مختلف عليه (2) / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – الجمعة 10/1/2020 م …
الجبرية والقدرية . أو: هل الإنسان مخير أم مسير؟
مفهومان.. بل موقفان فكريان ابتدأ الاشتغال عليهما منذ أن بدأ الإنسان يفكر ويبحث عن سر وجوده, وقد راح هذان المفهومان يتبلوران أكثر فأكثر مع ظهور الفكر الديني والاتكاء عليه بحثاً عن سر وجود هذا الإنسان ومآله وماهي القوى التي تتحكم في آلية حركته وتحقيق مصيره.
فهناك من قرر بأن الإنسان مسير وليس له من أمره شيئاً, وهناك من قال لا, إن الإنسان مخير وهو سيد نفسه وقراره وصنع تاريخ حياته. وهذان الموقفان نجدهما قد ظهرها بشكل واضح وعميق مع الفكر الإسلامي بالنسبة لنا, وفي النص المقدس بالتحديد, ولم يزالا قائمين حتى اليوم, وعلى أساسهما حدثت صراعات فكرية عقدية ودموية طويلة أدت إلى انقسام المسلمين في تاريخ الخلافة الإسلامية بين القدرية الذين قالوا بحرية الإنسان (كجعد بن درهم, وغيلان الدمشقي, والمعتزلة فيما بعد, و بين الجهمية (نسبة إلى جهم بن صفوان) الذين قالوا بعدم حرية الإنسان وجبرية أعماله وحتى أفكاره. ثم راح هذا الصراع يأخذ بعداً سياسياً أكثر عمقاً بين الذين يوالون السلطان ممن يقولون بالجبر لتبرير أعمال الحاكم والتغطية على مفاسده تحت مظلة الدين, كونه لا يحاسب عليها كما يقول كالجهمية. وبين من عبروا عن مصالح الرعية وقالوا بالقدرية, أي أن السلطان مسؤول عن أفعاله, وبالتالي يجب أن يحاسب عليها, كا قال المعتزلة. هذا في الوقت الذي ظهر فيه تيار آخر قال بنظرية الكسب كالأشاعرة, الذين حاولوا الخروج من التيارين على اعتبار أن الإنسان وأفعاله مخلوقة لله, ولكن أفعال الإنسان مكتسبة بالعمل وعلى هذا الاكتساب تتم محاسبته على أفعاله يوم الحساب, ولكن الأشاعرة في الحقيقة يقعون في تناقض صارخ عندما يقولون بأن الإنسان وأفعاله مخلوقة لله.. أي إن كل ما يقوم به الإنسان هو من عند الله. وبين قولهم إن الإنسان يكسب أفعاله من عنده.!!.
على العموم حتى لا نتجنى على أحد ونقف إلى جانب تيار دون الآخر دعونا نعود إلى النص المقدس لنرى كيف تجلى كل من الموقفين معاً ببعض من الآيات التي تدل على الموقفين:
أولاً الجبر:
هذه آيات قرآنية تدل عليه كما ورد في الآيات التالية:
1- (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). ﴿٥٩ الأنعام﴾
2- {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر:49)،
3- {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} (النساء:87).
4- {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله} (النساء:78
ثانياً القدر:
1- ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]،
2- (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾. [لقمان: 15].
3- ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6].
4- {قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:165).
5= (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]،
من خلال هذه المعطيات التي جئنا عليها أعلاه في هذه المسألة الاشكالية, نقول: كم نحن اليوم بحاجة ماسة لا عادة قراءة التاريخ والنص الديني بناءً على ما حققه العلم من تقدم في كافة مجالات المعارف الإنسانية, وبخاصة علم اللسانيات التي ستسمح لنا في فهم مقاصد النص الديني الأساسية, كون هذا الدين يأمرنا بالمعرفة وتشغيل العقل لفتح دلالات النص الديني على مقاصده, والنظر في الآيات البينات (المحكمات), والآيات المتشابهات التي حذرنا الله من الاقتراب منها, مثلما حذرنا من الذين في قلوبهم زيغ, هؤلاء الذين يشتغلون عليها ابتغاء الفتنة أو تأويله لمصالح أنانية ضيقة وخاصة من قبل مشايخ السلطان.
دعونا نرى ما هو موقف الرسول من قضية الجبر, أو القضاء والقدر, وهو القائل: (سيأتي زمان على أُمتيَُيُؤولون المعاصي بالقضاء، أولئك بريئون مني ، وأنا منهم براء) (1) الصراط المستقيم، ص 32. (2) بحار الأنوار، ج 5،
ودعونا أيضاً نتمعن بهذه المقولة لعلي بن أبي طالب بالقضاء والقدر التي وردت في مناظرته مع رجال له دعاهم للسير معه إلى بلاد الشام لمقاتلة معاوية, فعندما سأله أحدهم عن مسيرهم نحو بلاد الشام (صفين) بقوله: (أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء من الله وقدر أم من عندك ؟). فرد عليه عليّ قائلاً:
(لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والاَمر من الله عز وجل والنهي منه، وما كان المحسن أولى بثواب الاِحسان من المسيء، ولا المسيء أولى بعقوبة المذنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الاَوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها, إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُطع مكرهاً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يكلف عسيراً، ولم يرسل الاَنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب على العباد عبثاً ).
إذن, الجبر في نظر الرسول, وعلي بن ابي طالب والمعتزلة وعلماني اليوم, ليس من أصول العقيدة الإسلامية, والإسلام منه براء كما ذكر الرسول, وهو عند عليّ من آراء عبدة الأوثان, وحزب الشيطان, وخصماء الرحمن, وشهداء الزور, وقدرية هذه الأمة ومجوسها. والقدرية كما كانت تفهم قبل المعتزلة, هي القول بالجبر, او ما يسمى بالقضاء والقدر.
يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا وهو:
لماذا نجد اليوم من يحارب العقل وحرية الإرادة الإنسانية ويعمل على إقصائهما من حياة الإنسان؟!..من أجل ماذا؟!. إن كان تنفيذا لأوامر الله, فالله كرم الإنسان بالعقل وجعله خليفة على الأرض, فكيف يرضى الله أن يكون خليفته جاهل لا يملك من أمره شيئاً.؟!. أما إذا كان الهدف هو تجهيل الإنسان وترك قوى سياسية ودينية محددة تعمل على هذا المشروع التجهيلي من أجل مصالحها؟, فهذا ينافي كل القيم الإنسانية وشرائع الحياة الدينية والوضعية معاً. السؤال برسم الإنسان نفسه,
كاتب وباحث من سورية
التعليقات مغلقة.