الناصرية.. غاب ربانها فيما تعزز حضورها وتضاعفت الحاجة العربية اليه / فهد الريماوي

 

فهد الريماوي ( الأردن ) الأربعاء 30/9/2015 م …

في مثل هذا الخريف العربي الاغبر من عام 1970 زلزلت الارض زلزالها، وغادرت البحار شطأنها، واوقفت الكواكب دورانها، وفتحت السماء احضانها، وصعدت روح جمال عبدالناصر الى بارئها، ووقعت الامة العربية باسرها – ما عدا الخونة – تحت وطأة الصدمة وسطوة الذهول والانشداه.

لبست العروبة ثوب السواد، وعزفت الفجيعة لحن الرجوع الاخير، واصطفت كتائب الاحزان لتشكل حرس شرف يليق بوداع الراحل العظيم، وهطلت بغزارة مدرارة دموع الملايين من احرار العرب وشرفاء العالم، الذين ادركوا بالفطرة والخبرة معاً، ان شمساً عربية ساطعة قد غربت، وان مرحلة تاريخية مجيدة قد طويت، وان الحال العربي من بعده سوف يختلف كثيراً عما كان في عهده.

لا يحتاج يوم رحيل عبدالناصر (الخامس والاربعون) الى تذكير، ولا يعتاز الى تنويه او تنبيه، ولا يتطلب استحضاره نفض غبار النسيان.. ذلك لانه ما زال عنواناً يتصدر كل الرزنامات والتقاويم، وجرحاً راعفاً يدمي ذاكرة الملايين، ووجعاً مزمناً يفري قلوب الانقياء والاوفياء، وغصة خانقة تسكن حلوق الفقراء والبسطاء الذين فقدوا، على حين غرة، نصيرهم القوي وناصرهم الامين، وحامي حقوقهم واحتياجاتهم، وراعي مجتمع الكفاية والعدل.

في هذه المناسبة الاليمة، او في غيرها من المناسبات الناصرية الكثيرة، لا يحتاج ”ابو خالد” منا الى موشحات تجميل وتبجيل، ولا الى معلقات تعظيم وتفخيم، وانما نحن الذين نتشرف بالانتساب اليه، واقلامنا هي التي تفخر بالكتابة عنه، وحروفنا هي التي تسعد باحتضان مبادئه وافكاره، وصحائفنا هي التي تعتز بالتعبير عن اشواق الملايين العربية لايامه وامجاده ومنازلاته الباسلة ضد القوى الصهيونية والاستعمار والرجعية العربية.

وحمداً لله الذي احيانا وابقانا على قيد الوجود، لكي نشهد بام العين كيف تهاوى كل خصوم ”ابي خالد” واحداً بعد الآخر، بدءاً من المقتول انور السادات، ومروراً بالمخلوع حسني مبارك، وانتهاءً بالمصروع محمد مرسي العياط.. ولكي نرقب عن كثب كيف يجهد الرئيس عبدالفتاح السيسي لاعادة مصر الى ناصريتها، واعادة الناصرية الى مصرها وارض كنانتها.. مهتدياً في ذلك بقول المفكر المصري العبقري جمال حمدان : ”انت مصري اذن انت ناصري، لان الناصرية قدر مصر الذي لا يملك اي مصري الهروب منه، فالمصري ناصري قبل الناصرية وبعدها وبدونها، لان الناصرية بوصلة مصر الطبيعية، بل هي المصرية كما ينبغي ان تكون”.

وعلى سبيل الاقتداء بمقولة هذا المفكر الاستراتيجي الاستثنائي، ومن قبيل النسج على منواله وترسم خطوط افكاره، يمكننا توسيع فتحة البيكار لتشمل الجغرافيا العربية باسرها وليس مصر وحدها، وبمقدورنا القول عندئذٍ : ”انت عربي – لا اعرابي- اذن انت ناصري، لان الناصرية بوصلة العروبة الطبيعية، بل هي العروبة كما ينبغي ان تكون”.. ذلك لان ”ابا خالد” اعطى للعرب والعروبة من الدم والحب والعزم اضعاف ما اعطى لوطنه المصري، وزاوج بمنتهى الاصرار والاقتدار بين الشخصية المصرية والهوية العربية حتى امتزجتا حد التماهي، وبات الفصل بينهما مستحيلاً.

لقد وضع ”ابو خالد” نفسه وبلده وجيشه في خدمة القضايا القومية، ونصرة الثورات العربية، سواء في فلسطين او الجزائر او اليمن.. وقد تولى التاريخ المعاصر انصافه في مواجهة كل حملات التشويه والتشكيك التي استهدفته، كما تولى الواقع الراهن تزكية نهجه وتثمين دوره وفكره وبُعد نظره، بعدما ثبت بالمرئي والملموس ان كل البلايا والرزايا والكوابيس العربية الحالية قد تكاثرت وتناثرت جراء الانقلاب على النهج الناصري، والارتداد عن المشروع القومي، والانهماك في الترويج للخرافات والخزعبلات الوهابية والاخوانية التي افرخت هذا العدد الهائل من الثعابين والسعادين الداعشية.

ومثلما شكلت كاريزما ”ابي خالد” ومبادئه ومواقفه وخياراته روافع متينة ودعائم مكينة للنهوض القومي والمد الثوري التقدمي… فقد شكلت ايضاً، وبذات المقدار والمعيار، موانع صلبة وروادع قوية للافكار الظلامية والطروحات الرجعية والفتاوى الفتنوية.. ولم تتغير الاحوال وتنعكس المعادلات وتضطرب الحسابات العربية، الا بعد رحيله المفجع، وسرعة الانقضاض على مشروعه الوحدوي والنهضوي، وخلو الميدان لجماعة حديدان من ازلام انور السادات واعراب النفط والتخلف وبول البعير.

من كان يتصور مجرد تصور، او يتخيل مجرد تخيل، ايام ذلك القائد المارد.. ايام اشتعال النضال الثوري التحرري وارتفاع المعنويات والطموحات الى الاوج.. ايام ازدهار الفنون والآداب والاشراقات الفكرية والايديولوجية الحداثية والحضارية، ان تصل امتنا بعد نصف قرن الى هذا الوضع المزري، وتنحدر الى هذا الدرك السفلي، وتفرز كل هذا العفن والعنف والجنون، ثم تفقد رشدها وتلغي ارادتها وتحكم على نفسها بالتفكك والتمزق والضياع ؟؟

من كان يتصور، في عهد ”ابي خالد”، ان يأتي يوم تشقى فيه سوريا كل هذا الشقاء، وتبتلى العراق كل هذا الابتلاء، وتعاني اليمن وليبيا وفلسطين كل هذا العناء.. فيما تنعم اسرائيل بموفور الامن والامان، وتستعيد تركيا اطماع سلاطين آل عثمان، وتجلس قطر والسعودية في عربة القيادة العربية، ويتوهم الشيخ القرضاوي انه صقر قريش وولي امر المسلمين، ويتسابق الكثير من ادعياء الوطنية والقومية واليسارية والديموقراطية للاستقواء بالامبريالية والارتزاق من علوج الخليج ؟؟

ليت شعري، كم اختلفت الدنيا العربية عقب رحيله.. كم جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن.. كم تلوثت النفوس وتحجرت القلوب وتبلدت العقول وسالت الدماء رخيصة ومجانية بغير طائل.. كم اعلنت الخيانات عن نفسها واسفرت عن وجهها بكل وقاحة وبغير خجل او وجل.. كم تغولت جيوش الفساد والخراب والانحطاط حتى فاضت عن الحكام الى المحكومين، وانداحت من سدة الانظمة الرسمية الى ساحة القطاعات الاهلية والجماعات الشعبية التي بات بعضها يهيم على وجهه، ويضرب على غير هدى، ويشرب من ”نهر الجنون”، وينساق وراء الاضاليل والسخافات والهلوسات والمناكحة الجهادية والتحشيش المذهبي.

ويا لفلسطين التي ندبت، بعد رحيله، حظها العاثر، وشرقت بدموع حسرتها المعلقمة، وغرقت في احزان عزلتها القاتلة وتعاستها المضنية، وتجرعت – ولا تزال – مر العذاب والغياب والاغتراب، سواء على ايدي الغاصبين من اعدائها، او ايدي الفاسدين والمرتدين من ابنائها، او ايدي السواد الاعظم من العرب والمسلمين المتنكرين لها والمتباعدين عنها والمنفضين من حول قضيتها.

وعليه، وبعد خمسة واربعين عاماً من رحيل ”ابي خالد”، ماذا قدم الافرقاء الاخرون الذين طالما اختلفوا معه وزاودوا عليه ؟؟ اين هو البديل الافضل الذي طرحه الاقليميون او الماركسيون او الاسلاميون بمختلف تلاوينهم السياسية وحمولاتهم العقائدية ؟؟ هل نجح اليساريون الامميون والرجعيون الوهابيون والاخوان المسلمون والاشقاء البعثيون والفصائليون الفلسطينيون في تخطي التجربة الناصرية، وجاءوا بما لم يستطعه الاوائل ؟؟ ام ان سائر الحاقدين على هذا القائد الرائد والخالد، والمرتدين عن نهجه، والخارجين على مشروعه ورؤيته قد حصدوا غمار الفشل، ووصلوا الى الجدار المسدود، وتمخضوا عن ولادة داعش واخواتها، واوردوا الامة العربية موارد الدمار والانهيار، وافسحوا في المجال امام اجهزة مخابرات العالم لتخترق الصفوف الشعبية وتعيث فيها تجنيداً وتحشيداً، بعدما عمد الحكام العملاء الى استئصال مناعتها الوطنية، وافراغها من مضامينها العروبية والعقلانية وحتى الانسانية ؟؟

لقد حصحص الحق وزهق الباطل واهله من اعداء الناصرية، ولا مجال بعد اليوم لتغطية الشمس بالغربال، ولا سبيل لصمود المزاعم والاراجيف والاحقاد امام الحقائق التاريخية والشواهد الماثلة للعيان.. فانظروا – ايها الناس – الى ما كان عليه حال امتنا قبل انطلاقة ثورة 23 يوليو، وما صار عليه الحال العربي في عهدها وتحت اعلام مجدها، ثم ما انحدرت اليه الاوضاع والاحوال بعد الانقطاع عنها والتآمر عليها والتمادي في استبدال الذي هو ادنى بالذي هو خير.

بمنتهى الحق والصدق والمنطق، احكموا – ايها الناس – للناصرية او عليها، وقرروا ان كانت – كحركة وتجربة وفكرة – تستحق الوضع على الرفوف وفي المتاحف، ام العودة المؤزرة الى الساحات والميادين والجماهير الشعبية والنخب الطليعية، باعتبارها نداء الحاضر والمستقبل وليست صدى الماضي وصوت الامس، وبوصفها التعبير الجوهري والبليغ عن الهوية المصرية والعروبية والاسلامية كما ينبغي ان تكون !!

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.