المفكر العربي السوري الدكتور بهجت سليمان يكتب: العقل النّظريّ .. و العقل العمليّ … رأيٌ في فكر “الأزمة” ، و في حلّها العمليّ

نتيجة بحث الصور عن بهجت سليمان

  د . بهجت سليمان* ( سورية ) – الجمعة 6/3/2020 م …




* مفكر وباحث عربي سوري .. السفير السوري الأسبق في الأردن

1▪ نشطت في واقع الحرب الكونية على سورية ، التي تسمى ” الأزمة ” السّوريّة العامّة التي نجمت عن الحرب و ظروفها المختلفة ، جملة من السّياقات الفكريّة و التّنظيريّة ، باتت محلّاً لتناقضات متعدّدة من الأهداف و الغايات. و ليس مجهولاً أبداً ما صار منه ثقافة عامّة في إدراك مآرب العقول المختلفة تلك التي انقسمت على طبائعها المتناقضة في تفاوتات جمّة ، حيث تراوحت بين من عمل على المشاركة الصّادقة في محفل الواقع الذي غدا مكاناً حقيقيّاً للمشكلات ، و بين من قام بتجارب متباينة في سبيل مجرّد المشاركة الإعلانيّة بالشّأن العامّ ، في طموحات من التّسابق من أجل الحصاد المقبل في مستقبل التّوقّعات في ما هو قادم من ظروف و أحوال عمليّة .. ودّ أصحابها ، هؤلاء ، لو يحصدوا المستقبل مثلما حصدوا الحاضر بواسطة تجارب و أنشطة و فعاليّات تناهى الكثير منها إلى ضوضاءات منفّرة.

     و لسنا هنا في صدد الحديث عن الاحتفاليّات الإعلانيّة و خطابات الشّعارات التي أشبعت حولنا الآفاق بالتّرتيل و الإعادة و التّكرارات الممجوجة في صيغة التّحليلات الطّائشة و التي تخرج عن كونها داخلة في ميزان النّقد و التّقويم ، مثل تلك الصّيغ مستحدثة القيم باجتهاداتها التّنكّريّة أمام تطوّرات الأحداث العسكريّة و السّياسيّة المحلّيّة و الدّوليّة المتراكبة و المتراكمة.

2▪ و الأمر الأنكى هو أنّ بعضاً من تلك “الاجتهادات” تصدر عن جهات و أشخاص “أكاديميّة” ، بينما يدفع إليها ، في رأينا ، الطّموح إلى الشّهرة السّياسيّة و الاقتصاديّة الكفيلة بتقدّم و تقديم أصحابها أنفسهم كمخلّصين نهائيين للمجتمع و الدّولة ، مع أنّ ما يُنغّص علينا هناءنا من أزمات لا تُحصى في سورية هو ليس وليد اليوم ، و لو أنّ الحرب و أزماتها قد كشفتها و عرّتها و أعلنت عنها بلا ستائر ، و إنّما هو ظاهرة اجتماعيّة و سياسيّة تاريخيّة في البلد ، كان أحرى أن تتنطّح لها “العقول” بمختلف مضامينها و طبائعها قبل هذا الوقت بكثير..

3▪ غير أنّ الوقوف على الطّبيعة العمليّة و الطّبيعة النّظريّة للفكرة الواحدة، و النّظر إلى طبيعة “العقل” الصّادرة عنه ، تقدّم لنا صورة مباشرة حول قيمة الفكرة ذاتها و تطوّراتها و ضروراتها في هذا المشهد الضّبابيّ الكثيف. و هذا ما يُبقينا ، كذلك ، في حدود الجدّ و الجدوى من الوقوف على أفق الحدث الوطنيّ الذي أصبح تراكميّاً في أسبابه و نتائجه إلى درجة مربكة أمام التّمييز و التّمايزات ، التي اتّسعت للمزيد من الأفكار التي صار يحفل بها كلّ ناد و كلّ اتّجاه و مكان.

4▪ ربّما يبدو في أوقات الأزمات التّاريخيّة ، السّياسيّة و الاجتماعيّة ، الحادّة ، كهذه التي تعترينا، في سورية، اليوم ، أنّ ما هو يُلحّ أكثر هو ذلك الجانب العمليّ للأفكار الصّادرة عن “عقل عمليّ” يتقدّم على “العقل النّظريّ” و يحتدم عليه ، متصدّراً مكانة العقل النظري في طوفان من المقترحات و المبايعات و التّسابقات الموحية بأنّها “حلول” مباشرة ، للمعضلات التي طرحتها ظروف الحياة في مثل هذا العصر العاصف بالمشكلات المتوالدة بإقبال و غزارة متنامية تستدعي العمل.

5▪ و ” يُنَظَّرُ ” لمثل هذه النّزعة متفاوتة الصّدق و البراءة بما يطرحه “العملانيّون” من أصحاب الميول الفكريّة الفلسفيّة المعاصرة بخاصّة ، من أنّ “الفلسفة” هي حاضنة الأفكار العمليّة الحاذقة البعيدة عن “المدارس” و إملاءاتها و متطلّباتها و فصولها و تقاليدها ” الباذخة ” . و يذهب هؤلاء “العملانيّون” إلى التّشيّع للبساطة العمليّة “الصّادقة” القادرة وحدها على حلّ مشكلات الحياة “حلّاً عمليّاً” مباشراً ، هو في ظروفه العنيفة لا يحتمل التّأجيل و لا التّبديل .

.    و يتعلّل هؤلاء بأنّ البحث غير المجدي عن “الحلول النّظريّة” ، و حتّى منها الفلسفيّة ، غالباً ما سوف يستدعي ردحاً آخر من الزّمن سوف يستغرقه ، مجدّداً ، تحويل التّصورات النّظريّة إلى واقع عمليّ يمكن ، في “الحكمة” ، اختصار الطّريق إليه عن طريق الولوج المباشر في “الحلول” العمليّة “المنهجيّة” المجرّبة قبل حينه بفوائد محقّقة و ثابتة و أكيدة.

6▪ عادة يجري الخلط في هذه الأمور التي هي ، و إن بدت بسيطة و واضحة ، محلّ خلاف كبير في تاريخ الأفكار و المناهج و الفلسفات و النّظريّات ، من جهة أنّ الإشكاليّات التي تطرحها إنّما هي إشكاليّات نظريّة محضة و ليست منقسمة على الأصول العمليّة و النّظريّة المتباينة ، و هو الأمر الذي لا يُدركه بعض “الأكاديميّين” المدرسيّين مكرّرين في ذلك أخطاء الجهلة من أصحاب المشاريع الحزبيّة و التّحزّبيّة التي أثبت التّاريخ عجزها و اندثارها في التّجارب الحضاريّة ، التي ما نزال ننهل من سقطاتها السّياسيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة ، منذ زمن بعيد ، و حتّى اليوم.

     فأن يكون الخلاف في مستوى “النّظريّة” الخالصة ، فهذا يعني أنّ جميع التّبعات العمليّة و العملانيّة إنّما تؤول في جذورها إلى مشكلات نظريّة في الأصل لم يتجاوزها “المنظّرون” أنفسهم ، فبقيت رواسب في قعر محاولات التّجارب التّاريخيّة التي قدّمت و تقدّم الأجوبة العمليّة السّطحيّة على المشكلات المُلحّة ، كبذور فشل استوحى أصحابها منها أنّ الأسرار الحاوية على علامات المشكلات و الإشكاليّات إنّما ترجع في الأصل إلى تناقضات بين النّظريّة و التّطبيق ، و من ثمّ بين إيحاءات “العقل العمليّ” و إيحاءات “العقل النّظريّ”، و حسب.

     و لأنّ الأمر أبعد من أن يكون خلافاً سطحيّاً أو جوهريّاً بين “العقل النّظريّ” و “العقل العمليّ” ، فهو في الحقيقة تلك المشكلة الأبديّة و المستمرّة و المتعلّقة ببنويّة المشكلة النّظريّة نفسها ، و في أصالتها ، و في قدرتها على طرح المشكلات و الإشكاليّات التي تؤرّق سياق اللحظة الحضاريّة و تجعل منها عبئاً على ذاتها و عبئاً على التّغيير و التّغيّر و الانتقال.

7▪ لا يستبعد كلّ من “العقل العمليّ” و “العقل النّظريّ” ، واحدُهما الآخر ، و لا يدخلان عادة في تناقض و خصام . ففي سياق انخلاق النّظريّة تتوضّع في مسارها الحلول العمليّة الّلازمة لتطبيقها بشرط أن تسير “النّظريّة” في مسارها الواجب الصّحيح.

     و من أهمّ ضرورات ذلك المسار أن تُحيط “النّظريّة” بظروف المشكلات و الإشكالات الواقعيّة التي تتيح توضّعها العمليّ في السّياق. إنّه عادة ما يُفصح نقص “الحلول” الواقعيّة للتّحدّيات عن نقص أساسيّ في جوهر “النّظريّة” أو عن عجزها التّوزيعيّ على مجمل الظّروف ، فيغدو نقصها مشكلة أوّليّة تظهر مثالبه في توالي تفاقم سلبيّتها البنيويّة في تطوّر المراحل المتعاقبة في بنائها بالذّات.

     و هكذا تُبدي “النّظريّة” مشكلتها أو مشكلاتها البنيويّة الأساسيّة في نقص “تنظيريّ” جذريّ و أوّليّ . و يُعتبر تكريس الفكر ، مرّة أخرى ، و من جديد ، هو الحل الوحيد لتماسّ “النّظريّة” مع العالم المحيط في غضون ما تُبديه “النّظريّة” من حاجة إلى إعادة النّظر في هيكليّتها و قدرتها على طرح الأسئلة المناسبة على واقع محدّد و تاريخيّ.

8▪ إنّ من العوائق الجوهريّة ، أيضاً ، في “النّظريّة” ، أن تضمحلّ “النّظريّة” في بنائيّة مهادنة للواقع المرفوض ، تحقيقاً لمقاربات انتهازيّة و ديماغوجيّة و خطابيّة مزيّفة أخرى ، تنحرف بها عن ضروراتها بوصفها تشخيصاً صادقاً و مخلصاً و منحازاً للتّطوّر و لمواقع القوى الإنسانيّة صاحبة المصلحة العامّة و العريضة في التّغيير.

هنا ، نحن لا نوحي أو نشير إلى أيّ تشابه بين “النّظريّة” العامّة للتّغيير التي نقترح إعادة التّذكير بها ، و بين أيّة صورة تاريخيّة من صور الأفكار “الثّوريّة” الخياليّة و الحزبيّة و التّحزّبيّة التي أثبت التّاريخ بطلانها في مجرى التّغييرات العامّة بعد أن أثبتت عقمها نظراً لرومانسيّتها الثّوريّة التّغييريّة ، أو نظراً لأسرار فيها جعلتها قاصرة في معرض تتبّع الطّبيعة الإنسانيّة الأكثر فطريّة و تلقائيّة في التّعبير عن مكامنها الأكثر أوّليّة و واقعيّة و تعبيريّة عن الحقائق الكبرى المتعلّقة بالإنسانيّة و الإنسان.

     إن كثيراً من النّظريّات التّاريخيّة المقترحة للتّغيير الاجتماعيّ و السّياسيّ قد أخفقت نتيجة لعجزها عن رسم المتطلّبات الأكثر تعبيراً عن حقيقة الإنسان في لعبة المصالح ، في ما بين القوى الاجتماعيّة و السّياسيّة المرشّحة للحكم و ممارسة القوّة و تلبية لها في آن واحد.

9▪ من الطّبيعيّ أنّ أردأ أنواع النّظريّات “العامّة” هي تلك التي يعتمدها بعض الماليّين و الاقتصاديّين و السّياسيّين و السّاسة الأكاديميّين ممّن يفصّلون المحفوظات المنشورة في كتب الآخرين على واقع هو غريب عن تلك النّظريّات و عن أصحابها.

     و فيما يتسابق بعض “المنظّرين” الأكاديميّين من أجل استعراض عضلات محفوظاتهم الدّراسيّة يكون قد فاتهم أوّلاً و أخيراً الواقع الذي يعيشون فيه و ينتمون إليه. إنّها قليلة هي تلك الأفكار التي تنطبق بتشابه و تطابق واحد على مختلف الأزمنة و الأمكنة و الجغرافيا و التّاريخ ، كما هي أقلّ تلك النّظريّات العابرة للشّعوب و الظّروف و بخاصّة في وقت الأزمات التي تميّز كلّ بلد أو جغرافيا أو تاريخ أو أثنوغرافيا وطنيّة و قوميّة و خصائصيّة واقعيّة ، تنفرد بها ظروف واقعيّة لا يمكن أن تتطابق مع ظروف أخرى و لا في حال من الأحوال.

     فما ينطبق “هنا” لا ينطبق “هناك” ، و ما يناسب واقعاً مشخّصاً و محدّداً لا يمكن له أن يناسب واقعاً آخر بالمرّة ، الّلهم باستثناء القليل من العموميّات المرتبطة بدرجة التّطوّر و خصائص هذا التّطوّر المختلف ما بين الشّعوب و الظّروف.

     و واضح أنّ الوصفات لا تتناسب مع العموميّات بقدر ما تتعلّق بالخصائص الظّرفيّة و التّاريخيّة و التّربويّة الخاصّة بواقع دون غيره في جغرافيا العالم و تاريخ شعوبه المتباينة في تحصيلها الوعي و القابليّات و الاستجابات ؛ و هذا بعد الأخذ بالاعتبار الإمكانيّات الظّرفيّة و الأخلاقيّات العامّة المتمايزة للأفراد و الشّعوب و السّاسة و المؤسّسات و أخلاقيّات الممارسات و العمل و تحصيل الثّروات و مراكمة الملكيّات و مراكمة الفقر و الحاجة و الاستهلاك و الادّخار.

10▪ إنّ القفز فوق “النّظريّة” ، هو إذاً قفز فوق الخصائص الظّرفيّة للقراءة الواقعيّة الدّقيقة و المعمّقة للمكان الاجتماعيّ و السّياسيّ و الإداريّ و المؤسّساتيّ ، و هو علاوة على ذلك تضحية بالعقل، النّظريّ منه و العمليّ ، بذريعة عزل الجانب النّظريّ عن الجانب العمليّ للعقل.

و عليه ، فإنّ المشكلة الأساسيّة في مواجهة تحدّيات عراقيل التّطوّر الاقتصاديّة و السّياسيّة و الأخلاقيّة ، تنطلق أساساً من المواجهة الجدّيّة للأمراض المسكوت عليها و التي تبلغ في الظّروف الاستثنائيّة درجة عالية من الخصوصيّة ، تستدعي معها إعادة النّظر بالجرأة النّظريّة الكفيلة بوضع الأشياء في أماكنها على هيكل اللغة و الخطاب الواقعيين ، من دون مراعاة حجوم كتل القوى الاجتماعيّة و السّياسيّة الحاكمة للّحظة و العابرة للزّمان و المكان.

     و هذا الأمر لا يتشخّص ، مرّة أخرى ، في عزل “العقلين” ، النّظريّ و العمليّ ، و في اختلاق الفوارق و الفجوات و الوصفات التي تباين بينهما ، بقدر ما أنّ الأمر يتعلّق بجرأة “النّظريّة” و وضعها اليد على الحقائق المسكوت عليها ، في بيئة صارت تهدّد “العقل” و “الفطرة” و “الذّوق” و “القيم” و “الأخلاق” و “السّلوك” و بقايا الممارسات المسؤولة و فيض الصّمت “النّظريّ”.. إلخ ..

     و واضح أنّ كلّ ذلك إنّما يتعلّق بالنّظريّة أوّلاً و قبل كلّ شيء من دون الشّطحات الانسحابيّة التي تتجاهل التّشخيص و التّوصيف و القراءة الواعية و المسؤولة ، و نهاية بوضع الحلول ، و مع ذلك فهي تطمح إلى أن تكون متفوّقة على مستوى الثّرثرة و مصادرة المستقبل الذي لن يأتي و لا يأتي كما تقول .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.