جمال عبدالناصر.. باني مصر الحديثة / محمـود الشـيبي
محمـود الشـيبي ( السبت ) 3/10/2015 م …
الرجال العظماء الذين تتجسد فيهم آمال أمتهم في الحرية والعدالة والكرامة، هم من يقررون خلود ذكراهم بالبذل والعطاء والتضحية ونكران الذات، من أجل الوطن والأمة، رغم كل الآراء المختلفة فيهم.
لقد تمكن جمال عبدالناصر بما قدمه للشعب المصري، وللأمة العربية، من تثبيت أركان خلوده في التاريخ العربي. حارب في فلسطين عام 1948، حاصر الإسرائيليون كتيبته، وأصيب بجراح في مدينة الفلوجة الفلسطينية.
وعن هزيمة العرب في فلسطين يقول عبدالناصر:” جاءت هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل بسبب فساد النظام العربي القائم، وأنظمة البايات والباشوات، وكثرة أصحاب العقارات الكبيرة والإقطاعيين”.
وبسبب قلقـه على مصر التي كانت تحت الحكم البريطاني، وما آلت اليه الأمور في فلسطين، قام في عام 1952 بانقلاب عسكري ومعه الضباط الأحرار. ثم تطور الإنقلاب بعد ذلك إلى الثورة التي جعلت من مصر دولة مستقلة، ذات وزن عالمي كبير.
ويصف المؤرخون جمال عبدالناصر كواحد من الشخصيات السياسية البارزة في الشرق الأوسط في القرن العشرين. أجبر الإنقلاب العسكري الذي قاده عبدالناصر الملك فاروق على التنازل عن العرش، قبل أن يتم إرساله هو وعائلته على متن يخت فاخـر إلى المنفى في إمارة موناكو.
كان الشعب المصري الساخط يدين الملك فاروق على نطاق واسع بالفساد والحكم غير الرشيد، وبالتسبب في استمرار الإحتلال البريطاني لمصر، والسيطرة الأجنبية على قنـاة السويس، وفشل مصر الذريع في الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1948. وقد ودع جمال عبدالناصر الملك فاروق في طريقه إلى المنفى باحتفال تكريمي، ولم يتعرض له بالإهانة، ولم يحله إلى المحاكمة. فقد كان عبدالناصر يفكر ويخطط لمصر، وكان فكره منصباً لكل الشعب المصري، بما فيه أنصار الملك، وطبقة الباشوات، وأعضاء حزب الوفد المهيمن في ذلك الوقت، وأصحاب الأراضي والعقارات، باعتبارهم جميعاً عائلة واحدة. وهذا ما وصف به حكومته في أحد خطاباته:” إنها الحكومة التي تنظر إلى كل المصريين كعائلة واحدة كبيرة.
كان عبدالناصر قائداً كارزمياً تعدى صيته مصر إلى الوطن العربي، والعالم أجمع. ولأنه صاحب رؤية فكريـة وهويـة عربيـة التفّـتْ حوله الجماهير العربية في كل أنحاء الوطن العربي. كانت لعبدالناصر إيديولوجية، وخطط، واستراتيجية، وخريطة طريق لإصلاح الإقتصاد المصري، والنهوض بمستوى معيشة الفقراء. وقد بدأ خطته بالإصلاح الزراعي التي أنقذت الفلاح المصري من الفقر والعوز، وعملت على تحويل الموارد من الزراعة إلى الصناعة. ففي يوم23 تموز ( يوليو) 1952 مباشرة بعد تنفيذ الإنقلاب بنجاح، وبطريقة سلمية بدون إطلاق رصاصة واحدة، أصدر قادة الإنقلاب بياناً يقول إن القيادة العامة للثورة سلمت مطالب من أجل إصدار قوانين تساعد في رفع مستوى معيشة الشعب. ومن بين أهم وأول هذه القوانين كان الحد من ملكية الأراضي. كانت أهداف سياسة الإصلاح الزراعي هي الإرتقاء بمستوى معيشة الفلاحين، وتوفير المشاركة في تحويل مصر إلى التصنيع، حيث كان الأغنياء يمتلكون معظم الأراضي المزروعة في مصر، وعامة الناس تعيش في فقر مدقع.
وفي خطاب ألقاه عبدالناصر في الذكرى الثانية للثورة ، أكد هدف الثورة بان قال :” الإصلاح الزراعي الذي خدم المزارعين، خدم الرأسماليين المصريين أيضاً… لقد ضمن جني الأرباح في بعض الحالات، وقدم الكثير من التسهيلات للرأسماليين الذين يرغبون في إنشاء صناعة جديدة. إنّ هذه الحكومة هي للأمة جميعاً، حكومة الفلاحين والعمال، والطلبة، والممولين، ورجال الأعمال، للأغنياء والفقراء، للضعيف والقوي، للمبتدئين وللذين حققوا النجاح. بالنظر إلى صغر نسبة المساحة القابلة للسكن والفلاحة على طول نهر النيل، والبالغة( 3% ) فقط، التزم عبدالناصر بتوسيع رقعة الأراضي المتاحة للزراعة، عن طريق بناء مشروع السد العالي في أسوان، واستصلاح جزء من الصحراء المحيطة. وفي ذلك الإطار، أبرم اتفاقاً مع السوفييت للمساعدة في استصلاح نحو( 300000) ثلاثمائة ألف فدان في منطقة النوبة الغربية.
كان هدف عبدالناصر هو إنشاء صناعات ثقيلة “استراتيجية”، باعتبارها السمة المميزة للقوة والنفوذ في كل من الغرب والإتحاد السوفييتي. وسيكون من شأن هذه الصناعات ان تنتج الأسمدة، والجرارات الزراعية، والمضخات، وما إلى ذلك من الأدوات الضرورية للتحديث الزراعي. كما أنها ستنتج للمصريين السلع الإستهلاكية الأساسية المعمرة مثل ألواح الصلب، وسبائك الألومنيوم، والأنابيب، والكابلات النحاسية، والإسمنت، ثم ستذهب في نهاية المطاف إلى دعم خانة الصادرات. واعتـقـد عبدالناصر أن التوسع العمراني الحضري، وارتفاع الدخل ومحو الأمية، ستعمل كلها على خفض معدلات المواليد، بحيث يتمكن القطاع الزراعي النشط من إطعام سكان مستقرين. وعلى المدى البعيد سيكون للمصري المتوسط الحال مسكنه الخاص، بل وربما سيارته الخاصة أيضاً. وستكون الدولة قادرة على جني الضرائب من ازدهار دخل المواطنين المتنامي، من أجل توليد استثمار ينتج المزيد من النمو. كانت تلك هي رؤية عبدالناصر لمصر، والتي رأى أنها يمكن أن تكون في متناول يد مصر في نهاية عقد من النمو المخطط. وفي مرحلة لاحقة أدرك عبدالناصر أن القطاع الخاص لم يكن قادراً على الإضطلاع بمهمة التحديث بوتيرة متسارعة، بسبب الإفتقار إلى رأس المال الخاص، لذلك أمر الدولة بما فيها الجيش، بتولي العديد من الوظائف الصناعية. وهكذا، كان باستطاعة عبدالناصر أن يصنع عملية انتقال إلى الديموقراطية، وأن يترشح على أساس إنجازاته الوطنية، وسياسته الخارجية، ويكسب الإنتخابات، لكنه لم يفعل ذلك للأسف. ساند عبدالناصر الحركات التحررية في الوطن العربي، وكان خير داعم للثورة الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي، كما دعم حركات التحرر العالمية، وتـوّج ذلك بأن بنى مع بعض قادة العالم منظمة عدم الإنحياز، التي كانت عاملاً أساسياً في تصفية الإستعمار، ودعم الشعوب المتطلعة لنيل حريتها واستقلالها، والحفاظ على الأمن والسلم العالميين، بعيداً عن سموم الحرب الباردة آنذاك. بينما كان يحاول تطبيق رؤيته، ارتكب ناصر أخطاءً أسهمت في إنتاج الحالة المحزنة التي تعيشها مصر اليوم. لكن قواته المسلحة لم تقـمْ أبـداً بسفك دماء المصريين في شوارع وميادين القاهرة، والمدن المصرية الأخرى.
كان أحد أخطاء عبدالناصر هي إحاطة نفسه بنواب غير أكفياء، وخلق نموذج عبادة الزعيم القوي الذي أصبح نموذجاً لخلفائه، وقد خلق عبدالناصر طبقة سياسية قوية في قلب النظام، هي طبقة ضباط الجيش، الذين اعتقدوا بانهم مُنحـوا تفويضاً شعبياً لحكم مصر. وللأسف فقد تبنى هؤلاء أسلوب حياة الأغنياء، فيما عدا ناصر نفسه الذي عاش حياة بسيطة. وقد أساء نائبه الأكثر حيازة على الثقة عبدالحكيم عامـر، إدارة الوحدة المصرية السورية في العام 1958، والتي عرفت باسم ” الجمهورية العربية المتحدة”. وقد فشلت هذه الوحدة التي تطلع إليها العرب جميعاً. لكن عبدالناصر ارتكب خطأً آخر بترقية عبدالحكيم عامر إلى أعلى رتبة عسكرية، بـلا كـفـاءة . وكان عامر مسؤولاً عن هزيمة مصر الساحقة أمام اسرائيل في حرب عام 1967 . بعد هزيمة عام 1967 أعاد عبدالناصر بناء الجيش المصري من جديد، وزوده بالأسلحة التي تمكن من الحصول عليها من الإتحاد السوفييتي، وأعلن أنه سيعد جيشاً للتحرير دون الإعتماد على أي من الجيوش العربية الأخرى. وخاض مع اسرائيل حرب الإستنزاف التي ارهقت العدو الصهيوني. ووعد العرب بإزالة آثار العدوان وتحرير الأرض العربية خلال عام 1970 لكن الموت عاجله في عام 1970، فبكته الملايين من المصريين والعرب. وخلفه في الحكم ضباط لم يدركوا رؤيته الوطنية في بناء مصر، ولا رؤيته القومية في وحدة الأمة وعزتها، فانساقوا وراء أجندتهم الخاصة التي دمرت الكيان المصري، وعبثت به فساداً.
وفي زمن التغريب الذي تعيشه الأمة العربية هذه الأيام ، وتعيش معه التخلف والضعف والتمزق والإنحطاط، نتذكر صاحب القامة العالية والنظرة الثاقبة، الذي كان ديدنه فلسطين والوحدة العربية، ومن كان هاجسه الدائم فلسطين والأمة العربية، لا يستطيع أحد أن يشكك فيه غير أعداء الأمة والسائرين في ركابها، والجـهـلـة. على أبناء هذا الجيل أن يدرسوا التجربة الناصرية بتجرد، ويدرسوا معها دور الولايات المتحدة في إفشال مشاريع عبدالناصر الوطنية والقومية، وضغوطها الهائلة من أجل تخلي مصر عن دورها العربي. عندئذ سيجدون أن عبدالناصر لم يُنصَفْ في حياته وبعد مماته قط. ولو مـدّ اللـه في عمره لكانت مصر والأمة العربية على غير ما نـرى.
رحمكَ اللـهُ وأسكنكَ الجنةَ مع الأبرار، فقد أديـتَ ما عليـك، لكن مـنْ خـلَـفَـك دمّــر ما بـنـيـتَ
التعليقات مغلقة.