الدولة بين المدنيّة والحاكمية في عالمنا العربي. (1 من 3) / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الأحد 26/1/2020 م …
لقد بقي برأيي مفهوم الدولة بشكل عام, والدولة المدنيّة بشكل خاص في تاريخنا العربي مفهوما إشكالياً, وذلك بسبب ضبابية تاريخ نشوء الدولة, ومرجعياتها, وآلية عملها, وحواملها الاجتماعية, وسماتها وخصائصها, وأشكال تجلياتها, وأخيراً وليس آخراً بسبب تداخلها بالحكومة, أو الخلافة أو الإمامة.
وبناءً على هذه الاشكالية, تأتي الاشكالية الأوسع, وهي تلك المحاولات أو الدراسات الحديثة والمعاصرة التي تحاول التفريق بين الدولة المدنيّة والدولة الدينيّة, ومن هي الدولة الأكثر قدرة على تحقيق العدل والمساوة للإنسان من هاتين الدولتين. في الوقت الذي تغيب فيه الرؤى العقلانية المرتبطة بتحديد طبيعة كل دولة من هاتين الدولتين من جهة, ثم ما هي الشروط التاريخية القابلة, إما لقبول هذه الدولة أو تلك, أو إعادة إنتاجها من جهة ثانية. وهذا يطرح علينا التساؤلات التالية: هل فعلاً في وطننا العربي قد توافرت الظروف الموضوعية والذاتية لإنتاج الدولة المدنيّة, أو إعادة إنتاج الدولة الدينيّة إن وجدت تاريخياً.؟, وبالتالي وجود أو توافر الحامل الاجتماعي لهاتين الدولتين.؟.
من هذا المنطلق الاشكالي القائم على هذه المعطيات والتساؤلات التي جئنا عليها هنا, دعونا نقوم بتحليل ظاهرة الدولة في شقيها المدني والديني, لعلنا نستطيع الوصول إلى نتائج قد نفهم من خلالها الجوهر الحقيقي للدولة, وإمكانية الركون أخيراً إلى هذا الجوهرلعله يخرجنا من حالة التمترس والصراعات التي وضعنا فيها أنفسنا خلف أيديولوجيات غالباً ما تكون جموديه أو سكونيّة لا تعطي دوراً للحركة والتطور والتبدل والنسبية في ظاهرة الدولة موضوع دراستنا المتواضعة هذه.
أولاً: مفهوم الدولة لغة:
ورد في لسان العرب أن “الدَّوْلةُ والدُّولةُ: العُقْبة في المال والحَرْب”، بمعنى الغلبة والظفر بهما، والدولة والدول بمعنى “السُّنن التي تُغيَّر وتُبدَّل”, والدولة الفعل والانتقال من حال إِلى حال” و”دُولة بينهم يَتَداوَلونه مَرَّة لهذا ومرة لهذا”. وفي القاموس المحيط “الدَّوْلَةُ انْقِلابُ الزمانِ”. بمعنى تغيره، مرَّة لهؤلاء ومرّة لهؤلاء. (1)
ثانياً: مفهوم الدولة مجازا أو اصطلاحاً :
الدولة هي مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد, ويخضعون لنظام سياسي معين متفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بهدف تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها. وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول وإن اختلفت أشكالها وأنظمتها السياسية.
هذا مع ضرورة التمييز بين الدولة والحكومة، رغم أن المفهومين يستخدمان بالتناوب كمترادفات في كثير من الأحيان. فمفهوم الدولة أكثر اتساعا من الحكومة، حيث أن الدولة كيان شامل يتضمن جميع مؤسسات المجال العام وكل أعضاء المجتمع بوصفهم مواطنين، وهو ما يعني أن الحكومة ليست إلا جزءا من الدولة. أي أن الحكومة هي الوسيلة أو الآلية التي تؤدي من خلالها الدولة سلطتها وهي بمثابة عقل الدولة. إلا أن الدولة كيان أكثر ديمومة مقارنة بالحكومة المؤقتة بطبيعتها, حيث يفترض أن تتعاقب الحكومات، وقد يتعرض نظام الحكم للتغيير أو التعديل، مع استمرار النظام الأوسع والأكثر استقراراً ودواماً الذي تمثله الدولة. كما أن السلطة التي تمارسها الدولة هي سلطة مجردة غير “مشخصنة”: بمعنى أن الأسلوب البيروقراطي في اختيار موظفي هيئات الدولة وتدريبهم يفترض عادة أن يجعلهم محايدين سياسيا تحصينا لهم من التقلبات الأيديولوجية الناجمة عن تغير الحكومات. وثمة فارق آخر وهو تعبير الدولة (نظريا على الأقل) عن الصالح العام أو الخير المشترك، بينما تعكس الحكومة تفضيلات حزبية وأيديولوجية معينة ترتبط بشاغلي مناصب السلطة في وقت معين. التشكل التاريخي للدولة:
الدولة وفقاً للمنهج الأنثروبولوجي, قديمة بقدم تشكل الجماعات البشرية التي أخذت تعي ذاتها كجماعة تنتمي لأورمة محددة لها مصالح مشتركة, وخاصة الجماعة التي يجمع أفرادها في البداية عرق أو جنس واحد.. وهي هنا أقرب – أي الجماعة – إلى تشكل العشيرة والقبيلة, هذا في الوقت الذي ينظم فيه كل من العرف والعادة حياة هذه الجماعة على البقعة الجغرافية التي تعيش عليها, بينما يقوم بإدارة شؤنها كل أفراد الجماعة التي اختارت قائداُ أو زعيماً لها ممن امتلك مؤهلات عقلية ومهاراتيه, ولا حقاً ملكية خاصة أكثر من غيره من أبناء هذه الجماعة تؤهله لهذه القيادة.
في المراحل اللاحقة بدأت تتحول هذه الدولة الجنينية من بنية العشيرة والقبيلة إلى بنية أكثر شمولاً وعمقاً ومهاماً, بحيث أن عمليات الصراع على الخيرات المادية بين الجماعات المتناثرة آنذاك, ساهمت في ضم عدة جماعات تحت سلطة جماعة واحدة بفعل عوامل الغزو والحرب, راح فيها الزعيم المنتصر يتحول شيئاً فشيئاً إلى ملك بسلطات مطلقة. كما بدأ الدين كشكل من أشكال الوعي البشري الخرافي والأسطوري, كونه هو الوعي الوحيد السائد آنذاك, بسبب جهل الإنسان لمجمل القوانين الموضوعية والذاتية التي تتحكم بآلية سير الطبيعة والمجتمع, يلعب دوراً كبيراً في ترتيب حياة هذا المجتمع الجديد (الدولة) الخاضع لسطلة هذا الملك الذي تحول مع انتشار الوعي الديني إلى إله أو ممثل للإله. وهذا ما وجدناه في دول العبودية لبلاد ما بين النهرين ومصر وغيرهما, كالدولة السومرية والبابلية والأكادية والأشورية والفرعونية.. وغيرها. ومع هذا التطور في تكوين دولة الملك أو الملك الإله, أخذت تظهر قوانين وتشريعات لها طابع ديني إلزامي يقوم الملك الإله ذاته بسنها باسم الآلهة, كما هي قوانين حمورابي على سبيل المثال لا الحصر.
من هذه الدولة التي أصبح لها قوانينها, وبالتالي كهنتها وعسكرها وميزانيتها وكوادر إدارتها, وفي المقدمة ملكها الذي بدأت لديه أحلام التوسع خارج مملكته بسبب شهوة السلطة من جهة, ثم الرغبة في الغنيمة وترف الحياة من جهة ثانية, تشكلت الامبراطوريات, التي مع تشكلها راحت تتوسع كل آليات عمل الدولة وحواملها الاجتماعيين وقوانينها, يرافق ذلك توسع لا حدود له أيضاً في سلطات الملك أو الامبراطور, الذي ظل بحاجة لتغليف سلطاته بلبوس ديني حتى مع تشكل الامبراطوريات الكبيرة كالفارسية على سبيل المثال التي تبنت السلطة فيها “الزردشتية” والبيزنطية التي اعتنقت في القرن الثالث الميلادي الديانة المسيحية في عهد الامبراطور الاسكندر.
مع انتشار الديانة المسيحة, وتبني الأباطرة الرومان لها, وتشكل مؤسسات كنسية لخدمتها, استطاعت السلطات الكنسية ممثلة بالبابا أن تسيطر على الحياة المدنيّة والدينيّة معاً. وهنا تشكلت الدولة الدينيّة المحض تاريخياً التي راحت تفرض سلطتها على مساحات شاسعة من المعمورة في الشرق والغرب معاً قبل قيام الامبراطورية الإسلامية.
عندما انهارت الامبراطورية الرومانية وسقطت القسطنطينية على يد العثمانيين 1453, راحت السلطة الدينيّة الكاثوليكية تفرض نفسها على حياة الدول الأوربية لفترات طويلة, حتى مجيئ الإصلاح الديني لمارتن لوثر وانتشاره خلال القرنيين الخامس والسادس عشر في أواربا, حيث استطاع الاصلاح قطع سلطات هذه الدول مع سلطة البابا الكاثوليكية, وبدأت الدولة الاستبدادية بالانهيار. وأخذت تظهر ملامح الدولة الجديدة (المدنية) مع صعود الطبقة البرجوازية, هذه الدولة التي أسس مشروعها النظري مفكرو عصر التنوير, والعملي الثورة الفرنسية 1789 وما تبعها من ثورات شعبية في أوربا بقيادة الطبقة البرجوازية, التي قضت على السلطات الاستبدادية للملك وداعميه من رجال الدين والنبلاء, متخذة من العلمانية نظاماً لحكوماتها.
إذن إن توافر الظروف الموضوعية والذاتية في أوربا, مع قيام الثورة الصناعية التي خلقت جملة من التحولات العميقة في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية داخل المجتمعات الأوربية, إضافة إلى توافر الحامل الاجتماعي وهي الطبقة البرجوازية وحليفتها الطبقة العمالية ومفكروها من مثقفي ومفكري عصر التنوير, كل ذلك قد ساهم في التأسيس للدولة المدنيّة التي أهم مفرداتها اجتماعياً وسياسياً: المواطنة, ودولة القانون والمؤسسات, وفصل الدين عن الدولة, وتداول السلطة, واحترام الرأي والرأي الاخر, وتحرير المرأة, هذا إضافة لتشكل دساتير يقرها الشعب وفقاً لعقد اجتماعي, أهم ما تضمنته هذه الدساتير, فصل السلطات, وتشكل المجالس النيابية التشريعية والمحلية, وكل ما يتعلق بعمل مؤسسات هذه الدولة بما يهم حياة الفرد والمجتمع والدفاع عن أمنهم ضد أعداء الداخل والخارج. أو بتعبير آخر العمل على تطبيق كل ما جئنا عليه في تعريف الدولة المدنية ومهامها اصطلاحاً.
إن كل ما جئنا عليه من أسباب أو عوامل ساهمت في تشكل الدولة المدنية الحديثة في أوربا, نراه غائباً في الحقيقة عن بنية دولة المجتمعات العربية, بسبب القطع التاريخي في السياق العام لسيرورة وصيرورة هذه المجتمعات ودولها, وخاصة مع ماضي الدولة في العصور السابقة للخلافة الإسلامية, أي مع الدولة الآرامية والفينيقية والبابلية والسومرية والفرعونية وغيرها, وذلك إما بسبب خضوع هذه المجتمعات ودولها المتصارعة مع بعضها لغزوات خارجية ألغت في الأساس فكرة الدولة في هذه المجتمعات والحقتها بدول خارجية مثل الرومان واليونان والفرس, أو بسبب سيطرة الأعاجم على الخلافة العربية الإسلامية فيما بعد كالبويهيين والسلاجقة والأتراك والعثمانيين والماليك والصفويين وغيرهم, منذ بدء ضعف هذه الخلافة مع الربع الأول للقرن الثالث للهجرة, والتي لم تكن أصلاً هذه الخلافة قد وصلت إلى تشكيل دولة في المفهوم الحديث للدولة. وهذه المسائل سوف نتعرض لها في فقرتنا التالية من هذه الدراسة وهي: (2).
- كاتب وباحث من سورية.
التعليقات مغلقة.