أمريكا، تغيير أساليب الهيمنة / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 20/2/2020 م …
من الليبرالية إلى الفاشية؟
تخلّت حكومات الدول الإمبريالية، تدريجيا، منذ حوالي أربعة عقود (منذ فترة حُكْم “مارغريت تاتشر” في بريطانيا و “رونالد ريغن” في الولايات المتحدة) على النهج الإقتصادي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتسارع الإتجاه الرأسمالي “النيوليبرالي”، منذ 1991، بالعدوان على العراق، وعلى يوغسلافيا، وبانهيار الإتحاد السوفييتي، فانهارت الأحزاب التي ادّعت “الشيوعية” وأحزاب تيار “الديمقراطية الإجتماعية”، وأصبح اليمين يُعيد إنتاج نفسه، ليتجه نحو النموذج الفاشي، سواء في أوروبا أو اليابان وأستراليا، أو أمريكا الشمالية.
من مظاهر الإستبداد في الولايات المتحدة، تركيز “دونالد ترامب” السلطة لديه ولدى أفراد أسرته (جاريد كوشنير) وأصدقائه، وسَعْيِهِ الدّائم إلى الإفلات من أي رقابة، وخَطواته لخصخصة وزارة القضاء لتخدم المصالح الخاصة للرئيس وأصدقائه، كما وَصَفَ الرئيس وسائل الإعلام والصحفيين الذين انتقدوا سياساته وبرامجه بأنهم “أعداء الشعب”.
في المجال الإقتصادي، نَقَلت الشركات متعددة الجنسية الصناعات المُلَوِّثَة، والتي تتطلب عَمالة كثيفة، إلى بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكيا الجنوبية، أو ما سُمِّيَت دُوَل “الجنوب”، حيث توجد المواد الأولية، وغابت معايير السلامة وأمن العُمال وغابت القوانين وظُرُوف العمل والرواتب اللائقة، واهتمت الدّول والشركات بتطوير التكنولوجيا المتقدمة، المبنية على المعرفة وعلى البحث العلمي، وحيث ترتفع القيمة الزائدة، كما اهتمت بالإبقاء على أسواق المال وعلى المنظومة المَصْرِفية، داخل دول “الشمال” (أوروبا وأمريكا الشمالية) بالإضافة إلى اليابان وأستراليا…
لم تعترض الدول الرأسمالية الإمبريالية على الصين، طالما اكتفت باستغلال الموارد الخام، وبتصْدير السلع الرخيصة والرّديئة نحو البلدان الفقيرة، ولما طَوَّرت الصين “اقتصاد المَعْرِفة”، وبدأت تصنع القطارات والطائرات، وتُصدّر الألواح الشمسية والحواسيب والهواتف المحمولة نحو أوروبا وأمريكا الشمالية، بأسعار تنافُسِيّة، وبجودة لا تقل عن مثيلاتها في دول “الشمال”، رُفِعت في وجهها لوائح حقوق الإنسان، وقَمع الأقليات، واستغلال ثروات الشّعوب (في إفريقيا، مثلا)، وتحركت منظومة الإعلام لتُرَوِّج كل ما من شأنه تشويه الصين، بالتوازي مع تعزيز حلف شمال الأطلسي، وزيادة الميزانية الحربية الأمريكية، ومع تراجع الولايات المتحدة عن الإتفاقيات الدّولية، والضّغط على “الحُلَفاء” لتقديم مزيد من التنازلات، لصالح “الحليف” الأمريكي، مع الإشارة أن الولايات المتحدة (والكيان الصهيوني) رَفَضت التوقيع على الإتفاقيات الدّولية بشأن احترام حقوق الإنسان، ومن بينها حقوق الطفل والمرأة وحق الإختلاف في الرأي…
الحرب على جميع الجَبَهات:
استوردت الولايات المتحدة سلعًا وخدمات من الصين، بقيمة 557 مليار دولارا، فيما بلغ حجم التبادُل التجاري بين البلدَيْن 737 مليار دولاراً، سنة 2018، وتمتلك الصين سندات أمريكية بقيمة حوالي 1,2تريليون دولار، وتعمل الولايات المتحدة، من خلال إعلان الحرب التجارية، وبكافة الوسائل الأخرى، على تعطيل صُعُود دور الصين، وخفض حجم الصادرات الصينية إلى بلدان العالم، وعرقلة الإنتاج الصّيني للسّلع والخَدمات، وسبق أن اعلن الرئيس “باراك أوباما”، ووزيرة الخارجية “هيلاري كلينتون”، سنة 2012، أن القرن الواحد والعشرين يجب أن يكون أمريكيا (وليس صينيا)، ولذلك وجبت مُحاصرة الصين بالقوة العسكرية الأمريكية، لِسَدِّ منافذ التجارة، وتزامن ذلك مع إثارة قضايا “حقوق الإنسان”، مثل قمع المسلمين “الإيغور” في الصين، قبل أن يُثير الرئيس اللاحق “دونالد ترامب” قضايا تجارية، ومحاولة عزل شركة “هواوي” التي تُنافس الشركات الكبرى الأمريكية، في مجالات الإتصالات والتكنولوجيا الحديثة، وقد لا يخرج انتشار وباء “كورونا” ومبالغة وسائل الإعلام الأمريكية في ذكر تفاصيل انتشاره، عن أهداف الولايات المتحدة، المتمثلة في تعطيل الإنتاج في الصين، وتعطيل صادرات الصين إلى الخارج، وتعطيل حركة السّفَر من وإلى الصين، حيث راجت أخبار مفادها أن “كورونا” قد يكون جرثومة (فيروس) تربى وترعرع في مختبرات أمريكية، بعد تسجيله كاكتشاف أمريكي، سنة 2015، وتورد بعض البحوث والدّراسات الأمريكية أن ترويج الأخبار عن قمع المسلمين “الإيغور”، يستهدف مقاطعة البضائع الصينية من قِبَل أكثر من مليار مسلم، بالإضافة إلى إظهار الجانب “الأخلاقي” لدفاع الولايات المتحدة (المَزْعُوم) عن المسلمين، رغم الحروب العديدة التي تستهدفهم في أفغانستان واليمن وليبيا وسوريا والعراق، وفي بلدان إفريقيا، وتهديدهم في إيران، وعلى سبيل المثال تبلغ قيمة المبادلات التجارية الأمريكية مع الدول العربية، نحو 245 مليار دولارا، سنة 2018، فيما تُقدَّرُ قيمة المبادلات الأمريكية، مع بلدان “المُسْلمين”، المُحيطة بالصين، نحو 45 مليار دولارا سنويا، مع إندونيسيا، وحوالي أربعين مليار دولارا مع ماليزيا، وحوالي 15 مليار دولارا، مع أفغانستان الواقعة تحت الإحتلال الأمريكي والأطلسي، وتأمل الولايات المتحدة زيادة قيمة هذه المبادلات، بفعل الحملة من أجل “احترام حقوق المسلمين في الصين” وبفعل عزل الصين بعد انتشار وباء “كورونا”، وخصّصت الولايات المتحدة، نحو ثلاثين مليون دولار، لتعزيز دَوْر مركز إعلامي مُخْتَصّ في نشر الدّعاية ضد الصّين، وطلب الرئيس “دونالد ترامب”، نفس المبلغ لنفس الغرض، ضمن مشروع ميزانية 2021 (من 1 تشرين الأول/اكتوبر 2020 إلى 30 أيلول/سبتمبر 2021)، ضمن الحرب التجارية، وهي حرب شاملة، تتجاوز الحرب الإقتصادية، إلى التهديد بالعُدْوان العسْكَري، ضد الصين وروسيا وإيران وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية وسوريا…
تتزامن هذه الحُروب الخارجية مع الهجوم على حُقُوق العُمّال والفُقراء، في الدّاخل، وتشير إحصاءات وزارة الصحة أنه تم الإبلاغ عن حوالي عشرة آلاف حالة وفاة جراء الإصابة بالأنفلونزا، في الولايات المتحدة (330 مليون نسمة)، بين الأول من تشرين الأول/اكتوبر 2019 و الثلاثين من كانون الثاني/يناير 2020، ومع ذلك يتضمّن مشروع ميزانية 2021 خفض الإنفاق على الصحة العامة بنسبة 10%، ولا تتجاوز ميزانية وزارة الصحة 94,5 مليار دولارا (بما في ذلك “الخدمات الإنسانية”)، في حين قاربت ميزانية وزارة الحرب المُعْلَنَة 740 مليار دولارا، (لا تتضمن الخدمات السرية والعمليات الخارجية الخاصة ولا تقاعد قُدماء المُحاربين، بقيمة 243 مليار دولارا)، تتضمن ما لا يقل عن 25 مليار دولارا، لتطوير الأسلحة الأشد فَتْكًا بالإنسان وبالمُحيط، وعَلّل الرئيس الأمريكي هذا التّوجّه ب “أولوية التمويل لبرامج حربنا ضد الصين وروسيا والخصوم الآخرين، دفاعًا عن المصالح الأمريكية بالخارج“، وتستفيد بعض الشركات الأمريكية للصناعات الحربية (مثل “مارتن لوكهيد”)، التي تُحقق أرباحًا ضخمة من البرامج الحربية العدوانية الأمريكية، ومن ميزانية برامج تطوير الأسلحة النّوَوِية (27 مليار دولارا)، ويصل إجمالي الإنفاق العسكري تريليون دولارا، سنة 2021، وهو مبلغ يزيد عن عشرة أَضْعاف الإنفاق العَسْكَرِي الرُّوسي، وعن أربعة أضْعاف ما تُنفقه الصين، وتجدر الإشارة أن روسيا والصين جَمّدَتا الإنفاق العسكري، لفترة ثلاثة عُقُود، فيما واصلت الولايات المتحدة توسيع حلف شمال الأطلسي، والإنفاق على الأسلحة المتطورة، وعلى الحروب العدوانية، وتَعَهّد الرؤساء الأمريكيون، من الحزب الديمقراطي (باراك أوباما) ومن الحزب الجمهوري (دونالد ترامب) ب”ضمان التّفَوُّق العسكري للولايات المتحدة في الجو والبحر والبَرّ، وفي الحرب الإلكترونية”.
في الوطن العربي، من مظاهر اللصوصية و”البَلْطَجَة” الأمريكية، يُصرّح الرئيس الأمريكي ووزراؤه للخارجية والحرب رَفْضَ الخروج من العراق، حتى لو طلبت منهم الحُكُومة (العَميلة) ذلك، مع التّهديد الصريح بإشعال فتيل حربٍ أهلية وتقسيم البلاد إلى ثلاث دُويْلات، وفي سوريا، التي تحتل القوات الأمريكية جزءًا من أراضيها، مباشرة، وكذلك عبر مليشيات العشائر الكُرْدِية، خصوصًا في منطقة “الجزيرة” السّورية، أعلن الرئيس الأمريكي، وأعضاء حُكومته، العمل على حرمان الدّولة السورية، والشعب السوري، من موارد النفط والغاز والحبوب، والمياه في الشمال الشرقي للبلاد، واحتلال مناطق حقول النفط والغاز، مباشرة، عبر شبكة من القواعد العسكرية، تنتشر، بين الحسكة ودير الزور، وعلى الحُدُود بين سوريا والعراق، بهدف إبقاء الحُدُود مُغْلَقَة، وبهدف مَنْعِ التّواصل بين البلَدَيْن والشّعْبَيْن، بالتوازي مع حَظْر أي حوار بين بعض قيادات مليشيات الأكراد والحكومة السورية…
في الخليج، لم تعُدْ الولايات المتحدة بحاجة لنفط الخليج، إذ أصبحت أمريكا تثصدّر النفط والغاز إلى آسيا، وإلى أوروبا، وتنافس الغاز الروسي، ولكنها تريد الإشراف على منابع المحروقات، وعلى الممرات التجارية، وعلى المناطق الإستراتيجية، بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، وفَرْضِ أَتاوات على دُويْلات الخليج، لتمويل القواعد والتّرسانة العسكرية الأمريكية.
هذه مُحاولة لمتابعة التغييرات في أوْلَوِيّات السياسات الأمريكية، لفهم مقاصد وأهداف المَواقف والقرارات الأمريكية، ليس لمجرد الفُضُول والإطّلاع، وإنما بهدف معرفة العدو، واختيار وسائل مُقاومته.
التعليقات مغلقة.