المحامي محمد احمد الروسان يكتب ل” الأردن العربي ” : الأزمة في الأردن ومستقبل القوّة الروسية … الوكلاء يحلون محل الهياكل في العلاقات الدولية الحديثة … يستحقُّ الأمرُ تغيير العدسة التحليلية التي ننظر من خلالها
المحامي محمد احمد الروسان* ( الأردن ) – السبت 25/1/2020 م …
*عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية
أشتبك هنا بعنوانين مختلفين برابط خفي بينهما، أعتمد على ذكاء القارىء في البحث عنه: الأزمة في الأردن ومستقبل القوّة الروسية في الشرق.
الأزمة في بلادي، أزمة مركبة، والهندرة السياسية الرأسية والأفقية القادمة، للساحتين الاردنية والفلسطينية وطبقة الكريما السياسية والاقتصادية وهندسة للديمغرافية بانتاجات جديدة، فهي من ناحية أزمة حكم ونخب تعاني من توهان صحراوي عميق ومتفاقم، وأزمة شعب بأصوله ومنابته المختلفة من ناحية أخرى، ومملكتنا الأردنية الهاشمية نموذج أممي حي، في كيف يكون التيه في صحراء الأستراتيجيا، بفعل طوارىء السياسة وطوارىء الأقتصاد وطوارىء علم الأجتماع السياسي، والطابور الخامس والطابور السادس الثقافي، وفي علم الأستراتيجيا هناك شيء اسمه المرونة الأستراتيجية، حيث يعني هذا العلم قدرة الدولة أي دولة على استشراف المستقبل، وادراك مغزى المعطيات والتطورات في البيئة الخارجية، واتخاذ سياسات للاستجابة لتلك التطورات والمعطيات والوقائع بما يخدم استراتيجيتها الشاملة. الدولة لدينا في الأردن تعاني من نقص حاد وعميق بشكل رأسي وأفقي في مهارات المرونة الأستراتيجية، ولم تدرك مغزى ما يدور في بيئتها الخارجية، فوجدت نفسها بلا حول ولا قوّة بشكل فجائي، فارتبكت وتباطأت، وانبطحت وتساوقت، وتماهت تماماً مع كل أسف وحصرة، مثل: المسحور له، فبات كالمأفون. نعم السياسة الأردنية ما زالت حبيسة الماضي التليد، وفضّلت أن تبقى قابعة بتموضع غريب في منطقة الراحة الآمنة، التي عملت على تخليقها وخلقها حول نفسها، بفعل التيار المتأمرك المتأسرل فيها، وذهبت كافة الأطراف على الدفع بها الى هوامش المشهد وحافّاته غير المؤثرة، حتّى أنها لم تعد تلعب بالهوامش الممنوحة لها من قبل الأمريكي، وتمارس دبلوماسية الانتظار بفعل طوارىء السياسة والأقتصاد وعلم الأجتماع السياسي، تنتظر حل غيبي قد يلوح لها في الأفق السياسي المنسّد. فهناك أكثر من طرف خارجي: طرف دولي، وطرف اقليمي، وطرف بعض عربي يعاني من اسهال شديد بشكل مائي في العلاقات مع الكيان الصهيوني، يدفع الأردن الى الأنفجار، كون مرحلة الأردن المستقر الآمن انتهت بالنسبة للقوى الدولية والكيان الصهيوني وبعض القوى الاقليمية التي تعاني كما قلنا من اسهلالات شديدة، في العلاقات المعلنة وغير المعلنة مع الكيان الصهيوني. حيث من مصلحة الأطراف السابق ذكرها، بما فيها الكيان الصهيوني انفجار الوضع في الأردن، لأسقاط الدولة والتخلص من الالتزامات الدولية معها، وهي التي تلجم الطموح الصهيوني، وطموح السلفية الافنجيلية الأمريكية في القدس المحتلة، والضفة الغربية المحتلة، وقطاع غزّة المحتل مع تفعيل مسارات تفريغ الضفة الغربية باتجاه الأردن. اذاً ثمة حالة أردنية لترتيب البيت الداخلي لأغراض اقليمية، حيث المحفّز لذلك مضامين وشروط صفقة القرن، ان لجهة التساوق والتماهي معها، أو لجهة مواجهتها وعقابيلها وتداعياتها، والملك بحاجة الى غطاءات سياسية لبعض القرارات قبل الدخول في كواليس استحقاقات اقليمية واقتصادية مع نهايات نيسان القادم هذا العام، انّ أكبر وأكثر الخاسرين من صفقة القرن هما: الآردن وفلسطين المحتلة. وصحيح أنّ الملك صنع لنفسه نخب، تصحّرت مع سنوات حكمه العشرين، وقد أبتليّ بها الملك لاحقاً، فصنعت هذه النخب فجوة كبيرة بينه وبين شعبه بأصوله ومنابته المختلفة، لذا على الملك أن يغيّر أدوات الحكم عبر تغيير النهج القائم، فحل الدولتين انتهى وأكل وشرب الدهر عليه، وحل مكانه البراغماتية الأقتصادية، حل اقتصادي وتحقيق المكاسب الأقتصادية فهي المحرك للعقل السياسي، مع تسويقات لمفهوم السلام الأقتصادي كمضمون لصفقة القرن، دون الدخول في تابوهات الحلول السياسية. والسؤال هنا: هل تخشى اسرائيل مواجهات مع الجيش العربي الأردني العقائدي، آخر قلاعنا كأردنيين ومعه جهاز مخابراتنا الوطني – مخابرات دولة لا مخابرات حكومات أو أفراد أو كارتلات اقتصادية أو حتّى مخابرات ملك؟، فقيام دولة فلسطينية مصلحة أردنية وفلسطينية صرفة، وهذا ما يؤكد عليه الجميع، لذلك ليس للملك في مواجهة الضغوط الاّ الشارع وتحريكه وتسمينه بتوسعة حركة احتجاجاته بالمعنى الرأسي والأفقي، عند لحظة تنفيذ مفاصل وتفصيلات فنية لصفقة القرن، وعبر دفع الكتلة الديمغرافية من الضفة الغربية المحتلة نحو الأردن، ان قامت عمان باغلاق الحدود مثلاً في وجه هذه الكتلة الديمغرافية، كونها ستظهر اسرائيل بأنّها ترتكب جريمة انسانية فريدة من نوعها، ويظهرها أمام العالم أنّها جزّار العصر؟ كل ذلك لصالح كيانية سياسية جديدة في الأردن بديمغرافيا وجغرافيا حديثة، برأس جديد ونظام جديد، مع العلم أنّ مصر أحياناً تفتح المعابر وأحياناً تغلقها مع قطاع غزّة وتحت بند وعنوان انساني، والمتوقع أنّه ستكون هناك هندسات لتسمين قطاع غزّة على حساب أراضي مصرية في شمال سناء لغايات الدولة الفلسطينية القادمة في شقها الغزّاوي؟ والمبادرة الأمريكية الجديدة عبارة عن خطر مباشر لأمن دول المنطقة التي تشارك في تنفيذها كأدوات ومعاول هدم لا بناء، فاستمرار المسألة السورية له تأثير سلبي واضح للوضع السياسي والأجتماعي والأنساني والأقتصادي في دول الشرق الأوسط، والوجود العسكري الأمريكي الدائم هدفه تأييد القوى السياسية الموالية لواشنطن، فالأردن ومصر مثلاً، مصدران للقوّة البشرية تخسران خسائر كبيرة، مما يقود الى زيادة انتقاد السلطات من قبل الشعوب، وزيادة في نشاطات المعارضة في المركز والأطراف لجلّ المحيط الجغرافي. ويبدو أن القيادتين الاردنية والسعودية معنيتان بأن تعيد القيادة الفلسطينية النظر في موقفها من التحرك الأمريكي، وما ذكر من طرح أمريكي وشيك للمبادرة المعروفة باسم “صفقة القرن” وهناك تباين بين موقف الرياض وعمان وبين الموقف الفلسطيني من هذه المبادرة. ونتوقع ممارسة مزيد من الضغوط على القيادة الفلسطينية، لحملها على مسايرة موقف دول محور الاعتدال أو الأعتلال العربي، التي على ما يبدو تعهدت لواشنطن بتمرير الصفقة المشبوهة في الساحة الفلسطينية. هذا وتدور اتصالات سرية بين الجانبين الفلسطيني والامريكي باطلاع اسرائيل، حول رزمة من “المبادرات” تقدمها تل أبيب وقرارات أمريكية لتشجيع الفلسطينيين على العودة الى طاولة المفاوضات، ومن بين ما تتضمنه هذه الرزمة منح القيادة الفلسطينية دورا في خطة اعادة اعمار قطاع غزة والتي باتت جاهزة متكاملة. انّ ما يسمى بصفقة القرن واعلانها بحاجة الى وجود الفلسطينيين على الطاول، هذا ونلحظ تأييد عربي رسمي متزايد لموقف اسرائيل القاضي بتدشين مسار التفافي يتجاوز القيادة الفلسطينية برئاسة الرئيس محمود عباس، وتتحدث تقارير عن أن صهر الرئيس الامريكي ومستشاره جاريد كوشنر وخلال لقاءاته في عواصم عربية لم يستمع الى موقف حازم يدعو للابقاء على اتصال مع القيادة الفلسطينية، بل أن قيادات عربية هاجمت بشدة القرار الفلسطيني بقطع الاتصالات مع واشنطن. هناك اتصالات وتحركات لاجبار الجانب الفلسطيني على العودة الى طاولة المفاوضات دون اشتراطات، مع التحفظ على قيادة الرئيس عباس التي تصفها قيادات عربية وأمريكية بأنها معرقلة لفرص تحقيق السلام . ويعتقد البعض أنّه ثمة تحرك أردني سعودي مصري، وترى المصادر أن كل طرف من الأطراف الثلاثة له مصلحة من وراء هذا الجهد والتحرك بغية دعم الخطة الامريكية، فالملك الأردني يسعى الى تمتين العلاقة مع دوائر الحكم في اسرائيل وأمريكا، وهو يدرك تماما أنه كلما كانت هذه العلاقات والقنوات بين الجانبين الاسرائيلي والأردني دافئة كلما كانت أوضاع الحكم مستقرة، وحافظت الاردن على مكانتها بالاشراف على الاماكن المقدسة في القدس. أمّا مصر فهي تبحث عن دور ما يعيد لها ولو جزء مما فقدته من دور محوري في المنطقة، وترغب في التأكيد على متانة علاقاتها مع الولايات المتحدة، وأما السعودية فالشراكة في هذا الجهد لتحقيق(السلام) يسمح لها بالاقتراب أكثر من اسرائيل ويمهد لخطوات مستقبلية على طريق تطبيع العلاقات بين تل أبيب والرياض. وبالنسبة لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو فهو له مصلحة كبيرة في حال حصل تقدم في(مفاوضات)مع الفلسطينيين والوصول الى نوع من التفاهم بطابع اقتصادي، بما سيؤدي الى فتح صفحة علنية من العلاقات بين الدول العربية المعتدلة واسرائيل، مما سيمنح نتنياهو نقاطا سياسية، وتعزيز مكانته، وما يتمناه من “سطور مشرقة” في تاريخ اسرائيل . وتفيد المصادر أن تل أبيب وعواصم أخرى تسعى لدى مقربين من الرئيس محمود عباس لاقناعه بمسايرة ما هو مطروح أمريكيا، ويحظى بدعم دول محور الاعتدال العربي أو الأعتلال العربي، والتخلي عن رفضه الشديد للمبادرة الأمريكية.
مستقبل القوّة الروسية في جغرافية الشرق:-
عزّزت روسيا من جديد موقفها حين أنفقت موارد قليلة لتحافظ على علاقات متوازنة مع مراكز القوى الإقليمية الرئيسة، وبقيت إيران لاعباً مؤثراً في سورية رغم الضغوط الاقتصادية الأمريكية الهائلة عليها واغتيال الفريق قاسم سليماني ورفاقه، علاوة على ذلك تزايد تصميم إيران على الاستفادة من إمكاناتها في سورية والمنطقة، وهذا من شأنه ما يزيد احتمالات استمرار واشنطن في معاقبة طهران، يضاف إلى ذلك ما قدمته دول الخليج من موارد مالية وعسكرية قوية لمنع إيران من لعب هذا الدور الحاسم في سورية، وما تزال الصين المتنامية باستمرار، تلوح في الأفق البعيد محاوِلة أن تنأى بنفسها عن شؤون الشرق الأوسط على نحوٍ جوهريٍّ ومبدئي، لكن حقيقة وجودها تجعلها جزءاً من المعادلة. وعلى خلفية التراجع الأمريكي الواضح في سورية، قامت الولايات المتحدة بعملية مداهمة لتدمير مقرِّ “أبي بكر البغدادي” زعيم تنظيم “داعش” الإرهابي (المحظور في روسيا وعدد من دول العالم)، وذلك بدعم ضمني من روسيا وتركيا والعراق والأكراد (وفقاً للمسؤولين الأمريكيين)وقبل ذلك أسامة بن لادن، ثم قامت وبشكل فردي بتصفية الفريق قاسم سليماني ورفاقه، ومع ذلك فإن الأمريكيين لم يغادروا حقول النفط السورية، مع تمسكهم بقرار حظر نفطي صارم ضد سورية . في جميع الاحتمالات، وفي خضم هذه الأحداث الجارية، يُظهر بعض اللاعبين أن أعمالهم تسعى إلى تحقيق مصالح براغماتية محددة تماماً، وأن إرادتهم السياسية تتفوق على القيود الهيكلية القائمة، سواء أكانت تحالفات أم قرارات لمؤسسات دولية أم التزامات مع الحلفاء. ويبدو أن سياسة “الوكلاء” ذاتها، أي الدول الفردية، لا تنسجم مع المنطق، والإجراءات الدقيقة المحددة التي تنتج عن مجموعات متطورة تحقق فوائد ملحوظة، في حين أن قوة السلطة الهائلة والموارد والأموال لا تضمن النجاح لها. بعد كل شيء، فإن الخلافات السياسية للحلفاء(الولايات المتحدة وتركيا)حول القضايا الفردية ليست الأولى، ومع ذلك أصبحت الصفقات ظرفية على نحو متزايد، والآفاق الاستراتيجية وراء المهام التكتيكية غير واضحة. كما أنه من السابق لأوانه شطب سلطة الدول ذاتها، وكما قال كينيث والتز – منظّر أمريكي متخصص في علم العلاقات الدولية: (إن الدول القوية قد تخطئ بالتأكيد، ويمكن أن تكون الدول الضعيفة أكثر نجاحاً في مواقف معينة ومع ذلك فإن الدول القوية أكثر مرونة ويمكن لها القيام بمزيد من المحاولات، ومع ذلك، لدى الأقوياء هوامش أمان أكثر، ما يعني القيام بالمزيد من المحاولات، وإذا كان الأقوياء قادرين على تحمل الأخطاء، فإن أي خطأ قد يصبح قاتلاً بالنسبة للضعفاء). هذه الأحداث التي تجري تعيدنا إلى واحد من الأسئلة الأساسية لعلوم العلاقات الدولية: ما الذي يجعل البعض أقوى والبعض الآخر أضعف؟ هل هناك صيغة عالمية للسلطة والنفوذ تنتج النجاح في ظل ظروف مختلفة؟. بُذلت محاولات عدة لإيجاد صيغة عالمية من خلال مقارنة لجميع الدول مدّة طويلة، وما زالت حتى وقتنا الحاضر، وكانت جميعها تعتمد على معايير الاقتصاد والقوة العسكرية، ويذكر أن دراسة أمريكية للقوة العسكرية استخدمت معايير، مثل: حجم القوات المسلحة والإنفاق الدفاعي وإنتاج الطاقة وصهر المعادن والسكان وسكان المدن، ورغم كل هذه النسبية فإن التركيز على الاقتصاد والإمكانات العسكرية هي نماذج في المقارنات العالمية، والمشكلة في كيفية ضبط الفهارس لتأخذ بالحسبان الفروق الدقيقة المختلفة، وقد حاول مشروع بحث روسي(الأطلس السياسي للعصر الحديث)للباحث أندريه ميلفيل وآخرين مراعاة الفروق الدقيقة للدول، بالإضافة إلى التطور التكنولوجي لها ومؤشرات القوة الناعمة. بدأ المجتمع الدولي يشهد تغيّراً في موازين القوى، من حيث حسابات القدرة والدور، فبعض الدول التي كانت تصنّف صغيرة حسب معايير القياس القديمة من حيث الحجم وعدد السكان والقدرة العسكرية والإمكانات الاقتصادية، أصبحت تصنف أحياناً بأنها دول قوية من حيث الفاعلية والدور والقدرة على التأثير، ما يشكل عجزاً للدول الكبرى القوية عن تحقيق الأهداف المرسومة لها، وتبعا لذلك تزداد الهوّة بين الإمكانات وبين القدرات، ولكن هذا نادراً ما يشكل عائقاً لها، وعلى هذا النحو، فإن أي مؤشر يكشف الإمكانات عن وجود قائد متفوق واحد وعدة قادة غيره بالتوازي، كما يكشف عن كتلة الدول التي تتخلف عشرات أو حتى مئات المرات، ويتم الخروج عن هذا المؤشر حينما يتعلق الأمر بنوعية العلاقات بين الدول، إذ تمثيلاً لا حصراً، تتمتع الولايات المتحدة، دون شك، بسلطة أكبر مقارنة بروسيا أو الهند أو جمهورية الصين الشعبية، لكن سيناريو العدوان العسكري الأمريكي ضد أي من هذه الدول غير وارد، وعلى الأرجح تكون التكاليف المادية الباهظة هي السبب، وكذلك الأمر عند مناقشة عمليات عسكرية محتملة ضد إيران، البلد الأضعف بنظرها وغير النووي، لن تفكر الولايات المتحدة بذلك وما زالت ترفض هذا المسار حتى الآن، لأن تكاليف هذه الحرب كذلك ستكون باهظة جداً، وبمعنى آخر، فإن توازن القوى لا يعطي فكرة عن نوعية العلاقات بين الدول. معايير ارتباط القوة بالإمكانية أو القدرة التي تمكّن مستخدمها(الدولة)للتأثير على الآخرين وإخضاعهم لإدارة القوى الفاعلة في أي موقف اجتماعي سياسياً كان أم اقتصادياً أم ثقافياً، وتُعد قوّة الدولة من العوامل التي يعلّق عليها أهمية خاصة في ميدان العلاقات الدولية، ذلك لأن هذه القوّة هي التي ترسم أبعاد الدور الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي، وهي التي تحدد إطار علاقاتها بالأطراف الخارجيّة في البيئة الدولية، ومعيار قوتها هو الوصول إلى أهدافها في استخدام طاقتها التي تسهّل السيطرة على تصرفات الآخرين والتحكم بها، وفي تحليل استخدامات القوّة في الفكر الاستراتيجي فإن ذلك يتم عند استخدام أدوات القوّة العسكرية أو الأدوات الاقتصادية أو العمل الدبلوماسي في القرارات السياسيّة. وتتركز مهام المسؤولية عن كل أداة في تحديد الكيفية التي يتم بها استخدام هذه الأدوات لتحقيق الأهداف خاصة فيما يتعلق بالقرارات الكبرى. كما لا يعني هذا أن الدولة القوية التي تسيّر الأمور وفقاً لمصالحها واستراتيجيّاتها هي دولة سيئة أو فاسدة، فالسوء والفساد والأنانية أمور مستقلة عن مفهوم القوّة، خاصة وأن هذا المفهوم قد تجاوز في مضمونه الفكري المعنى العسكري الشائع إلى مضمون حضاري أوسع ليشمل القوة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والثقافية والتقنيّة. إلا أن توفر مقوّمات القوّة هذه لا يكتسب وزناً وتأثيراً بمجرد الحصول عليها، وإنما يرتبط هذا الوزن والتأثير بالقدرة على استخدام ذلك في تمكين الدولة من التدخل الواعي لتحويل مصادر القوّة المتاحة إلى طاقة مؤثرة وسلاح فعال، فالقوة هي مجرد امتلاك مصادر القوّة كالموارد والقدرات الاقتصادية وحسن إدارتها، والمُكنة العسكرية والسكانيّة وغيرها. أما القدرة فتنصرف إلى إمكانية تحويل هذه المصادر إلى عنصر ضغط وتأثير في إرادات الآخرين. كان الاتحاد السوفييتي في عام 1989، قوة عظمى مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وبإمكانات ديمغرافية كبيرة “الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة “، وأفضل جيش في العالم. لكنه انهار بين عشية وضحاها وفقاً للمعايير التاريخية، وقد لوحظت خلال ذلك أمور مهمة حول حالة النخب، “انهيار الروح والإرادة”، العدمية الكامنة والسخرية الكاملة في ما يتعلق بالإيديولوجية القائمة، وإبان حقبة انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وإعلان جمهورية روسيا الاتحادية، واستقلال دول الكومنولث الواحدة تلو الأخرى، حدث تدهور وانهيار شديدين في الدولة الروسية داخليّاً (الاقتصاد، التجارة، الاستثمار… إلخ) وخارجيّاً (السياسة الخارجية، المكانة الدولية… إلخ)، حتى أُطلِق على روسيا لقب “الرجل المريض“.. من المثير للاهتمام أن “الأطلس السياسي” الروسيّ كشف عن نظام مهم يرى أن السلطة لا تؤخذ بالحسبان بذاتها فقط؛ بل أيضاً مع اعتماد معايير أخرى كتاريخ الدولة ونظامها السياسي، ونوعية الحياة، والمستوى الفكري والثقافي والاقتصادي وغيره.. ومستوى التهديدات للدولة ومصدرها، ما يدلُّ على أنَّ “صورة العالم” مختلفة بعض الشيء، وبدلاً من المقياس الخطيِّ يظهر مشهد من مجموعات مختلفة من الدول، وكل مجموعة لها بعدها الخاص، بمعنى آخر، توجد الدول الحديثة في حقائق متوازية كما كانت، ولكل حقيقة معايير خاصة بها، نادي القوى العظمى لديه بعد واحد وجدول أعمال، ومجموعة الدول المتقدمة ذات الجيوش الصغيرة نسبياً لها معايير مختلفة وأبعاد أخرى، ومجموعة الدول المتخلفة التي تقاتل من أجل بقائها ولا تزال لديها مجموعة أخر تتخفّى وراءها وتكافح من أجل البقاء. تتفاقم المشكلة بسبب حقيقة أن هذه المجموعات وجداول أعمالها قابلة للاختراق في يوم من الأيام، ويمكن لدولة من مجموعة القوى العظمى أن تطرق باب الدولة من مجموعة متخلفة أو حتى “رغيدة الحياة” مع جدول أعمالها غير المرحب به دائماً في شكل غارات قصف أو عمليات سرية أو عقوبات اقتصادية مفتوحة وتدخلات سياسية وغيرها. السؤال الرئيس ماذا يعني كل هذا بالنسبة لروسيا؟ هناك حقيقة يتم تجاهلها بشكل متكرر مع متابعة التطورات الدولية وسرعة نمو الهند وجمهورية الصين الشعبية، وحياة الألمان الجديدة بعد توحيد الألمانيتين، وحضارة كوريا الجنوبية، وديمقراطية سويسرا، إلى أي مدى سيبقى الأمريكيون مثالاً يحتذى به للدول الضعيفة، وماذا عنا؟ نحن مثل المتدربين الذين يُحاضر فيهم آباؤهم ويلوّحون لهم بالعصا كل يوم. إذا كان “الوكلاء” يحلون محل “الهياكل” في العلاقات الدولية الحديثة، فربما يستحقُّ الأمرُ تغيير العدسة التحليلية التي ننظر من خلالها إلى “الوكلاء”، وبخاصّة الوكيل غير التقليدي مثل روسيا. ربما يجب أن ننطلق من صفات “الوكيل” بدلاً من الصيغ العالمية التي ندرس بها “الهياكل”. هذه المسألة مهمة من الناحية المنهجية والسياسية على حد سواء. في النهاية نحن نتحدث عن مصادر هويتنا السياسية. يمكن لنا البحث عنها في محاولة للتوافق مع معيار عالمي ولكن يمكن لنا أيضاً البحث عنها في أنفسنا تفاصيلنا وتوازن النقاط القوية والضعيفة، وفي نهاية المطاف في تاريخنا وثقافتنا. من الممكن أن نعيد اكتشاف أنفسنا من جديد.
عنوان قناتي على اليوتيوب حيث البث أسبوعياً عبرها:
https://www.youtube.com/channel/UCq_0WD18Y5SH-HZywLfAy-A
منزل –
عمّان : 5674111
خلوي: 0795615721
سما الروسان في 25 – 1 – 2020 م.
التعليقات مغلقة.