الدولة بين المدنيّة والحاكمية في عالمنا العربي. (3 من 3) / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الخميس 6/2/2020 م …
فكرة الدولة من الناحية السياسية بعد وفاة الرسول:
والرسول على فراش الموت اختلفوا على الخلافة .. فلا وصية ترك ولا غدير ولا الأقربون أو الأبعدون من الرسول أحق بالخلافة بعده. وعندما طلب دواة وكتاباً “ورقة” ليكتب وصيته, قال عمر اتركوه لقد (هجر) كما تذكر كتب التاريخ.
اجتمع المهاجرون والأنصار في السقيفة, فدار بينهم حوار كاد أن يؤدي إلى قتال…. منا أمير ومنكم أمير.. لنا الأمارة ولكم الوزارة.. ثم جاء الحديث القرشي ليضع حداً في مسألة الخلافة: “الأئمة من قريش”، (أخرجه أحمد والنسائي في الكبرى من حديث أنس). وهناك الحديث المتفق على صحته (عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان). (عن الصحيحين).
على العموم, وبعيداً عن صحة هذا الحديث أو عدم صحته في هذا السياق, إلا أنه حدد لمن يكون منصب الخليفة, بغض النظر عن سماته وخصائصه التي راحت تتردى فيما بعد شيئاً فشيئاً عندما تحولت الخلافة إلى ملك عضوض مع وصول معاوية إلى الخلافة بعد أن حارب عليّ عليها, وألغى مشروع الشورى في أمرها بما كان يتناسب وخصوصيات عصره. مع تأكيدنا بأن عثمان أول من طرح فكرة التمسك بالسلطة وجعلها أمراً مقدراً, عندما ثار عليه جمهور الفقراء حيث قال لهم بعد أن طالبوه بترك السلطة : (هذا قميص البسنيه الله وأكرمني به فلن أتخلى عنه).
إذن مع معاوية تحولت السلطة أو الخلافة إلى ملك عضوض, وأصبحت أمراً مقدراً (جبري) من قبل الله, كما بينها معاوية في خطبته الاولى أمام جمهور المسلمين حيث قال: (الأرض لله.. وأنا خليفة الله, فما أخذت فلي, وما تركت للناس فبضل الله.. يا أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة, وعنكم ذادة, نحكمكم بحق الله الذي أولانا سلطانه الذي أعطانا, وأنا خليفة الله في أرضه وحارس على ماله.).(4). أو في خطبته لأهل الكوفة بقوله: (يا أهل الكوفة ، أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجّ وقد علمت انكم تصلون وتُزكّون وتحجّون ؟ ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وأليَّ رقابكم ، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون ).!. (5)
لم يكتف الأمر عند هذا الحد في التأسيس لدولة الاستبداد والتفرد بالسلطة وتماهي الدولة في بنيتها الهشة آنذاك كلياً مع الحاكم باسم الدين. فهذا معاوية وهو على فراش الموت والولاة من حوله, يقف أول انتهازي سياسي في الدولة الإسلامي وهو “يزيد بن المقفع” وكان والياً على شرق الأردن ليقول للولاة بحضور معاوية: (أمير المؤمنين هذا ,وأشار إلى معاوية, وإن مات هذا فهذا, وأشار إلى يزيد, وإن مات هذا فهذا, وأشار إلى السيف.). فُسر معاوية من قوله وقال له: ( تعال واجلس إلى جانبي فإنك والله خير المتكلمين ). بل لنقل خير الانتهازيين. (6).
وهذا موقف آخر في شأن التفرد بالسلطة وربطها بالحاكم بأمر الله فقط, حيث وصل به الأمر أن لا يقبل أي رأي من أحد في أمر سياسته للسلطة, كما هو الحال في موقف الخليفة “مروان بن الحكم” في رده على المعتزلة القدرية من أصحاب الرأي عندما راحوا يقولون له اتقي الله بالعباد, فخاطبهم: (إنكم تأمرونا بتقوى الله وتنسون أنفسكم, والله لا يأمرني أحد بعد اليوم هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه.).(7).
هذا وقد ظل النهج في الوصول إلى الخلافة التي تماهت كلياً مع الفرد الحاكم, بعد أن راح فقهاء السلطان ينظرون لحكمه ولشرعية الوصول إليها حتى ولو بالقوة أو الغلبة أو مبايعة شخص واحد من الأمة له بها. بل نجد من هؤلاء الفقهاء من راح أيضاً يكفر كل من يحتج على السلطان أو الخليفة حتى لوكان ظالماً وفاجراً وسالباً لأموالهم ومعتدياً على عرضهم, وذلك تحت ذريعة الخوف من الفتنة, لأن قيام الأمة عندهم من أجل تغيير الحاكم الظالم هي فتنة, والفتنة أشد من القتل. منطلقين في موقفهم هذا من تفسيرهم وتأويلهم لقول الآية:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. (النساء 59)
أو لحديث أم سلمة: (إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة). رواه مسلم.
وهذا رأي ابن حنبل شيخ السلفية في ذلك حيث يقول:
«من خرج على إمام من أئمة المسلمين- وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان, بالرضا أو بالغلبة؛ فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله ﷺ ، فإن مات الخارج عليه؛ مات ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان، ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق». (8).
هذا وقد وقف الكثير من فقهاء وعلماء الدين ضد من يطالب بخلع الحاكم الظالم مثل:
الإمام البخاري، والإمام أبو جعفر الطحاوي والإمام حرب الكرماني , و الإمام أبو زرعة والإمام ابن أبي حاتم والإمام أبو بكر الأَثْرَم الإمام أبو بكر الإسماعيلي والإمام أبو عثمان الصابوني والإمام ابن بطة العكبري والإمام أبو الحسن الأشعري والإمام المزني صاحب الشافعي والإمام ابن بطة والإمام ابن المنذر والإمام النووي والإمام ابن تيمية والامام ابن القيم الجوزية ، 23-الامام ابن حجر العسقلاني ، 24-الامام شمس الدين الرملي وغيرهم من كبار الأئمة المتقدمين المجتهدين. (9).
أما بالنسبة للشيعة الإمامية وموقفها من الدولة لما تمثله مسألة الإمامة, فقد اعتمدوا في الحقيقة على تأويلهم وتغسيرهم للنص الديني المقدس بالنسبة لإمامة علي إن كان للحديث أو الآيات القرآنية ومنها على سبيل المثال لا الحصر الآية التالية:﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾. (سورة المائدة: الآية 55). وقد اتفق المفسرون والمؤلون من الشيعة الإمامية على أنها نزلت في حق الامام علي “عليه السلام” على أثر تصدقه بخاتمه في صلاته واثناء الركوع.
أما بالنسبة لأحاديث الرسول فهناك الكثير من الاحاديث التي وردت في هذا المجال وأن هذه الاحاديث تشكل اركان الادلة النقلية، وأن من أبرز هذه الاحاديث هو حديث الغدير الذي ورد عند السنة والشيعة معاً, حيث أكد فيه الرسول على موالاة “علي ابن ابي طالب” بقوله: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله”.
على العموم, بغض النظر عن الخلافات بين السنة الذين يقولون بالشورى, والشيعة الذين يقولون بالنص حول دلالات التفسير أو التأويل الواردة في الآيات والأحاديث, فلا يوجد هنا في الأصل ما يشير إلى قضية الدولة, وهذا ما يؤكد عندنا غياب مفهوم الدولة.
من خلال هذا العرض يتبين لنا أن هناك غياباً حقيقياً لمفهوم الدولة بشقيها القائم على المدنية أو الحاكمية, وإن الدول الموجودة على الساحة العربية اليوم, هي برأي دول ما قبل الدول, أي دول العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والحزب الشمولي.
- كاتب وباحث من سورية.
المراجع:
1- لسان العرب – والقاموس المحيط).
2- الموسوعة الحرة .
3- بسيوني، محمود شريف، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 2003. وقد نشرت هذه الوثيقة بتصريح من المعهد الدولي لحقوق الإنسان بجامعة دي بول شيكاغو.
4- عبد الجواد ياسين- السلطة في الإسلام- المركز الثقافي العربي – ص 42).
5- عبد الجواد ياسين- العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ- المركز الثقافي العربي- ط1- 1998- ص 157.
6- عن موقع إسلام ويب = الكامل في التاريخ – الجزء الثالث . ص 97.
7- (موقع أشراف الحجاز ).
8- موقع مجلة البيضاني العلمية. (جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ الدكتور صادق البيضاني.
9- المرجع نفسه.
التعليقات مغلقة.