“صفقة القرن” وأُفول الدّور الوظيفيّ للأردن / د. هشام البستاني
تمخّضت “صفقة القرن” عمّا كان معلومًا ومتوقّعًا: الاعتراف بالسيادة الإسرائيليّة على مستوطنات الضفّة الغربية، وعلى غور الأردن، ما يعني عمليًّا إلحاق الضفّة الغربيّة بكاملها بـ”إسرائيل”، التأكيد على أن قضيّة اللاجئين انتهت وينبغي أن تُحل خارج “إسرائيل”، التأكيد على “يهوديّة” الدولة الإسرائيليّة، والتأكيد على القدس موحّدة عاصمة لـ”إسرائيل”، والتأكيد على سيطرة أمنيّة كاملة لإسرائيل مع تجريد “حماس” وغيرها من تنظيمات المقاومة من سلاحها ونزع السّلاح من غزّة، والطلب من الفلسطينيّين قبول ذلك والدّخول في مفاوضات غير محدّدة زمنيًّا (“قد يأخذ [الفلسطينيّون] وقتًا طويلًا جدًّا للوصول إلى نهاية ذلك المسار، بل قد يأخذوا وقتًا طويلًا جدًّا للوصول إلى بداية ذلك المسار،” بحسب نتنياهو) للحصول على “دولة” على أساس هذه المُعطيات، وتمّ الأمر كلّه بحضور رسميّ لسفراء الإمارت والبحرين وعُمان، وفي خلفيّة هذه الدول الثلاث: ظلال السعوديّة.
يبدو أن الإدارة الأمريكيّة والحكومات الإسرائيليّة لم تعد ترى الأردن ومجموعته الحاكمة ولا تحسب لها أيّ حساب، والدور الذي لعبه هؤلاء في فترات تاريخيّة سابقة صار اليوم بلا قيمة
صار واضحًا اليوم أن ثمّة إعادة ترتيبٍ استراتيجيّةٍ كبرى لعلاقات القوّة وتوازناتها، والأدوار الوظيفيّة وتبعاتها، فيما يُسمّى جُزافًا “منطقة الشّرق الأوسط”. انهارت قوى “العراق، مصر”، وصعدت قوى “إيران، تركيا، السعوديّة، الإمارات”، وبقيت قوى “إسرائيل”، وفي سياق ذلك، فإن الأردن، بما في ذلك، أو على رأس ذلك: مجموعته الحاكمة، صار يقع خارج دائرة التخطيط لإعادة الترتيب هذه، بل خارج دائرة مجرّد إعلامها بما يجري وما سيكون.
الأردن الرسميّ خارج كلّ الحسابات وبلا وظيفة
قبل أيّام، أعلن وزير الخارجية أيمن الصفدي أن لا علم للأردن بترتيبات الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب التي تحدّث عنها هذا الأخير إثر اجتماع جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومنافسه في الانتخابات القادمة بِني غانتس، لمناقشة الإعلان عن “صفقة القرن”، دون أيّ وجود لمن يدّعون تمثيل الفلسطينيّين، ودون أي وجود للأردن.
يبدو أن الإدارة الأمريكيّة والحكومات الإسرائيليّة لم تعد ترى الأردن ومجموعته الحاكمة ولا تحسب لها أيّ حساب، والدور الذي لعبه هؤلاء في فترات تاريخيّة سابقة صار اليوم بلا قيمة: فتنفيذ ترامب لقرار نقل سفارة بلاده إلى القدس وتثبيت اعترافه بها عاصمةً لـ”إسرائيل” تمّ دون مشاورات مع “الحليف” الأردنيّ، واعتراف الولايات المتّحدة بضم “إسرائيل” للجولان تمّ دون مشاورات مع “الحليف” الأردنيّ، و”ورشة البحرين” التي عرض فيها جارِد كوشنر المقدّمات الاقتصاديّة للمقاربة الأمريكيّة الجديدة للمنطقة تمّت دون مشاورات مع “الحليف” الأردنيّ، وما حصل الثلاثاء من تأكيد للسيادة الإسرائيليّة على مستوطنات الضفّة الغربيّة وغور الأردن تمّ باستبعاد كامل لـ”الحليف” الأردنيّ.
يحدث كلّ هذا فيما تُمعن “إسرائيل” في إهانة الأردن، كمؤشّر على الوضع الجديد لعلاقات القوّة. فمقابل التحرّك الاسرائيليّ الفوريّ والمباشر عام 1997 لتوفير الترياق المضادّ في حادثة محاولة اغتيال خالد مشعل (رئيس المكتب السياسيّ لحركة “حماس”، وهو مواطن أردنيّ) في عمّان، والإفراج عن الشيخ أحمد ياسين، الأب الروحي لحركة “حماس” المعتقل حينها، في محاولة لاحتواء الغضب الشديد للملك حسين وتهديداته حينها، يبدو الوضع الاسرائيليّ بالغ الاستهتار بالأردن وقيادته بعد عقدين من ذلك التاريخ: فعام 2017، قتل زيف مويال، أحد مسؤولي الأمن في السّفارة الإسرائيليّة في عمّان، مواطنين أردنيّين أعزلين بدم بارد، وبدلًا من التحرّكات العاجلة ومحاولة احتواء الموقف، استقبله نتنياهو استقبال الأبطال، بعد أن سلّمه المسؤولون الأردنيّون لحكومته دون غضب ولا تهديد، وقبلها ذهبت قضيّة القاضي الأردني رائد زعيتر الذي قتله بدم بارد جندي إسرائيليّ عام 2014 على “معبر الكرامة” أدراج الرياح، ولم يُحاسب بشأنها أحد، وصولًا إلى تهديد مصالح الأردن المباشرة عبر بناء مطار في منطقة تمناع يهدّد أمن الملاحة الجويّة لمطار العقبة، والخروقات المستمرّة في مجال المياه، والتهديد المستمر للأردن بقطع إمدادت المياه عنه وتعطيش سكّانه، والخرق اليومي للسيادة الأردنية على المقدّسات في القدس، والنقاط الثلاث الأخيرة هي خروقات مباشرة وواضحة لما يسمّى “اتفاقية السلام” الموقّعة عام 1994.
ويحدث كلّ هذا مع صعود محمّد بن سلمان إلى ولاية العهد في السعوديّة، وتأثيره القويّ على اتجاهات صنع القرار فيها، وانفتاح بلاده (ومن خلفها أغلبيّة من دول الخليج) بشكل غير مسبوق على “إسرائيل”، في إطار تشكيل تحالف مشترك يواجه تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة، الأمر الذي أدى إلى تحوّل الدور الوظيفيّ للأردن ومجموعته الحاكمة إلى هامش الهامش: ففي حقبة “السّلام” ليس من داعٍ لكيانٍ عازل، وفي حقبة الوصول المباشر إلى رأس النّبع (السّعوديّة) ليس من حاجة لكيانٍ مُجسّر أو مُيسّر.
تيّار إسرائيلي في الأردن؟ الانتقال من الكيان الوظيفي إلى الذوبان في “إسرائيل”
مقابل هذا الوضوح السّاطع في التحوّلات الدوليّة والإقليميّة، تبدو الأمور على درجة كارثيّة من التخبّط والعشوائيّة والتّضارب داخل دوائر صنع القرار والتّعامل مع المتغيّرات في الأردن، فبينما يُعلن الملك أنّ العلاقات الأردنيّة – الإسرائيليّة في أسوأ حالاتها، وأن القدس خطّ أحمر، ويعلن رئيس وزرائه عمر الرزّاز رفضه لما يسمّى “صفقة القرن”، ويصدر وزير خارجيّته بشكل شبه يوميّ بيانات الإدانة والشّجب للانتهاكات الإسرائيليّة (وهذه جميعها توضع في إطار المواقف الكلاميّة التي لا تأثير حقيقيًّا لها)، يسير الأردنّ الرسميّ ذاته قُدمًا بتنفيذ اتفاقيّة الغاز المستورد من “إسرائيل”، فيتمّ (فعليًّا، لا كلامًا) ضخّ 10 مليار دولار في اقتصاد وخزينة ذات الكيان الذي يتم انتقاده وإدانته، تدعم (فعليًّا، لا كلامًا) مشاريعه التوسعيّة واحتلاله وإجرامه، ويتمّ فوق هذا تمكينه من ركن حيويّ خطير آخر، فوق ركن المياه، يبتز به الأردن ومواطنيه لخمسة عشر عامًا قادمًا، هو الطاقة التي سيتولّد عنها كهرباء الأردن، الأساسيّة في كلّ منزل وقطاع، ليضع أصحاب القرار بذلك أمن الأردن الاستراتيجيّ، ورقاب المواطنين الأردنيّين، تحت رحمة “إسرائيل”.
الدور الوظيفيّ الأردنيّ المتعلّق بـ”إسرائيل” انتهى بدخول السعوديّة على الخط، أما دوره الوظيفيّ المستجدّ منذ غزو العراق عام 2003، والمتعلّق بـ”درء خطر الهلال الشيعيّ” فصار بلا معنى اليوم مع وجود روسيّ قويّ في سوريّا يغطّي هذا الجانب بتفاهمات مباشرة مع “إسرائيل”، وانتقال التهديد الإيرانيّ الفعليّ إلى جبهة العراق؛ ودوره في قبول “صفقة القرن” التي طرحت أمس لا يعني أحدًا لأن رفضه لهذه الصفقة وتداعياتها لا يعني أيّ شيء بدوره، ولن يؤثّر في شيء، ولا ينتظره أحد؛ فأيّ حصافةٍ إذًا تكمن في الاستمرار بحالة التبعيّة والارتهان المطلقين، والتحوّل المتسارع إلى ما يشبه تسوّل دورٍ ما، أيّ دور، في ترتيبات لا مكان للأردنّ ولا لمجموعته الحاكمة فيها، ودفع الأردن بأكمله، ومواطنيه، إلى دائرة السّيطرة الإسرائيليّة؟
والحال هكذا، يبدو جليًّا أن ما ذكره الكاتب ماهر أبو طير، في عدّة مقالات له، وتحدّث عنه النائب عبد الكريم الدّغمي، فيما يتعلّق بوجود “تيّار إسرائيليّ” داخل دوائر صنع القرار في الأردن، حقيقيّ ودقيق؛ تيّارٌ يبدو أنه يدفع نحو الانتقال من وظيفيّة الأردن المستنفدة باتّجاه إلحاق كامل له بـ”إسرائيل”؛ وإلا فكيف نستطيع أن نُفسّر قرارات محليّة تنحاز بشكل سافر لصالح جهة تُهدّد أمن الأردن يوميًّا: قرارات تقدّم المصالح الإسرائيليّة على مصالح الأردن ومواطنيه، وتضخّ مليارات دافعي ضرائبه المُفقرين إلى خزائن “إسرائيل”، وتدعم -وبشكل مباشر- فرص إعادة انتخاب سياسيّ يقف على الحافّة، ويكنّ العداء المباشر للأردن، هو بنيامين نتنياهو.
كيف نخرج من عين العاصفة على المدى القصير؟
لستُ من هواة المجموعة الحاكمة في الأردن ولا من مُريديها، ولن أكون، لكن، وفي إطار المؤشّرات الإقليميّة والدوليّة المُتسارعة التي تشي بتمدّد المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصهيونيّ اليوم، وبرعاية أمريكيّة كاملة ودعم غير مسبوق، إلى خارج حدود فلسطين الانتدابيّة (لا بالمعنى السياسيّ، فهذا تمّ منذ زمن طويل، ولكن بإلحاق المحيط الاجتماعيّ والاقتصاديّ، والهيمنة عليه وعلى سكّانه بشكل مباشر، كما يحدث حاليًّا من خلال صفقة الغاز مع الأردن)، فلا بدّ من لفت نظر أصحاب القرار، لعلّ بينهم من يعي التّهديد المباشر، لا للأردن ومواطنيه، ولا لفلسطين وقضايا العدالة ومناهضة الظلم التاريخيّ للاستعمار الاستيطانيّ، فهذه الأمور (على الأغلب) لا تعنيهم.. بل يعي التّهديد المباشر للوجود الوظيفيّ نفسه الذي سيتلاشى لصالح “إسرائيل”، ويتّخذ الخطوات العاجلة التالية لدرء الكارثة التي ستحلّ على الجميع:
- الإلغاء الفوريّ لاتفاقيّة استيراد الغاز من “إسرائيل” (فهي أداة تنفيذ “صفقة القرن” المُباشرة أردنيًّا)، وتحويل جميع القائمين عليها والمُمَهّدين والمُنفّذين لها إلى المحاسبة (فهؤلاء هم رأس حربة “التيّار الإسرائيلي” في الأردن، وواجهته وأداته التنفيذيّة). مثل هذا الفعل سيشكّل انحيازًا كبيرًا لمصالح الأردن ومواطنيه وأمنهم واقتصادهم ومستقبلهم، ولفلسطين، لكن، وبالنسبة للمجموعة الحاكمة غير المعنيّة بمثل هذه الأمور، سيرسل هذا الإلغاء رسالة حاسمة وجديّة وقويّة، تُعيدهم إلى الطاولة التي تم استثناؤهم منها واستبعادهم عنها فتيتّموا بعدها.
- البدء فورًا باجراءات سياسيّة تغييريّة جذريّة، واستدخال تعديلات دستوريّة تضمن الفصل الكامل بين السلطات، وتلازم السّلطة والمسؤولية، وإلغاء أي حصانة لصاحب سلطة، وتقوية البرلمان بإلغاء مجلس الأعيان (المُعيّن)، واستحداث قانون انتخابيّ جديد يوحّد البلد من شماله إلى جنوبه، بصيغة القوائم المغلقة، على مستويين: قائمة على مستوى الأردن كدائرة انتخابية واحدة تمثّل نصف عدد مقاعد البرلمان، وقائمة على مستوى المحافظة تمثّل النّصف الثّاني، وبحيث ينتخب المواطنون قوائم لا أفرادًا، ويشكّل هذا البرلمان حكومة كفاءات وطنيّة من غير أعضائه، ومن غير النّخبة السياسيّة السّابقة وامتداداتها، تدير البلد في مرحلة انتقاليّة (بالمعنى السياسيّ والاقتصاديّ) تحت إشراف ورقابة البرلمان، ويكون أوّل أولويّاتها ملفّ الفساد الماليّ والإداريّ المستشري.
هذه الاجراءات (المُرّة على أصحاب القرار) ستحصّن الأردن داخليًّا، وتدفع باتّجاه تماسكه، وتمنع أيّ عبث خارجيّ بمجموعه الاجتماعيّ الذي حوّلته المجموعة الحاكمة (عبر عقود من احتكار السّلطة، والفساد، والقمع، والتّفتيت الاجتماعي، ورعاية النزعات الهويّاتيّة الإقليميّة والمناطقيّة والعشائريّة والعائليّة والجهويّة والدينيّة، وإلحاق وتفريغ النقابات العماليّة والمهنيّة والأحزاب السياسيّة من إمكانيّات التأثير السياسيّ) إلى حالة من الهشاشة المتقدّمة. غنيّ عن الذكر أن بقاء الأردن منيعًا بهذه المعادلة سيعني بقاء المجموعة الحاكمة، أو بعضها على الأقلّ، إذ يشتقّون وجودهم –هذه المرّة- من الدّاخل المُحصّن، بدلًا من الخارج المضطرب.
التأثيرات الخارجيّة: الآن هو اللحظة المناسبة
لا يمكن لأي محلّل جادّ أن يُغفل دور العوامل الخارجيّة في التأثير المباشر على دوائر صنع القرار في الأردن، لهذا، فالآن، وتحديدًا الآن، هو اللحظة المناسبة لاتخاذ هذه الخطوات الحاسمة والجذريّة، فترامب (الذي يقود توجّهًا انسحابيًّا –عمومًا- من القضايا الدوليّة) في نهاية عهده، ويواجه محاكمة لعزله وغضبًا هائلًا عليه من طرف الديمقراطيّين والكونجرس الذي يسيطرون عليه، وأمامه انتخابات أخرى قريبة (أغلب الظنّ أنها ستعود به ثانية، وعندها تحلّ الطامة الكبرى علينا)؛ أما نتنياهو فضعيف نسبيًّا إذ يواجه اتهامات جديّة بالفساد، وهو في حالة “تسيير أعمال” قبل انتخابات تُعاد للمرّة الثالثة (قد تعود به مرّة أخرى إلى سدّة الحكم، وعندها تحلّ الطامة الأكبر).
مقابل الوضوح السّاطع في التحوّلات الدوليّة والإقليميّة، تبدو الأمور على درجة كارثيّة من التخبّط والعشوائيّة والتّضارب داخل دوائر صنع القرار والتّعامل مع المتغيّرات في الأردن
هل ننتظر الطامة الكبرى والطامة الأكبر بعد أشهر قليلة بإعادة انتخاب ترامب ونتنياهو؟ إن لم يتحرّك أصحاب القرار الآن، وفورًا، في مواجهة تحوّلات المنطقة، فسيكونون، وبملء إرادتهم (المرتهنة حتى اللحظة)، قد دفعوا البلد ومواطنيه إلى جيب “إسرائيل”، وبأنفسهم إلى المجهول.
التعليقات مغلقة.