الوظيفة الاجتماعية والقيمية للدين / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الخميس 13/2/2020 م …
* مفكر وأكاديمي سوري
في المفهوم:
الدين في سياقه العام شكل من أشكال الوعي البشري, تكون تاريخيا من خلال علاقة الإنسان مع الطبيعة أولا, ثم مع المجتمع ثانيا, بعد أن أخذ هذا المجتمع يتشكل بعيداً عن القطيع, أي الغريزة, ليتجلى كمجتمع أسرة وعشيرة وقبيلة ودولة…إلخ, أصبح له علاقات متنوعة كثيراً ما تخللها الاستغلال والقهر والظلم والاستلاب والتشيئ.
قد ابتدأ هذا الدين عند الإنسان البدائي كوعي أسطوري او خرافي حاول هذا الإنسان من خلاله تفسير آلية عمل القوانين التي تتحكم بحركة الطبيعة والمجتمع, نتيجة لجهله بطبيعة تلك القوانين, وخاصة الاجتماعية منها التي أوجدها هو بذاته بعد تطور قوى وعلاقات الانتاج وممارسته نشاطاته الإنتاجية بشقيها المادي والروحي, حيث راح هو ذاته يضيع في عالم منتجاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وما ولدته من علاقات, حتى أصبحت هذه العلاقات بالنسبة له قدراً محتوماً وكأنها منتج من عالم آخر, أو قوى أخرى خارج عالمه المعيوش, الأمر الذي لم يعد لوعيه ولا لإرادته الدور الفاعل في تجاوزها بسهولة, وخاصة بعد أن ساهم الدين نفسه عبر الكثير من مشايخه (علمائه) في تغييب الوعي العقلاني وتحطيم الإرادة الإنسانية القادرة على تجاوز هذا الوعي الأسطوري, معتبرين أن كل ما يصيب الإنسان في حياته هو أمر مقدر له من قبل قوى خارج نطاق عالمه أو محيطه.
نقول: إذا كان الدين قد ابتدأ وعياً مشوهاً, سادت فيه الأسطورة والخرافة في تفسير القوانين المتحكمة في عالم الطبيعة والمجتمع, إلا أن الفكر الديني عبر سيرورته وصيرورته التاريخيتين, وصولاً إلى المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها الديانات التوحيدية, بدأ هذا الفكر الديني يتأنسن إلى حد ما, وخاصة بعد أن أخذ يرتكز على قوة أو إرادة واحدة تعتبر سبب التحكم في هذا العالم وهي (الله) المسؤول عن حياة البشر ومصيرهم. وعلى الرغم من أن الأسطورة لم تغب أيضا مع هذه الديانات التوحيدية بل ظلت قائمة في تفسيرها للكثير من الظواهر الطبيعية والاجتماعية عند من لم يستطيع من المغسرين استيعاب التطور العلمي حتى اليوم, كما جاء في تفسير مسألة خلق الطبيعة والمجتمع (سفر التكوين), التي لم تزل سائدة في الوعي الديني البسيط حتى اليوم. إلا أن تطور العلم استطاع تاريخيا وبالضرورة فيما بعد أن يحطم الكثير من مقومات ذاك النسق الأسطوري في تفكير الإنسان إلى حد كبير ويُثبت شيئاً فشيئاً أن هناك قوانين موضوعية مستقلة بذاتها عن وعي الإنسان وإرادته هي من ساهمت في تشكل الطبيعة وظواهرها, وهي ذاتها من يتحكم في آلية عمل هذه الظواهر. أما بالنسبة للمجتمع وعلاقاته فإن تطور علم الاجتماع والكثير من العلوم الإنسانية ومناهج البحث العلمي بينت كيف تشكلت القوانين التي راحت تهيمن على حركة المجتمع وتطوره, وكيف تحققت حالات الضياع والتشيئ والاستلاب التي تصيب الإنسان بفعل نشاطه الروحي والمادي. حيث تبين (أن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم إلا أنهم لا يصنعونه على هواهم). ومع ذلك فقد ظل هناك دور فاعل للدين في حياة الإنسان لم يستطع تجاوزه حتى اليوم, وأن هناك مقاصد إنسانية للدين ذاته لا بد من الأخذ بها وتوظيفها لمصلحة الإنسان.
أمام هذه المعطيات التي جئنا عليها نستطيع القول بأن الدين رغم تطور العلوم بكل اتجاهاتها, لم يزل بفرض نفسه ومكانته في عالم الإنسان المتمدن, وأن الكثير من حياة الإنسان لم تزل تخضع للدين, وأن الإنسان لم يزل يفكر ويمارس نشاطه الحياتي بمرجعيات دينية, وهذا ما يدفعنا للوقوف هنا عند الوظيفة الاجتماعية والقيمية للدين في سلبها وإيجابها وتأثيرها على حياة الفرد والمجتمع معاً.
الوظائف الايجابية للدين:
لاشك فيه أن وظيفة الدين الايجابية في سياقها العام تقوم بربط الفرد بمحيطه الاجتماعي, أو بالجماعة التي ينتمي إليها دينياً كعقيدة, وتفريعات هذا العقيدة طائفياً ومذهبياً, وهو هنا – أي الدين – (يقدم العون المعنوي عند ضياع الفرد, والأمل عند الخيبة,), والرضى عند النجاح, فهو بمثابة آليات عمل معنوية ورقابية تعمل على ضبط وتعديل جملة التوازنات الممكنة بين الفرد وذاته, وبين الفرد والمجموعة التي ينتمي إليها. فالدين يحترم الملكية الخاصة ويقدر جهد الإنسان الايجابي في هذا الاتجاه, مثلما يساهم الدين في ضبط العلاقات الزوجية وما يتفرع عنها من مسائل أسرية, والدين عندما يتحكم في وعي الفرد المتدين يعمل كشرطي داخلي في رقابة وضبط أعمال الفرد وغرائزه وجملة حالاته النفسية والأخلاقية وغير ذلك, وبالتالي فإن عملية الضبط والمراقبة هذه تحدد وظيفة الفرد والجماعة اجتماعياً وإنسانياً بشكل عام, بحيث توصل الفرد أحياناً إلى درجة الإثار تجاه الآخرين على المصلحة الفردية, (أصبحت نادرة اليوم), وذلك لما يحققه هذا الدين للفرد من شعور عال بالانتماء تدعم معنوياته إلى درجة التضحية بالنفس تجاه العقيدة وتجاه الجماعة التي ينتمي إليها دينياً, وهذا الموقف التضامني نجده أيضاً عند الكثير من الطوائف والفرق الدينية في موقف الجماعة من الفرد من حيث الوقوف إلى جانب كل فرد يحتاج المساعدة والعون من قبل جماعة طائفته او فرقته الدينية.
ما أريد التأكيد عليه هنا, إن هذه المواقف الايجابية في التوجه الديني, غالباً ما تنحرف عن مساراتها الصحيحة وتصبح عقبة أمام تطور المجتمع, وهذا ما سوف أشير إليه في الوظائف السلبية للدين.
الوظائف السلبية للدين:
أولاً: ظل الدين تاريخياً نقطة ارتكاز للقوى المستبدة والمستغلة, حيث وجدت هذه القوى من يقوم بتفسير هذا الدين وتأويله لمصلحة القوى الحاكمة والمستبدة في التاريخ. وبالتالي فقد شكل الدين هنا وظيفة أيديولوجية تشتغل على إعادة صياغة وعي الفرد والجماعة على قبول الظلم والقهر والجوع والاستبداد والتشيئ والاستلاب والضياع, واعتبار هذه القضايا وما يتعلق بها أمراً مقدراً على الإنسان من خارج واقعه وعليه القبول به والرضوخ له. فعلى مستوى الدين الإسلامي مثلاً نجد هذا التوجه وضحاً عبر تاريخ الدولة أو الخلافة الإسلامية, فهذا ابن حنبل شيخ التيار السلفي الذي عانى من ظلم الخليفة المأمون العباسي كونه خالفه الرأي في مسألة كلامية تتعلق بخلق القرآن, يؤكد لنا ضرورة الخضوع للسلطان المستبد باسم الدين حيث يقول مناشدا عموم المسلمين بضرورة عدم التمرد على الحاكم : (من غلبهم بالسيف حتى صار عليهم خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه براً كان أو فاجراً, فهو أمير المؤمنين). (1). وهذا الشيخ الباقلاني يقول في هذا الاتجاه بشكل واضح وجلي بما يؤكد هذا الموقف السلبي من توظيف الدين لمصلحة الحاكم: (لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شئ ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه.) (2).
أما (نظام الملك ) الوزير السلجوقي المشهور الذي ظل وزيراً لمدة ثلاثين سنة, فقد استطاع أن يبني المشروع الصوفي الطرقي ورسم طريقه السياسي والروحي لخدمة السلطان عندما قام بصرف أموال كثيرة على هؤلاء المتصوفة وتنظيم حركتهم في القرن الخامس للهجرة حيث عاتبه السلطان على صرفه لهذه الأموال دون طائل, فرد عليه بقوله: (لقد اقمت لك جيشاً يسمى جيش الليل, إذا نامت جيوشك ليلاً قامت جيوش الليل على أقدامهم صفوفاً بين يدي ربهم فأرسلوا دموعهم وأطلقوا ألسنتهم ومدوا أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك …). (3) .
ثانياً: القرآن حمال أوجه كما يقول الرسول محمد : (القرآن ذلول حمال أوجه فخذوه على وجه الحسن). فهذا التعدد في الوجوه الذي أشار إليه النص القرآني نفسه أيضاً في الآية السابعة من سورة آل عمرن, بين كيف يتعامل مع الآيات المتشابهات من في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله, فهذا التعامل البراغماتي مع النص الديني الذي ساهمت السياسية بدور كبير فيه كما أشرنا أعلاه, كانت له نتائج سلبية على خلق فرق ومذاهب وطرق دينة بين المسلمين بعد وفاة الرسول, راحت تتصارع فيما بينها ولم يزل هذا الصراع قائماً حتى الآن, حيث ساهم هذا الصراع في تفتيت المسلمين وزرع الخلافات بينهم حتى وصلت إلى حد التصفيات الجسدية, وإلى خلق حروب أهلية اعتبرت الطائفية والمذهبية عنواناً لها.
ثالثاً: الفهم الخاطئ لمفهوم العلم والموقف منه عند الكثير من رجال الدين السلفيين المتشددين, الذي اقتصروا العلم على العلوم الدينية فقط, معتبرين أن ما عداها وخاصة العلوم الإنسانية الوضعية التي تدخل فيها علوم الفلسفة والمنطق والقانون, هي علوم منافية للدين ومن يتعامل بها هو خارج عن العقيدة الإسلامي وداخل لا محال في مضمار الزندقة والكفر والالحاد. فهذا الموقف من هذه العلوم الوضعية ساهم كثيراً في سيادة الفكر الغيبي الامتثالي من جهة, والحؤول دون النظر معرفيا وعقلانياً إلى قضايا الواقع الاجتماعي ومحاولة تفسير قضاياه بناء على مقتضيات العصر وحاجاته. من هنا ظل الكثير من رجال الدين ينظرون إلى الحاضر بعيون الماضي مُوقفين باب الاجتهاد وتبديع كل من يحاول أن يعيد حتى تفسير النص الديني خارج رؤى التفسير والتأويل القروسطي. هذا مع ضرورة الاشارة هنا إلى تلك المواقف السلفية الرافضة لكل حياة فكرية وعملية قبل وبعد ظهور الإسلام.. فالإسلام عندهم جب ما قبله وما بعده. وهم هنا يوقفون حركة الزمن عند تاريخ محدد من حياة هذه الأمة وهي القرون الهجرية الثلاث الاولى .
أمام هذا الموقف السلبي من العلم الوضعي, ظل الجهل والتخلف فكراً وممارسة حاضراً في زمننا المعاصر, بل ظهرت في أيامنا هذه قوى إسلامية راحت تعمل على بناء الدولة أو الخلافة الإسلامية وفقاً لهذه الرؤية القروسطية, ممارسة كل أشكال العنف ضد من يحاول الخروج عن رؤية وسلوكيات أهلنا من السلف, كما هو الحال عند دولة داعش الإسلامية, التي بموقفها هذا من العلم وتطور الحياة أدى إلى وقوف العالم كله ضدها, وهذا أمر طبيعي كوّنه منطق التاريخ الذي يقر بأن التقدم حالة طبيعية لا يمكن لأحد أن يوقف عجلته.
رابعاً: الدين عقيدة, والعقيدة إذا ما جُمدت تحولت إلى أيديولوجيا, والأيديولوجيا في نهاية المطاف موقف من الحياة بكل مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, يعمل الإنسان وفقاً لها على تفسير وصياغة وإعادة إنتاج ما يحتاجه من هذه الحياة واعتبارها – أي العقيدة – مرجعيته لأساس في الانتماء, وهنا تكمن خطورة الأيديولوجيا الدينية إذا ما اعتبرها حملتها المرجع الوحيد لانتماء الفرد والمجتمع, وهذا ما تبنته تيارات وأحزاب الإسلام السياسي, وبالتالي فأي انتماء آخر للوطن أو للقومية هو انتماء خارج عن المرجعية الأساسية للإسلام الذي يعتبر أن وطن المسلم هو الأرض التي ينتشر فيها الإسلام, وأن مرجعيته العقيديّة أو الفكرية هي العقيدة الإسلامية فقط وكل من ينتمي لغير ذلك هو كافر ضد الإسلام ويجب محاربته.
خامساً: الدين بعمومه دعوة للتوحيد من جهة, ودعوة لبناء حياة الإنسان وفقاً لقيم أخلاقية رسمها الدين نفسه بناءً على المرحلة التاريخية التي ظهر فيها. بيد أن المشكلة الخطيرة في هذا السياق لدى المسلمين ودعاته على سبيل المثال هو تركيزهم الدائم على هذه القيم الأخلاقية الماضوية وضرورة التمسك بها لأنها هي وحدها من يجنب الإنسان الوقوع في الرذيلة والفساد, وبالتالي خسران الدنيا والآخرة. فـ (مشروع فضيلة ) الذي يبشر به دعاة الإسلام والمؤسسات الدينية الرسمية دائماً متجاهلين بأن الأخلاق نسبية وهي تخضع بالضرورة للتطور والتبدل ساهم إلى حد كبير في إيقاف عجلة التاريخ وكبح تقدم الشعوب المنتمية لهذه العقيدة.
إن لكل مرحلة تاريخية قيمها الأخلاقية, إن كان على مستوى العلاقات الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية, وكل من يحاول تجاهل هذا القيم في حالة تطورها وتبدلها ونسبيتها, هو يقف ضد حركة التاريخ وستكون نهايته الضياع والدمار. وهذا حال الكثير من دولنا ومجتمعاتنا العربية التي لم تزل متمسكة بمشروع فضيلة الإسلامي الذي تريد تطبيقه قوى الإسلام السياسي في العالم الإسلامي, وما جرى من مهازل التاريخ في ما سمي ثورات الربيع العربي التي تبين أن الإسلامي السياسي ومشروع فضيلته كان وراء الكثير مما جرى في سورية والعراق ولبنان وليبيا وتونس ومصر من مآسي, إضافة للمآسي التي تركتها لنا الأنظمة التي تدعي العلمانية, هذا مع إيماننا بأن التغيير في الأحوال السياسية بالنسبة لمفهوم الدولة في هذا الدول أو المجتمعات, يتطلب إعادة النظر فيه وفقا لروح العصر الذي يؤمن بالتعددية وتداول السلطة والمواطنة واحترام الرأي والرأي الآخر والموقف الايجابي من المرأة ونسبية الأخلاق. وغير ذلك من قضايا تعيد للإنسان مرجعيته الإنسانية بعد أن استلبتها منه قوى سياسية مستبدة لمدة مئات السنين تحت مسميات عديدة متخذة من الدين أحد الوسائل الأساسية من أجل تجهيل الشعب وتغريبه عن واقعه الحقيقي, وخاصة في مسألة الترويج لفكرة روجها منذ العصور الوسطى رجال الفكر السلفي وهي منع القيام ضد الحاكم واستبداده تحت ذريعة الابتعاد عن الفتنة كما بينا في مواقف سابق عند ابن حنبل وغيره.
ملاك القول: يظل الدين بشكل عام والدين الإسلامي منه بشكل خاص, محكوماً بآياته أو نصوصه المحكمات (البينات) التي لا تسمح لمن في قلوبهم زيغ أن يفسروه ويؤولوه على هواهم ومصالحهم. فالدين الإسلامي دين حددت طبيعته ومقاصده الآيات البينات (المحكمات), بأنه دين يقر بوحدانية الله, ويعترف بكل الأنبياء والرسل ولا يفرق بين أحدهم منهم, وهو دين يدعو إلى العدالة والمحبة والمساوة واحترام الرأي الآخر, كما يقر بدور العقل وإرادة الإنسان كوسيلتين اساسيتين من الوسائل التي عليه استخدامها بعقلانية وبما يؤكد خلافته على هذه الأرض, كما يقر الإسلام أن الزمن يتطور ويتبدل وعلينا مراعاة خصوصيات زماننا ومكاننا وما تفرضه هذه الخصوصية من اعتراف بانتماءات الإنسان الوطنية والقومية وضرورة الحفاظ عليها والدفاع عنها عند تعرضها لخطر داخلي أو خارجي, وهذا أحد أوجه الجهاد المقدس .
كاتب وباحث من سورية.
(1) – أبو يعلي محمد الحسن الفراء- الحكام السلطانية – دار الكتب العلمية – بيروت 1983- ص20.
(2) – جواد ياسين- السلطة في الإسلام- المركز الثقافي العربي- بيروت 1998- ص86 –
(3) – الجابري- تكوين العقل العربي – مركز الوحدة للدراسات- بيروت- ص 280
التعليقات مغلقة.