ما بعد جريمة “هاناو” / أحمد سليمان العمري

 

أحمد سليمان العمري ( السبت ) 7/3/2020 م …




بسم الله الرحمن الرحيم

مضى عام على المجزرة الدمويّة التي أقدم عليها النيوزلندي “برينتون تارانت” في مدينة “كرايستشرش” في نيوزلندا والتي راح ضحيتها 51 مصلياً مسلماً يوم الجمعة 15 مارس/آذار 2019م، في أسوأ حادث إرهابي لقتل جماعي بخلفية فاشية عنصرية، حتى فجُعنا مساء الأربعاء 19 فبراير/شباط في مدينة “هاناو” تبعد 30 كيلو متر شرقاً من فرانكفورت، بهجوم آخر على مقهى أرجيلة قُتل فيه خمسة شُبان تترواح أعمارهم بين 21 والـ 44 عام ومن ثم غادر القاتل المكان وبدم بارد دخل حانوت في الجوار فقتل أمّاً لطفلين وحامل وأجهز على أربعة آخرين معها.

هذه الأماكن المستهدفة يرتادها بالعادة عرب وأتراك وجنسيات عديدة أخرى. راح ضحية هذا العمل الإرهابي الفاشي 10 أشخاص بين أتراك وبلغار، روماني، بوسني وأفغاني، بالإضافة إلى والدة القاتل التي أجهز عليها ولدها المجرم “توبياس راتجن” البالغ من العمر 43 عام بعد تنفيذ العملية الإرهابية، ومن ثم قتل نفسه ليكون هو الحادي عشر ضحية إجرامه وكراهيته وتوّجهه الإرهابي اليميني المتطرّف المدمّر.

لم يمرّ أكثر من ثلاث أيام حتى تكرّر الهجوم يوم السبت 22 فبراير/شباط في جنوب ألمانيا في مدينة “شتُوتغَارت” على مقهى أرجيلة مماثل كالذي في “هاناو”، غير أنّ الهجوم لم يخلّف وراءه أضرار بشرية لعدم وجود أحد لحظة إطلاق النار على المبنى. كذلك الاثنين 24 فبراير/شباط في مدينة “فولكمارسن” دخل سائق سيارة “ماوريس ب” الألماني الأصل، البالغ من العمر 29 عام وبسرعة فائقة بشكل متعمّد أثناء عرض الكرنفال ليدهس حشود كبيرة من الناس بين أطفال ونساء وعجزة وشبان، لتصل الإصابات إلى مائة وقد تزيد، وكثيرها بالغة الخطورة حسب صحيفة “ميركور” الألمانية في 03 مارس/أذار.

لا تشير التحقيقات لغاية الآن إلى أي خلفية معينة، لكنّ المحقّقون يلوّحون إلى مرض نفسي كالعادة، إلّا أنّ ذات الصحيفة أجرت مقابلات مع جيرانه، أحدهم إمرأة مسنّة، قالت أنّه تحدث إليها أكثر من مرة عن وجوده في الصحف في الأيام المقبلة.

في مرحلة ما بعد التحقيق بيوم أو بضعة أيام أو علّها تمتد حيناً إلى ما بعد حديث العامّة عن هذه الحادثة البشعة مروراً بوقفات احتجاجية مندّدة للحزب النازي والتي بلغت حيناً في “ماربورغ” مثلاً وحدها 4500 شخص ضد الكراهية وفي مدينة الواقعة “هاناو” لم يختلف الحال كثيراً عن “ماربورغ” من حيث العدد والغضب ورفع رايات رافضة لليمين في مجتمع ديمقراطي.

في هذه الأثناء قد يكون المحقّقون أجابوا على كثير الأسئلة التي يتداولها العامّة والمهتمون بقضايا الحريّات والحقوقيّات.

فمثلاً السؤال الذي طرحه “هانز جيورج ماسن” السياسي الألماني المخضّرم والرئيس السابق للمكتب الإتحادي لحماية الدستور، عبر موقعة في تويتر وهو: “إذا توجه قاتل “هاناو” إلى المسؤولين الحكوميين برسائل تشير إلى اضطراب نفسي، أتساءل لماذا لم تخبر أي من هذه السلطات الجهات المعنية كسجلّ الأسلحة الوطني؟” ولقد أتى تساؤل الآخر بعد تصريح المدّعي العام “بيتر فرانك” أنّ مكتب المدّعي الفيدرالي كان قد تلّقى اتصال بالفعل من القاتل في نوفمر/شباط الماضي على شكل شكوى وتحذير ضد منظمة كبيبرة خطيرة سريّة غير معروفة تحاول التأثير على أراء الناس وتوظيفها من أجل السيطرة.

سؤال “ماسن” مبرّر وهو ذاته الذي يتساءله الشارع في ألمانيا، لماذا كان يقتني “توبياس” أسلحة؟ ولمَاذا لم تتفاعل السلطات مع هذه الشكوى في الوقت المناسب؟

لقد أرجأ رئيس مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية “هولجر مونش” سبب الوقعة عنصرية الخلفية حسب التقييمات الأولية إلى مرض نفسي مزمن ونفى ما دون ذلك، في الوقت ذاته صرّح وزير الداخلية “هورست سيهوفر” أنّ مسؤولية مرتكب الجريمة لا يمكن إرجاؤها إلى اختلال عقلي، لا بل خلفية عنصرية واضحة لا جدال فيها.

المثير للجدل والاستفزاز في آن هي التصريحات التحقيقية في محاولة لنفي النزعة الفاشية عن المجرم وإلباسه رداء المرض، كما هي كثير الحالات الإجرامية التي يرتكبها قتلة يمثّلون أحزاب عنصرية أو توجّهات عرقية، وإستثناء حقائق كإنهائة الدراسة الجامعية في إدارة الأعمال، وأخرى أكّدها الناطق الرسمي لمقاطعة “ماين كينزيغ كرايز” “جون مويز” حول إنتساب الجاني كرامي رصاص حي هاوي في مدينة في ذات المقاطعة وعضويته أيضاً في نادي الرماية في مدينة “بيرغن إنكهايم”، كما وأكّد الناطق حصول المجرم على رخصة سلاح قبل بضعة أعوام، والتي تم تسجيل ثلاثة أسلحة عليها ذات رمي سريع وتسلّمه إياها.

كما ونشر “راتجن” بياناً من خلال رسالة فيديو بصوته، والتي احتفظت بها الشرطة وأغلقت رصيده على الإنترنت، ولقد تضمّنت عبارات يقدّم نفسه كبطل وإشارة إلى غزو جديد، وهي دلالات تدلّ على قناعات عنصرية متأصّلة ونظريات المؤامرة التي قدّمها في العام الماضي للسلطات الألمانية، وهي التي أهملتها الجهات المسؤولة، وهذا يعني بالضرورة شراكة تلك الجهات في هذه الجريمة حتى لو بشكل غير صريح أو دون خلفية إجرامية أو دون قصد، فالإهمال المؤسّسي بحدّ ذاته جريمة يجب أن لا يستثنيها القانون مع عقوبة الجاني بشكل عام.

لا محال أنّ جانباً كبيراً من الرسالة التي وجّهها القاتل لأقرانه الذين يشاركونه الأراء العنصرية من خلال الفيديو هي إحساسه بتزايد الأشخاص الذين يؤمنون بالنظرية العنصرية والتي خلت من الشك كونها رسالة موّجهة لهم، وعلّه الآن يتصدّر قائمة الشرف لأبطال القضية الوطنية في الحزب الفاشي.

بعد الهجوم الغاشم على الأبرياء في “هاناو” بدأت المطالبة من سياسيّ الإتحاد والحزب الديمقراطي الاشتراكي بضرورة مراقبة الحزب اليميني المتطرّف من قبل مكتب حماية الدستور، ومطالبة أخرى من الأمين العام للحزب الديمقراطي الاشتراكي “لارس كلينغبايل” بسحب ميزة “الموظف المدني” من أمين حزب اليمين المتطرّف “بيورن هوك”.

حسب مؤسسة “كانتار” وهي واحدة من المؤسّسات الرائدة في العالم بأكثر من 100 دولة تعمل في علوم البيانات والأفكار والاستشارات فإنّ 60 بالمائة من الألمان يعتقدون أنّ حزب اليمين المتطرّف يساهم في المسؤولية عن العنف الذي يقف وراءه متطرّفين ألمان، بالإضافة إلى مطالبة رجال أعمال كمدير شركة “الراين اير” الإيرلندية “مايكل كيفن أوليري” في مقابلة للصحيفة البريطانية “ذا تايمز” دعا فيها لمزيد من التفتيشات الصارمة على الرجال المسلمين في المطارات، حيث قال: “الإرهابيون هم المسلمون، لأنّ هذا في العقيدة الإسلامية عامّة”.

مثل هذه التصريحات من رجال أعمال عالميين لها كلّ الأثر في تهييج النعرات الفاشية تحديداً ضد المسلمين، كما صرّح الآخر وكثير قبله وبعده.

الأمر الملفت للنظر أنّ الحزب النازي في الفترات الأخيرة أصبح البديل لإخفاق كثير الأحزاب الألمانية، والدليل ما جرى في 5 فبراير/شباط عندما نجح “توماس كيميرش” في انتخابات رئاسة الوزراء في ولاية “تورينغن” بدعم من حزب اليمين النازي، ممّا أثار سخط العامّة في جميع أرجاء ألمانيا ليجبره الشارع بذات الوسيلة على تقديم استقالته، وهذا ما فعله فعلاً في اليوم التالي.

وجزئية أخرى لا بدّ من طرحها حول والد القاتل الذي أُدخل مصحّة نفسية بعدما نفّذ ولده الجريمة البشعة. فحسب الصحيفة الألمانية “بيلد” فإنّ والده كان يعلم بتحركاته وعن نيته الهجوم على المقهى، وهذا ما قدّمته بعض التحقيقات كما أوردت الصحيفة.

هل أصبح المرض النفسي هو اللباس الرحراح للقتلة والمجرمين؟ أم أنّه المنفس القانوني لممارسة الإرهاب ضد العزّل والأبرياء بذريعة الإضطرابات النفسية؟

الحقيقة هي أنّ الشارع الألماني منقسم بين حزب فاشي استطاع أنّ يثبت نفسه من خلال غطاء سياسي، وآخر بمجموعة أحزاب كثيرها لا يخاطب المزاج الألماني من حيث القرارت الداخلية والسياسة الخارجية التي يعاني آثارها الآن المواطن البسيط وأهمّها قضية اللاجئين السوريين.

فهل إخفاق العمل السياسي الحزبي ساهم في عِداء المسلمين وغير الألمان بشكل عام؟ أمّ أنّ الموروث المجتمعي الذي يرفض غير الألماني التخلّي عنه من عادات وتقاليد لا تنسجم مع التراث الغربي هو ما يؤرّق الألماني، فلا يجد بعضهم بُدّاً من محاربته بطريقة وحشية أو بطريقة رفض أخرى.

وهل يُعذر الألماني من الطفرة الكبيرة الذي يصوّرها البعض بـ “المستفزّة” من حجم غير أبناء البلد في المؤسّسات وجميع القطاعات والشارع بشكل عام؟ أمّ أنّ قادة الحروب هم من غذّى بشكل غير مُبَاشر هذه النزعات في كثير المجتمعات جرّاء نزوح من هنا وبطالة من هناك، وبين هذا وذاك نقف نحن المهاجرين بوجوه سمراء عربية عُراة وبعضنا بأرواح غربية، غرّبونا العرب ورفض جلّنا الغرب.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.