بفضل الخيال.وقصص الحبّ ليس ظاهرة إنسانيّة تعود للأمس القريب،بل هي ظاهرة منذ أن وجد الإنسان على وجه الخليقة .

     “إنّ الإبداع والأصالة لا تنحصران في أفكار جديدة،بقدر ما تنحصر في التّأليف بين أفكار قديمة،أي أنّنا نعيد ذواتنا والآخر بشكل جديد” (2) .

   والحبّ يتحقّق في الآخر من الوجود ،ويقترن بالجنس،وأنسنة الجنس هي عملية لا يمكن أن تنتهي على الإطلاق؛لأنهّا ديمومة الوجود البشريّ،والإشكاليّة التي تعترض الحبّ والجنس الاختيار والحريّة.و بات عندنا من المحرمات على الرّغم من أنّ الهنود كانوا يمارسونه بوصفه طقساً عبادياً مقدّساً و”الكاما سوترا ” فن الحبّ عند الهنود” أو “حكم الرّغبة الجنسيّة” مثال يدرّس في العالم كلّه بوصفه أساساً للأيروسيّة والجنس.والتّراث العربيّ زاخر  بالكثير من المؤلّفات من هذا الضّرب؛لأنّهت من ثقافة المجتمع السّائدة آنذاك،وهي غير محرّمة أو مبتذلة،وهناك مئات المخطوطات في هذا الضّرب،لم يحقّق أو ينشر منها إلاّ عدد محدود جدّاً،ولو ذكرناها لهالنا العدد الكبير جدّاً،وضاع أضعاف ما موجود على سبيل الذّكر لا الحصر: تحفة العروس،الرّوض العاطر في نزهة الخاطر ، وتنوير الوقاع في أسرار الجماع،نزهة الأصحاب في معاشرة الأحباب،رشف الزّلال من السّحر الحلال.

    وقد ألّف كبار علماء الدّين في هذا المجال،منهم ابن القيم الجوزية وابن حزم الظّاهري ومحمد النّفزاوي واحمد بن يوسف التيفاشي ونصر الدّين الطوسي،كما ألّف الأمام جلال الدّين الأسيوطي ما يناهز 25 مؤلفاً تتعامل مع المسائل الجنسانيّة،كما ألف الكثيرون غيره في هذا الحقل المعرفيّ الذي يرى فرويد أنّ الدّافع الغريزيّ الأساسيّ للأفعال النسانيّة،وبدلاً من دراستها وإخضاعها إلى علم النّفس والطّب والصّحة باتت محجور عليها،وتُقرا كممنوعات مهربة بين أيدي الشّباب العربيذ دون إخضاعها للتنقيّة والتّطور العلميّ والمعرفيّ،ودحض ما علق بها من مغالطات كثيرة جدّاً،كما أنّها انطوت على صواب كبير في معرفة علم الجنس الذي سبقنا به المتقدمين وبقية الشّعوب التي أولته أهمية كبيرة في الدّراسة والتّصنيف.

    لكن مع الزّمن أصبح الحبّ والجنس من المحرّمات الثّلاث “الدّين والسّياسة والجنس” ،وعلى المرأة تجنبه ولو بوحاً أو كتابة نتيجة للانّحطاط والتّراجع الحضاريّ الذي شوّه المجتمع العربيّ،وبات مجرد التّعبير عن بعض الموضوعات  فعل محرم،وبدا التّحايل على هذا الكبت من خلال الرّمز والإيحاء والإعتام المتعمّد حتى عند الذّكور .

    تقول الأديبة سناء الشّعلان في إحدى لقاءاتها المتلفزة “إنّنا أمّة تعاني من كبت نفسي وأمراض شتّى” وهذا مرده لمنع البحث عن الذّات بحرية ومعالجة أمراضنا بمعرفة علميّة،وعلى رأسها الجنسيّة التي عدّها أفلاطون هبة الآلهة للإنسان وطريق التّشويق إلى الخير والخلود .

    والمنع غير مستند إلى أيّ شرعيّة أو مرجعيّة أصيلة وواضحة من السّلطات المتعدّدة التي تختبئ وراء طهارة مزيفة واستبداديّة طاغية حاولت سبغه بالابتذال والانّحطاط والإنكار والأثميّة،وهذا متأتّي من جهل معرفيّ وفلسفيّ متراكم ونكوص في البحث العلميّ والفلسفيّ والأنثروبولجي …إلخ. 

     بدأت المرأة تخوض معركتها في ظلّ هذا المشهد المتشابك والمعقّد   بأسلحتها النّاعمة من خلال الكتابة والكلمة فتقول سناء الشّعلان:” لا أستسلم للصمت والخوف وأحتال على البطش، لكنّني أصمم على أن أقول ما أؤمن به،ولو اخترقت التّابوات كلها،ولكنّني أؤمن بأنّ الحرب النّاعمة أكثر إيلاماً وجدوى في عالم الأدب في حين أنّ المواجهة الكاملة هي نوع من التّعري الفجّ الأحمق لا مبرر له في جلّ الحالات.إنّ الأدب التي تنتجه المرأة في المشهد العربي يشبه حالها وفكرها وتكوينها وظروفها ” (3).

    إنّ قصة “الضّياع في عيني رجل الجبل” تمثل كسر للاحتكار الذّكوريّ في الحبّ الذي تستبد فيه الرّغبة والتّوق النّفسيّ  الذي لا يكتمل دون الأيروس،وفي ذلك يقول الكاتب البيروفي مارغو فارغاس يوسا ” إنّ الأيروسية نزع صفة الحيوانيّة عن الفعل الجنسيّ “،وهذا على درجة كبيرة من الصّحة،ولو اطلعنا على الميثولوجيا الإنسانيّة عند الشّعوب كلّها لوجدنا أنّ الأيروس هو إله الحبّ والرّغبة الجنسيّة والخصب،ولم يك مبتذلاً،بل كان من المقدّسات.

مدخل وحيد للنّص:

      “يشكل العنوان عنصراً أساسيّاً في النّص لا سيما في النّص النّثريّ،فهو المفتاح الإجرائيّ الذي يمكن من خلاله الولوج إلى عالم النّص،وكشف أسراره “(4)،وله قيمة سيميولوجيّة في توصيف النّص واختزال المضمون.” ويعرّف ليو .هـ .هوك  مؤسّس علم العنوان الحديث إنّ العنوان مجموعة من اللسّانيّة التي يمكن إن تُدرج على رأس نصّ،فتحدد وتدّل على محتواها العامّ،وتغري الجمهور المقصود بقراءته .

   ويجتهد الكاتب في اختيار عنوان يلائم المضمون لاعتبارات فنيّة وجماليّة ونفسّية لجعل القارئ يسير تبعاً لمقصديته.العنوان هو الباب أو المدخل الوحيد للنّصّ.

   ومن الملاحظ في كلّ أعمال الأديبة سناء الشعلان  اهتمامها البالغ بصياغة عناوين نصوصها السّردية بدقة،حيث توليها عناية كبيرة من خلال الإيحاء والتّلميح والمجاز الذي تقول عنه الرّوائية الأمريكية “آن لاموت ” :”المجاز أداة لغويّة عظيمة؛لأنّه يشرح المجهول عبر قواعد المعلوم،لكنّها لا تعمل إلاّ إذا  كان لها صدى في قلب الكاتب .

    وينتج من العنوان منتج دلالي من خلال قدرته الإيحائيّة التي تسهم في استشراف للنّص،ومن هنا جاء عنوان قصة ” الضّياع في عينني رجل الجبل “.

    والضّياع مفردة لها إيحاء سايكولوجيّ،ودلالات متعدّدة،فالضّياع يمثّل الضّلال والتيه والاغتراب،وهو يمثّل عجز الذّات المشتّتة والمحرومة،لكن هذا الضّياع في عيني رجل الجبل يوحي بأنّه حالة حبّ بين بطلة القصّة ورجل الجبل.وللعيون هي الأخرى دلالات نفسّية في الثّقافة العربيّة التي تعدّها امتزاج وإشباع عاطفيّ،وللعيون لغتها الخاصّة وإشاراتها التي يفهما العاشق ومن خلال هذا الضّياع إرادة العاشقة أن تصل إلى الثّبات والإيمان والحكمة التي يرمز لها الجبل،وكأنّها تريد القول إنّه من خلال الحبّ وحده يتخلّص الإنسان من متاهاته وحيرته.وهذه الحالة تنازعيّة في النّفس الإنسانيّة “الثورة” ضروريّة لاستمرار الحياة،وهي طبيعة الوجود بأسره .

    فحقّق المجاز فعله في هذا الصّراع النّفسيّ بين الضّياع والإيمان   تعبيراً عن فكرة جماليّة خيرة تتحقق بعاطفة وجدانيّة مشتركة عند البشر “الحبّ” ، بتعبير آخر إنّ الحبّ وحده من يخلّص الإنسان،وليس هناك قوة قادرة على خلاصنا من الضّياع تماثل قوة الحبّ للحياة والآخر والكون  .

   “يهبني دوراً جميلاً يكتب بأريجه حدثاً كونيّاً  فلكيّاً وجوديّاً،تصبح أصوات الغابة ونداءآت الطبيعة وغريزة الاشتهاء “(5)

   ” رائحتكَ خليط من برد الجبل ورذاذ الأمطار وحريق الاشتهاء وطلع النّخيل والعجين الخامر “(6)

الصّور الحسيّة والأيروسيّة:

    تلعب الصّورة بأشكالها جميعاً عاملاً مهّماً في السّرد الحكائيّ،وأغلب القصص والرّوايات تبدأ برسم صورة تكشف عن بطل الحكاية أو المكان الذي يتواجد فيه،وتبرز تطلّعات وأهواء الشّخوص لتمكّن الكاتب من إعطاء رؤيته أقصى مديّاتها في التّأثير على القارئ الذي يعيد تخيل النّص بوصفه صورة مرئيّة،لاسيما أنّ الصّور هي نتاج عمل الحواس،وهي تمثّل بنية النّص الأساسيّة.

  “وإنّ الصّورة ليست بالضّرورة استبدال شيء بشيء آخر،أو تشبيه شيء بشيء آخر،وإنّما قد تستدعي أيّ كلمة حسيّة استجابة الأشياء “(7): “منذ وقعت عيناي عليك اشتهيتكَ”(8).

     والصّور تحمل دال ومدلول؛فالاشتهاء يدلّ على اشتداد الرّغبة والنّزوع نحو الآخر،وهذه إشارة  أيروسيّة نستطيع تلقيها ” بما هو مدرك بالحواس بصريّة أو سمعيّة  أو لمسيّة أو شميّة أو وذوقيّة،ويحرّك خيال المتلقي باستدعاء معلومات ترجع الذّاكرة،فيشي تصوره الحسي للأشياء،وإنّ الأدوات البلاغيّة من استعارة أو تشبيه أو غيرها من آليّات الصّورة “(9)

   ” لا  قيمة لكل رجولتك ولسيفك الرّجوليّ المثير إن لم أكن غمده الأبديّ، لا قيمة لكلماتكّ إن لم يحسن ثغرك الكرزيّ المشهي تقبيلي،لا قيمة لأنوثتي إن لم تسعدك وتفتنك وتمتصك حتى آخر قطرة من رجولتك التي أراهن عليها بكل عمري وجلال افتناني “(10)

    هذه ثورة جسد يريد التّحرر من قيوده وكبته،ويحقق اشتهاءاته من خلال صورة بلاغيّة تلتقطها مخيلة القاري كرموز وإشارات لتحوّلها إلى صور بواسطة الحواس المتعدّدة،لنشعر بنبضها وارتعاشاتها ونداءاتها.

   “ليلتها لبست ملابس بيضاء،ورششت عطراً أبيض،وحملت قلباً أبيض وانتظاراً أحمر لظى،وانتظرتك بكل أنوثتي ورغبتي وعشقي وخفقان قلبي ، وارتعاشات جسدي ونداءات روحي “(11)

يا إلهي كم سأكون أثرى امرأة في التّاريخ البشريّ عندما تأخذني إلى صدركَ،عندما يتكسّر ثدياي على صدركَ،عندما يتآلف كلّ نافر وبارز من جسدينا،فيستقرّ كلّ منها في تجويف جسد الآخر”(12).

   استطاعت القاصة سناء الشّعلان تحويل اللّغة وشيفرتها إلى صور بصريّة وحسيّة تحوّلت بعملية تخيلة إلى لقطات مشحونة بصور أيروسيّة شبقيّة مستفزة بجمالياتها الطّيفيةّ عند القارئ: “  أقسم أنّكَ تعشقني كما أعشقكَ، أقسم أنّكَ في هذه اللّحظة عرّيتني كما عرّيتكَ،أقسم أنّكَ غارق في شهوتكَ كما أنا غارقة فيها منذ رأيتكَ”(13)

   ” أنا أعرف رائحتكَ،جسدكَ،مذاق قبلتكَ،ملامح شهوتكَ،قسمات شبقكَ،وذقت ألف مرة ماء ذكورتكَ،أنا أعرفكَ،نعم أعرفكَ.فهل تتذكّرني؟ لقد تذكّرتني،بل لقد عرفتني،ولذلك تميل نحوي، تسمعني دون الآخرين،تبسم لي دون الحاضرين،تلكزني بيدكَ على سبيل الخطأ المزعوم،تشمّ رائحتي،تحتضن أناملي،وتطبع قبلة على طلاء أظافري،وتنام بين خواتم أصابعي،وتداعب بنظراتكَ كلّ ملمتر من جسدي،تحفظ حركاتي،تقبّل جلدي،تلعق خلخال قدمي،تبتلع فمي بقبلكَ الشّهوانيّة،تسمع صوت احتراقي بكَ،وتسعد بذلك،وأنا أغور في مقعدي عارية إلاّ من الشّهوة إليكَ”(14).

    إنّ من خلال تحليل الصّور السّرديّة ومجاز الخيال التي ابتدعها من خلال لغة صافيّة لنتاج عمل لحواس التي أضفت طابعها الحسيّ المرئيّ في إعادة تخيلها شكّلت بنية النّص الأساسيّة المشحونة برغبات صراع دفاعيّ عن الجسد بصفته حاضن لتلك الرّغبات والنّزوع نحو البوح السّرديّ لتحريرها بما هو أشبه بثورة جسد مستلب من سننه الطّبيعيّة التي وُجد عليها.

    “أنا امرأة المواسم،فذقني لتعرف كيف تجتمع في امرأة واحدة بربريّة الغابات وهمجيّة الكهوف وتوحّش الجنس وعذوبة الاشتهاء وأساطير الميلاد الجديد وحكايا البعث والقرابين.تعرّ لي،فلا امرأة غيري في الكون تنتظر توّحشكَ وعرّيكَ وجموحكَ مثلي،أنا خُلقت بعناية إلهيَة لأكون امرأتكَ التي تجمع لكَ النّساء جميعهن في لحظة مداهمة”.(15).

إشراقات عشتار:

    منذ الاستهلال الأوّل تضعنا القاصّة سناء الشعلن أمام تناصّ عام مع أسطورة عشتار،بمعنى أنّ ما يرد هو فعل كتابة،لكنّها تخدعنا من خلال توالي الأحداث المكتوبة بطريقة صوريّة عالية الدقة،إنّنا أمام أحداث واقعيّة،وهذا ما قام به المخيال العالي والتّكنيك للقاصة،ولعب دوراً غير مرئي،وكأنّها انّسحبت خلف النّص لتدع القارئ يعيد تخيّله بطيفه الخاصّ : ” تحرضني الكتابة على على كتابة الرّجال والأحداث”(16).

    إنّ  أسطورة  الآلهة عشتار آلهة الحبّ والجمال والجنس يحق لها أن تُعبد وتعشق وتمارس الجنس،لكن البشر ليس ذلك من حقهم،القاصّة سناء الشعلان ضمّنت هذا التّناص العام بالمعنى والإدغام خدمة للخيال،فالأسطورة تعيد إملاءاتها على الحكاية،وهذا مالا ترغب فيه القاصّة للحدّ من خيالها الجامح في رسم صورها السّردية الخاصّة بها منسوخة من روح عشتار.

وكما تصف نفسها عشتار :” أنا الأول، وإنّا الآخر – أنا البغي،وانا القديسة- أنا الزوجة، وأنا العذراء-  أنا الأم، وأنا الابنة – أنا العاقر، وكُثُرٌ هم أبنائي – أنا في عرس كبير،ولم أتخذ بعلاً – أنا القابلةُ،ولم أُنجب أحدًا – وأنا سلوى أتعاب حَملي”,

    تقول بطلة القصّة التي يكمن فيها سرّ الحياة والنّماء وسمو الرّوح ورهافة الأحاسيس والطّبع والعابقة أعطافها بالعطر،ويفيض جسدها بالاحتراق الأنثويّ،ويفوح منها شذى الاشتهاء،وهذه صفات الآلهة عشتار. وهذا تبادل لأشكال وعي الآخر من خلال فضاء المعنى واضح من العلاقة للفضاء النّصي وتقاطعاته مع نصّ الآلهة عشتار المرافق للشّعراء والأدباء منذ أن عرفنا الأساطير الأولى،ونحن نقرأ النّصوص وما حولها من خلال التّأثير والتّأثر دون أن نفقد الدّهشة والمتعة واللّذة:” أنا امرأة بامتياز،وفنانة بمهارة،وخادمة بالفطرة،وجارية بالسّليقة،وقدّيسة بالعفاف،وماجنة بالكلمة،وطاهرة بالجسد،وساديّة بالموهبة،ومؤمنة بالقلب،وكافرة بالشّك،وثائرة بالسّلوك،وداجنة بالعطف،أنا النساء كلّهنّ دفعة واحدة،قبّلني،لتقبّل نساء العالمين” (16).

   “إنّ الصّورة التي ندركها عن طريق الحواس صورة إبهاريّو من خلال عواطف وأحاسيس،فالحواس هي الوسائل التي تغذّي ملكة التصوير والخيال، وتنتقل إليها مجتمعة أو منفردة.الصّورة بشتى مصادرها وطبائعها “

   ومثلما ندبت عشتار آلهة الشّهوة والحبّ مصير عشاقها ونهاياتهم تقول بعد أن كشفت عشقهم دون انتهاك لأنّها تحب بصدق،وتستجيب لرغباتها المقدّسة تختم بطلة القصّة لكن لا أحد يذهب إلى الجحيم السفلي كما حدث مع دموزي حبيب عشتار، تبقى ضائعة في رحلتها مع سيّد الجبل لتعيدنا إلى ميتافيزقيا الضّياع من جديد :

  أهواكَ…أهواكَ بلا أمل

وعيونكَ تبسم لي

وورودكَ تغريني بشهيَات القُبل

أهواكَ ولي قلب بغرامكَ يلتهب

تدنيه فيقترب

تقصيه فيغترب

في الظّلمة يكتئب

 ويهدهده التّعب

فيذوب وينسكب كالدّمع من المقل

أهواكَ،أهواكَ بلا أمل

في السّهرة أنتظر،ويطول بي السّهر

فيساءلني القمر،يا حلوة ما الخبر؟(17)

       يا إلهي كم إنّا ضائعة الآن ياسيّد الجبل “(18)

الخلاصة:

     بين ثنايا هذه القصّة القصيرة أكثر ممّا استعرضناه بأضعاف من أمثلة،فهي قصة تبدأ وتنتهي باحتراقات الحبّ المترع بالرّغبات والصّور الحسيّة والأيروسيّة التي شكلت بناءها لتصنع معماراً سرديّاً متفرّداً لقصة حبّ وجنس بعيداً عن الابتذال،وهي إضافة تستحقّ الوقوف عندها طويلاً  للاستمتاع بلذة النّصّ وجمالياته. كما نجحت الدّكتورة سناء الشّعلان واستطاعت أن تُظهر أنوثة المرأة من خلال استاطيقيا الصّورة الإبهاريّة ودلالاتها ورسائل الشّهوة ،

    هي رسائل لكسر المسكوت عنه في أدبنا وحياتنا العربيّة وتعرية الكبت والإجحاف الذي بات من سمة المرأة العربيّة.ثورة وحجر في بركة ركود المجتمع العربي لتحريك مياهه الآيلة للعفن،صرخة احتجاج ضد الانتقائيّة والكراهيّة والعنصريّة الجنسيّة على أفراد المجتمع الواحد بحجج واهية لا أساس لها من المصداقيّة والعلميّة.

   إنّ للمرأة نزوعها ورغباتها مثل الرجل تماماً في الحبّ والاشتهاء والإثارة وبلوغ النّشوة،وإحداهما مكمّل للآخر في ديمومة الحياة التي لولاها لانقرض الوجود الإنسانيّ على كوكبنا تماماً.كيف لنا أن نعرف المسكوت عنه وأمراضنا  دون  تشخيص. نحن عازفون عن فتح طرائق وتحليل رموزه لكشف وبواطن الجمال والخير فيه بدلاً من تغليفه بقبح الكبت والمنع والاضطهاد من دون معرفته ودراسته وفكّ شيفراته جميعها،ومعرفة تأثيرها على النّفس  البشريّة والمجتمعات وتبايناتها التي أتت من تعطيل دور المرأة أو جعلتها حاجة أو سلعة خاضعة للعرض والطلب بالقمع أو بالانفلات . وفي عالمنا العربيّ المتفاوت بكلّ شيء يبقى “الأدب التي تنتجه المرأة المشهد العربيّ يشبه حالها وفكرها وتكوينها وظروفها” كما تقول سناء الشّعلان .

الإحالات:

1-   القصّة الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة كتاب بلا حدود 2011 ومنشورة في مجموعة مشتركة تحمل العنوان ذاته” الضّياع في عيني رجل الجبل”،وصادرة عن منظمّة كتّاب بلا حدود/الشّرق الأوسط الثّقافيّة بالتّعاون مع مجلس الأعمال الوطنيّ العراقيّ للعام 2012.

2-    رولان بارت: نظرية النّص مقال محمد خير البقاعي في مجلة العرب والفكر العالمي 1988 بيروت.

3-    مقابلة مع الكاتبة سناء الشّعلان:في جريدة الشّاهد العدد18 بتاريخ 31/7/2001 .    

4-    سيرة جبرا الذّاتيّة في البئر الأولى وشارع الأميرات :خليل  شكري هياس،منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق 20.

5-    الضّياع في عيني رجل الجبل:سناء الشّعلان،ص3.

6-   نفسه:ص14.

7-   البلاغة مدخل لدراسة الصّورة البيانيّة: فرونسوا مورو،ترجمة محمد والي وعائشة جرير،ط2 دار أفريقيا الشّرق،الدّار البيضاء 2003.

8-   الضّياع في عيني رجل الجبل:سناء الشّعلان،ص5.

9-   بيان الصّورة الفنيّة البيان العربيّ:كامل حسن،مطبوعات المجمع العلمي العراقي،1987م نسخة رقميّة.

10-          الضّياع في عيني رجل الجبل:سناء الشّعلان،ص5.

11-          نفسه:ص4.

12-          نفسه:ص7.

13-          نفسه:ص8.

14-          نفسه:ص10.

15-          نفسه:ص12.

16-          نفسه:ص15.

17-          نفسه:ص15.

18-          نفسه:ص3.

19-          نفسه:ص9.

20-          نفسه:ص9.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.