النخبة فی زمن الحرب والنُظم السلطویة / محمد سعد عبد اللطیف
محمد سعد عبد اللطیف* ( مصر ) – الخميس 20/2/2020 م …
أزمة المثقفين العرب أخطر ما إبتلینا بة فی زماننا ۔ ليست فقط أزمة علاقتهم بالسلطة السياسية والدينية، بل إنها في عمقها أزمة ضمير وأخلاق والتزام يولّد شقاءً أو ينتج جاهاً. فلا غرابة أن يكون المثقفين ، أهم أدوات الدفاع عن الحريات الأساسية للناس، وترميم المجتمعات التي أعطبتها الأنظمة البوليسية، أو أن يكونوا سلاحاً بالغ الخطورة بيد السلاطين، لتزييف وعي وواقع البشر وذاكرتهم وتاريخهم.نعني في حديثنا عن المثقفين فئة المتعلمين، لأن كل متعلم ليس بالضرورة مثقفاً، وإن كانت دائرة العلم والمعرفة هي التي يخرج من إطارها المثقفون طبعاً. فالمتعلم يقنع بزاده من المعارف والمعلومات والآراء، لكنها تبقى بين يديه حجارة مبعثرة، بيد أن المثقف هو الذي يحسن الإفادة منها، لأنه يتعامل معها ، أن المثقف إذا تخلى عن الاستماع إلى صوت ضميره وسوغ لنفسه أن يتخلى عن مسئوليته فى الجهر بكلمة الحق فإنه يخون رسالته ويفقد شرعيته.. و تنامى ظاهرة المثقفين الذين لجأوا إلى الإمساك بالعصى من الوسط، بحيث أصبحوا يضعون قدما فى جانب والقدم الثانية فى جانب آخر. ويطلقون جملة تحتمل التأويل ثم يفرون منها إلى ما يستبعد أى تأويل يفضى إلى الاشتباك ويخل بإطار الموالاة. حتى إن أحدهم دخل السجن لقضاء عقوبة إهانة احدی السلطات فی موقف سیاسي ۔ خرج ضیف فی برنامج ” توك شو ” یمدح فیه السلطة ۔ وهناك شخص أخر حين غاب عن المشهد بعض الوقت، فإنه برر غيابه بادعائه أن صمته بحد ذاته كان موقفا فيه رسالة أراد توجيهها إلى من يهمه الأمر.۔۔والبعض الآخر
وقفوا على الحياد وحرصوا على أن يقدموا أنفسهم باعتبارهم من دعاة المعارضة المستأنسة ،
فمنهم المثقف التقليدي أشبه بأجير العمل الوظيفي الثقافي، يكرر القيام بما يجيد فعله. وفيهم المثقف العضوي الذي إما أن يكون ملتصقاً بسلطة، أو مناهضاً يسعى للتغيير. وهناك بعض أشباه المثقفين الذين يتسمون بالانتهازية، فترى أحدهم قد انتحل شخصية المثقف ويتلوّن حسب مقتضيات المناسبة وشروط الولاء، ويتحول في كل مرحلة، يقوم بالتشكل حسب القالب كأنه مادة هلامية، يؤمن بأن لكل مقام مقال.و حديثنا عن المثقفين فلیس کل متعلم مثقف ، لأن كل متعلم ليس بالضرورة مثقفاً، ولکن کل مثقف متعلم وإن كانت دائرة العلم والمعرفة هي التي يخرج من إطارها المثقفون ۔۔
ففی عام 1979م خرج علینا بعض النُخب لشرح فواٸد توقیع معاهدة السلام (کامب دیفید ) والبعض أطلق علی السادات الرٸبس المٶمن ۔وبطل الحرب والسلام ۔ ففی رحلة السادات للقدس کان حریصا علی أن یرافقة فی الرحلة بعض المثقفین وکان منهم الکاتب ” یوسف السبیعي ” الذی لقي مصرعة نتیجة هذه الرحلة فی قبرص ۔فمنذ 6 قرون کان التتار علی مشارف مدینة دمشق ۔ وکان معروف عنهم القوة وحین یدخلوا ارضاً یجعلوا الأخضر یابسًا ۔۔ هنا تتجلي المواقف والمعرفة ۔۔
بين الغازى التترى “تيمور لنك ” وبين( ابن خلدون القاضى والمؤرخ وعالم الاجتماع ).. وما كان يمكن أن يترتب فى العصر الحالى بسبب قرار ابن خلدون ألا يدين تيمور لنك ويرفض مواجهته. عن زحف تيمور لنك باتجاه دمشق واجتماع الفقهاء فى المسجد “الأموى ” لبحث الأمر، فى حين كان ابن خلدون جالسا ينتظر فى بيت قاضى القضاة. دارت المناقشة بين الفقهاء حول ما إذا كان عليهم إصدار فتوى بوجوب الجهاد ضد تيمور لنك أم استرضاؤه. وانتهوا إلى ضرورة إعلان الجهاد، الأمر الذى ترتب عليه نشوب معركة قتل فيها كثيرون.
ابن خلدون الذى لم ير أن هؤلاء الفقهاء لا يمثلون النخبة ارتأى أنه لا جدوى من الجهاد ضد قوى جارفة مثل تيمور لنك. لذلك فإنه التقى الرجل وخرج من اللقاء ليدعو وجوه دمشق إلى الاستسلام. وبذلك فإنه فصل بين الموقف وبين المعرفة، واعتبر أن المعرفة أقوى وتدوم أجلا أطول. البعض اعتبر موقفة و تحفظه مسلكا اتسم بالحماقة، والانتهازية السياسية؛ لأنه رفض تحدى تيمور لنك بحجة معرفته المسبقة بنتائج المعركة وإدراكه لأطوار حياة الدول. وسأل البعض عن النتائج التى كان يمكن أن تحدث لو قرر العالم الكبير أن يتدخل، وربما غيَّر ذلك من وجه التاريخ. وفى رأى بعض المثقفین أن ابن خلدون لم يكن مهتما بالتغيير أو بالتطور، وإنما كان مهتما بنجاته ونظرياته التى توصل إليها حول حياة الدول.هل أخطأ ابن خلدون عندما حافظ على حياته وتحليلاته وأعطى تيمور لنك الأمان الذى طلبه منه ۔و إن توصيفات وتحليلات ابن خلدون عاشت أمدا أطول من الأفعال العاطفية والنضالية التى قام بها المجاهدون لإيقاف الزحف التترى، لكن ذلك يدعونا إلى إعادة النظر فى سلامة موقفه وصواب نصيحته، رغم أن التاريخ نسى الذين قاتلوا وماتوا، واعتبر ” المتقاعس “بطلا. لقد جسد هذا الموقف فی مسرحیة منذ سنوات فی القطر السوري تحت عنوان «منمنمات تاريخية» تطرح السؤال الكبير حول موقف المثقف من الظلم: هل يرفضه ويقاومه، أم أن عليه أن يحسب نتائج رفضه ومقاومته ويحدد موقفه فى ضوئها؟. وهو يسأل أيضا: هل أخطأ ابن خلدون عندما حافظ على حياته وتحليلاته وأعطى تيمور لنك الأمان الذى طلبه منه؟ وعقب على ذلك قائلا إن توصيفات وتحليلات ابن خلدون عاشت أمدا أطول من الأفعال العاطفية والنضالية التى قام بها المجاهدون لإيقاف الزحف التترى، لكن ذلك يدعونا إلى إعادة النظر فى سلامة موقفه وصواب نصيحته، رغم أن التاريخ نسى الذين قاتلوا وماتوا، واعتبر المتقاعس بطلا. وعلق الكاتب على ذلك قائلا: إن ترك الخيار لمشاهدى المسرحية لكى يقرروا بأنفسهم الشخصية التاريخية قد اتخذت القرار الصحيح أم لا. لكنه لم يدع مجالا للشك ليقول إن المعرفة تقتضى مسئولية على من يحملها. وعلى المثقفين أن يتدخلوا فى الشئون العامة لمقاومة المعتدين والطغاة . ومن يقف جانبا يعين الطاغى على طغيانه. بمعنى آخر فليس هناك حياد فى الثقافة. والمثقف حين يختار الحياد فإنه يخون رسالته.وقارن الکاتب المسرحي السوري أشرف / أن وزير الدفاع يوسف العظمة السورى حين خاض معركته ضد الفرنسيين فى معركة ( ميسلون عام 1920) كان يعلم أن جيشهم ثلاثة أضعاف رجاله وأنهم أفضل تسليحا، ومع ذلك فإن الرجل خاض المعركة بشرف واستشهد فيها. ورغم أنه فقد حياته إلا أنه سجل نقطة مضيئة وأحدث فرقا فى تاريخ بلاده. وأراد الکاتب ارسال رسالة لکل المثقفين العرب إلى أنهم لن يستطيعوا أن يحدثوا ذلك الفرق فى تاريخ بلادهم إلا إذا أعلنوا رفضهم الصريح للإستبداد وتخلوا عن حيادهم وانتهازيتهم.
وقد عقب علی هذا العمل الفني الأستاذ الکاتب الکبیر المصري / فهمی هویدي / فی مقال راٸع أن تعمم على كل المثقفين العرب. علما بأن أغلبهم حين حذوا حذو ابن خلدون فى موقفه، فإنهم لم يقدموا للناس شيئا من معارفه، لذلك ظل حرصهم على التمسح فى عتبات السلاطين مقدما على رغبتهم فى التغيير أو دخول التاريخ ـ . وقلیل منهم حین تمارس علیهم السلطة السياسية أو الدينية القمع والقهر وتحاصره وتزج به في السجن، يصاب بالإحباط والقنوط حين يلمس اللآمبالاة وعدم الأهتمام من الناس الذين كان يؤمن بهم، خاصة أنه يجاهد ويناضل لأجل مصالحهم ومستقبلهم، وقد يقضي السنين خلف القضبان لا يذكره أحد سوى في المناسبات الثورية، وحين يموت يخرج خلفه القلة ممن يعرفون القيمة الحقيقية لجهده وأفكاره ومواقفه، وإن كان محظوظاً يرثيه البعض في ذكرى غيابه ويتأسفون علی غیابة ۔۔
* کاتب مصري وباحث فی الجغرافیا السیاسیة
التعليقات مغلقة.